كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة والنصف صباحاً بتوقيت الجزائر، الشمس ترمي بأشعتها على وهران، جاء الرواي الجزائري ماحي صديق في الموعد المحدد بدقة إلى الحي الشعبي العتيق "حي الدرب"، الذي يمزج بين العمران الإسباني والعثماني، ويجمع تاريخ وهران وماضيها كله.
جالت في خاطري مشاعر جميلة، وأنا أعود بأفكاري لحكايات جدي وجدتي عن "القوّال" أو "المداح"، حاولت أن أرسم له صورة في مخيلتي لكنني لم أفلح، فكل ما أعرفه عنه هو أنه ذلك الرجل، الذي يفتش بين ثنايا الماضي، ويسرد قصصاً في الأزقة والشوارع والمقاهي ووسط الأحياء.
هذه هي المرة الأولى التي أحضر فيها عرضاً مسرحياً في فضاء مفتوح، أقيم على هامش النسخة التاسعة عشرة للألعاب المتوسطية (25 يوليو/ تموز- 5 يونيو/ حزيران)، بحضور شخصيات رفيعة المستوى، يتقدمها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، وأمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، ونائب الرئيس التركي أقطاي فؤاد.
الجميع يصغي باهتمام بالغ لقصصه وحكاياته عن وهران.
بمجرد أن اعتدل "ماحي" في جلسته، وبدأ في إخراج ما في جعبته، حتى عمَ الصمت المكان، فالجميع يصغي باهتمام بالغ لقصصه وحكاياته عن وهران "عروس المتوسط".
كان يهز رأسه ويديه بين الحين والآخر، يتلفت يميناً وشمالاً، ويتلاعب بالصوت فيرفعه تارة ويخفضه تارة أخرى، يظهر أحيانًا خشنًا، وناعماً مصحوباً بأصوات تنفسٍ مسموعة، ومجموعة من التنهيدات في أحيان أخرى، مستعملاً حركات وإيماءات جسدية دفعت الجمهور إلى المشاركة في القصة، والتفاعل معها بشكل كبير.
العمل الذي قدمه القوال ماحي صديق تحت عنوان "يوكان تحكيلي على وهران" (احكيلي على وهران) من تأليفه الشخصي، يتفرع إلى حكايات تتضمن مزيجاً بين الواقعية والخيال، فسرد بأسلوب التشويق والتثقيف تاريخ هذه المدينة القديمة، التي يعود تأسيسها إلى الأندلسيين في القرن العاشر الميلاد.
سيدي الهواري
صال ماحي وجال بنا عبر حكاياته التي اقتبسها من مرحلة طفولته، عبر أزقة "الباهية" وهران انطلاقاً من "سيدي الهواري" (اشتق اسمه من القطب الصوفي الجزائري، محمد بن عمر الهواري "1350_1439") يقع وسط المدينة.
البهجة والسرور لم تفارق حي "الدرب" الشعبي الذي يروي قصة تعايش بين مسلمي ويهود مدينة وهران الجزائرية خلال فترة الاحتلال الفرنسية (1830-1962)، المشهور بسلالمه الحجرية، التي عانت الإهمال رغم أنها شاهدة على تاريخ المدنية.
شعرت بالضياع وأنا أسمع وأرى تلك الحكايات، وأحسست كأن الجيل الذي أنتمي إليه، الثمانينيات والتسعينيات، هو الجيل الضائع بين أغاني "سلوكينغ" (الشاب الجزائري، الذي هاجر وطنه الأم وبلدته الصغيرة الواقعة بـ "سطاولي" إلى مارسيليا) وجليل باليرمو، وموح ميلانو، وغيرهم.
قدم "القوال" أمين ميسوم عرضاً تفاعلياً للجمهور، مقتبساً من قصص "كليلة ودمنة" لابن المقفع "الأسد والجمل"، باللغة "الدارجة" أو اللغة المحلية لتقريب الفهم للجمهور.
وظهر ميسوم بالزي الجزائري التقليدي، والمؤلف من قميص فضفاض مطرز باللون الأصفر، ويضع فوق رأسه قطعة قماش تعرف بـ "الشاش" الذي يلف على رأس الرجل في العديد من محافظات البلاد، على غرار محافظة غرداية (شمالي صحراء الجزائر على بعد 600 كلم جنوب العاصمة)، وبيده آلة البندير، وهي عبارة عن آلة إيقاعية مستديرة الشكل، مصنوعة من الخشب الخفيف، ومغطاة بجلد الماعز، فصوت هذه الآلة كان يدوي ويطن ويتسلل عبر أزقة الحي التي كان يتحاشى المواطنون استعمالها لسنوات طويلة.
"أن تكون جالساً بمقهى أو ماشياً في شارع حتى يفاجئك شخص أو أشخاص بكلام غير مألوف أو حركة غريبة، يستدرجك إليه لتتابع ما سيقوم به أو يقدمه"
وفي ساحة 1 نوفمبر/ تشرين الثاني أو الملقبة بـ "بلاص دارم" قلب المدينة النابض وعصب الحياة فيها، اجتمع مجموعة من الشابات والشبان في فضاء مفتوح، بعيداً عن خشبة المسرح، والمناخ الضوئي، والديكورات، ليقدموا عملاً مميزاً وسط فضاءات المدينة الرحبة، ينتمي إلى نوع الكوميديا، مقتبس من مسرحية "عطيل" للكاتب الإنجليزي وليام شكسبير، العمل تحت إشراف المسرح الجهوي عبد القادر علولة ومن إعداد وإخراج سمير بوعناني، وتمثيل مجموعة من الشباب الهواة العاشقين للفن.
وتخللت المسرحية التي امتدت لقرابة 25 دقيقة من الزمن لوحات استعراضية بألبسة تجريدية، وجمل حوارية باللهجة الوهرانية (لهجة الغرب المتحدثة في مدينة وهران أو الغرب الجزائري بأكمله)، وأغاني مستمدة من التراث الموسيقي الضخم الذي تزخر به المدينة.
ورغم أن المسرحية قُدمت في فضاء مفتوح، فإن أبطال المسرحية أدوا حركة عفوية ممتازة من حيث الحركات الجسمية والإشارات والانفعالات والصوت.
في هذا المكان الذي تأسست على يد "الأندلسيين"، وتساكن فيه المسلمون واليهود… شعرت بالضياع وأنا أشاهد عرض "احكي لي على وهران"
يقول عماد براهمي المعروف محلياً بـ "النوقا"، الذي جسد دور الجندي الذي ينتمي لجيش عطيل، "إن الهدف الرئيسي من إخراج العروض من مبنى المسرح الجهوي الذي يحمل اسم عبد القادر علولة (1939_1994) إلى الفضاءات الرحبة، هو نشر ثقافة المسرح في المجتمع الجزائري، وإعادة توظيف القوال والحلقة في المسرح".
"الغرض من تنظيم هذه التظاهرة هو استقطاب الجمهور، وإعادة هذا الفن إلى مكانته الطبيعية، باعتباره فناً شعبياً، يحاكي هموم الناس، ويجسد الواقع الذي يعيشه الآلاف من الجزائريين، كما أن العروض التفاعلية التي تقام في الأزقة والساحات لا تتطلب إمكانيات مالية كبيرة، مقارنة بتلك التي تعرض داخل القاعات، فهي تقدم مجاناً"، يقول عماد.
اختيرت الساحات والأماكن، وفقاً لعماد، باهتمام كبير من طرف الهيئة المنظمة، إذ استهدفت الأحياء الشعبية والمعالم التاريخية مثل بلدة "السانية" (تقع في الجنوب الغربي لوهران) وبلدة "بوفاطيس".
يضيف عماد في حديثه لنا: "ويكمن الهدف من التوغل في هذه المناطق استقطاب الجمهور العازف عن مشاهدة العروض المسرحية، وهو ما حققناه فبمجرد انطلاق العرض حتى تمتلئ الساحة عن آخرها بالمشاهدين من مختلف الأعمار والأجناس".
الشارع كان البداية
تساءلت وأنا في خضم دهشتي وافتتاني بالعروض: كيف يشعر صانعوا هذا الحدث؟
"المفاجأة، ذلك هو الجميل في مسرح الشارع، فإما أن تكون جالساً بمقهى أو ماشياً في شارع حتى يفاجئك شخص أو أشخاص بكلام غير مألوف أو حركة غريبة، يستدرجك إليه لتتابع ما سيقوم به أو يقدمه"، يقول المخرج وكاتب السيناريو الجزائري هشام بو سهلة، وهو حاصر على جوائز في مهرجانات عالمية حول أعماله في نوع المونودراما.
ويرى بو سهلة أن خروج المسرح إلى الناس تمثل "بداية هذا الفن، على غرار الراوي، والحلقة، وألعاب الخفةّ".
" وبدأ مسرح الشارع في الجزائر يتكون بالحلقة التي كانت أول الطريق، وفيها يخرج الفنان لتقديم ما في جعبته، وقد تطور لدرجة صار مكسباً هاماً، للفن والاقتصاد والسياحة".
وتزخر الجزائر بالعديد من التجارب رغم أنها متقطعة، بحسب بو سهلة، وأبرزها مسرح "التاج" وتجربته في "حكاية جحا" قبل أكثر من 20 سنة، واليوم نرى مسرح "الديك" وتجربته في عرض القافلة، وأيضاً نجد مسرحية الحراز، التي عرضت في مايو/ أيار 2018.
وأنا أحدث بو سهلة اندهشت لتناقض المشاعري بيني وبينه، ففي الوقت الذي شعرت فيه بدوار الضياع وأنا أتنقل بين الحكايات والقصص، أحس هو باستقرار المقيم في وطنه ومنزله الأم.
ينهي بو سهلة حديثه لنا، قائلاً: "تبقى هذه التظاهرات محتشمة رغم الحاجة الماسة لهذا النوع من الفنون، والدليل ما قدمه مسرح الشارع طيلة أسبوع لمدينة وهران، تزامناً مع ألعاب البحر الأبيض المتوسط".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 14 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 20 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com