شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
ماذا تعني الأناقة في المظهر وفي الحديث؟… صورة جعفر بن يحيى

ماذا تعني الأناقة في المظهر وفي الحديث؟… صورة جعفر بن يحيى

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الثلاثاء 29 أغسطس 202312:14 م

تألّق النثر العربي في العصر العباسي تألقاً باهراً، تجاوز فيه العصور السّابقة، وكان أدب الرسائل فيه بمثابة درّة التّاج النثري، وقد تمكن من مضاهاة الشعر وبلوغ مرتبته نفسها في صدور العرب. وبرز في هذا المجال الكثير من العلماء، منهم على سبيل المثال لا الحصر، ابن المقفّع، وسهل بن هارون، والجاحظ، ويحيى بن خالد البرمكي، وابنه جعفر، والثلاثة كانوا وزراء، لكن جعفر أقلّهم حظاً في الحديث عن موهبته الأدبية السّاطعة في هذا المجال بين الكُتاب في عصرنا الحديث.

لهذا نحاول في هذا المقال التركيزَ على قدرته الأدبية وإبداعه في النثر وأدب الرّسائل على وجه الخصوص، دون التطرق إلى طموحاته السّياسية التي كانت وبالاً عليه في ما بعد، إذ لقي مصرعه وهو في السابعة والثلاثين من عمره، ومكث وزيراً سبع عشرة سنةً.

النثر يجاور الشّعر في العصر العباسي

اعتنى أصحاب الدواوين في الخلافة العباسية بالكتابة أيّما اعتناء، وجعلوا نصب أعينهم التصنيع في الكتابة وهو استخدام السجع والبديع، وهذا الاهتمام دفعهم للتنافس في الكتابة والتسابق في استخدام التصنيع، فقد كانت الرسائل من أصحاب الدواوين (المراسلات الحكومية في عصرنا الحالي)، مرقّشةً بالبلاغة ومزخرفةً بالفصاحة ومزينةً بأحسن الألفاظ وأجمل التعابير، وخير آية على ذلك قول الجاحظ فيهم في الجزء الأول من كتابه "البيان والتبيين": "أمّا أنا فلم أرَ قط أمثلَ طريقةً في البلاغة من الكتاب، فإنّهم قد التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعراً وحشيّاً ولا ساقطاً سوقيّاً".

تألّق النثر العربي في العصر العباسي تألقاً باهراً، تجاوز فيه العصور السّابقة، وكان أدب الرسائل فيه بمثابة درّة التّاج النثري، وبرز في هذا المجال الكثير من العلماء، منهم جعفر بن يحيى

هذا التقدم اللغوي في عمل الدواوين كان يسانده كف البرامكة النديّ وقربهم من العلماء وتشجيعهم للثقافة والعلم والجوائز التي كانوا يصلون بها الشعراء وغيرهم.

كما تتحدث الكثير من الكتب التاريخية عن الكفاءة العلمية والأدبية العالية التي امتلكها يحيى بن خالد البرمكي، وزير هارون الرشيد، وابنه جعفر، وقد تحدث الكثير من الأدباء عن بحر علمهما الواسع وأطنبوا في ذلك، إلا أن هذا الإطناب الذي كان سمة الحديث عن/مع الوزراء والخلفاء للتزلف إليهم والأمل في قربهم وحضور مجالسهم، لا ينتقص من قامتهم الأدبية والعلمية السّامقة في أرض الثقافة العربية، والتي كانت سجيةً ملازمةً وخصلةً حميدةً في الخلفاء والوزراء حينذاك.

كان مجلس يحيى بن خالد، مثوى للعلماء والفصحاء والشعراء والأدباء، انعقدت فيه المناظرة الزنبورية الشهيرة بين سيبويه والكسائي، والتي كانت سبباً في وفاة إمام النحاة سيبويه، إذ مات مغتمّاً في ريعان شبابه وعمره 32 سنةً فقط. وقد كثُر ذكر يحيى وابنه جعفر في العديد من الكتب التاريخية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، نذكر أن أبا أحمد الحسن العسكري (ت 385 هـ)، خصص له باب كلام عنونه بـ"ومن كلام يحيى بن خالد" في كتابه "المصون في الأدب"، ومن لطيف ما أورده أنّ يحيى نصح أولاده ذات مرة فقال لهم قولاً بليغاً: "اكتبوا أحسن ما تسمعون، واحفظوا أحسن ما تكتبون، وتحدثوا بأحسن ما تحفظون". وكذلك الخليفة والشاعر العباسي عبد الله بن المعتز (ت 296 هـ)، في كتابه "طبقات الشّعراء"، حيث تحدث في أكثر من موضع عن البرامكة وضمّن كتابه الكثير من الأشعار التي تمتدحهم، ومنها قصيدة لابن مناذر يقول فيها:

أتانا بنو الأملاك من آل برمكِ/فيا طيب أخبار وحسن منظر

لهم رحلةٌ في كلّ عام إلى العدا/وأخرى إلى البيت العتيق المستّر

إذا نزلوا بطحاء مكة أشرقتْ/بيحيى وبالفضلِ بن يحيى وجعفر

كما ذكرهم أيضاً الأصفهاني في كتابه "الأغاني" والجاحظ في "البيان والتبيين"، وورد ذكرهم أيضاً في كتاب "عيون الأخبار " لابن قتيبة، وذكرهم الجهيشاري (ت 331 هـ)، في كتابه "الوزراء والكتّاب"، ويورد فيه أيضاً حوادث وأشعاراً بآل برمك، لعل أشهرها ما قالته الجارية عنان في جعفر بن يحيى:

بديهته وفكرته سواء/إذا التبست على الناس الأمورُ

إضافة إلى ما تقدم يذكر جعفرَ كلٌّ من ابن خلكان (ت 681 هـ)، في كتابه "وفيات الأعيان"، وابن رشيق (ت 456 هـ أو 463 هـ)، في كتابه "العمدة"، وابن كثير (ت 774 هـ)، في الجزء العاشر من كتابه "البداية والنهاية"، حيث يصفه بأنه كان كريماً فصيحاً، ذا رأي سديد، يظهر من أموره خير وصلاح، ويتحدث عن مناقبه وفضائله وعطاياه للعلماء والشعراء. ومن الواضح أن كثرة تطرق الكتّاب والشعراء والعلماء إليه تدلل بشدة على أهمية البرامكة الأدبية والعلمية وما أظهروه من دعم سخي للعلماء والأدباء وأمثالهم، وهذا أمر لا يحتاج إلى استنتاج.

جعفر الأديب الأريب

يروي الجاحظ في الجزء الأول من "البيان والتبيين" حواراً بين ثمامة بن الأشرس وجعفر، يقول فيه: "قلتُ لجعفر بن يحيى: ما البيان؟ قال: أن يكون القول يحيط بمعناك، ويخبر عن مغزاك، وتخرجه من الشركة، ولا تستعين عليه بالكثرة، والذي لا بد منه أن يكون سليماً من التكلّف، بعيداً من الصنعة، بريئاً من التعقيد، غنياً عن التأويل". كما يذكر ابن كثير في "البداية والنهاية"، أن جعفر وقّع ليلةً بحضرة الرشيد ما يزيد عن ألف توقيع، ولم يخرج في شيء منها عن موجب الفقه، وقد روى الحديث النبوي الشريف عن أبيه عن عبد الحميد الكاتب، عن عبد الملك بن مروان كاتب عثمان بن زيد بن ثابت كاتب الوحي.

ويصف ابن كثير جعفر بأنه كان فصيحاً بليغاً وصاحب ذكاء وكرم زائد.

ويقول الجهيشاري في كتابه "الوزراء والكتّاب": "كان جعفر بليغاً كاتباً، وكان إذا وقّع، نُسخت توقيعاته وتدورست بلاغاته". وقد عرّف عنه أنه كان يهتم كثيراً بمظهره وأناقته وأقواله، وأنه كان ينتقي كلماته كما ينتقي الرجل أطيب الثمر، فهناك اتصال بيّن بين مظهره وأناقته الخارجية وأناقة لغته وحسن كلماته. وكانت هذه العناية باللباس والزينة الظاهرة للعيان مرآةً لبديع لغة ورونق بيان صاحبها.

من الشائع عن جعفر بن يحيى أنه كان يلتزم السجع في كتابته ومراسلاته، وهنا تظهر الدقة في العمل مع الاحتفاء باللغة والسعي الدؤوب إلى البلاغة وإيصال المعنى دون سقوط في الألفاظ

ومن الشائع أيضاً عن جعفر بن يحيى أنه كان يلتزم السجع في كتابته ومراسلاته، وهنا تظهر الدقة في العمل مع الاحتفاء باللغة والسعي الدؤوب إلى البلاغة وإيصال المعنى دون سقوط في الألفاظ أو تضخيم للصفات والصلاحيات. يذكر ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان"، كتاباً من جعفر بن يحيى إلى أحد عمّاله، يقول فيه جعفر: "قد كثر شاكوك وقلّ شاكروك، فإما اعتدلت وإما اعتزلت".

بالروعة والبيان وتدفق اللغة ورنين الموسيقى الداخلية والخارجية في هذه الرسالة البليغة، هل هناك بلاغة أعلى من هذه البلاغة؟ وهل هناك إيجاز أكثر اختصاراً من هذا الإيجاز؟

لو أمعنّا النظر في رسالة جعفر، لبلغنا إلى إدراك مستوى ثقافته وطريقة مخاطبته لمن حوله من عمّال ولرجعنا بنتيجة مفادها أن جعفر يجيد الوصف ويحسن الرصف، فهو يتبختر بكل رزانة وثقة نفس بين لفظ رشيق ومعنى عميق.

وفي الختام، تجدر بنا الإشارة إلى أن الثقافة العربية أثّرت وتأثرت بالفارسية، فأخذت منها ترجمات ابن المقفع كـ"الأدب الصغير" و"الأدب الكبير" و"كليلة ودمنة"، وفي المقابل برع الكثير من الفرس في الثقافة العربيةو وكانت لهم بصمتهم الخاصةو وبالأخص في النثر. ومن ناحية أخرى تطورت الثقافة الفارسية بفعل اتصالها بالثقافة العربية، وللضرورة يجب التنويه بأن ما حصل بين الثقافتين من تبادل وتفاعل في القرنين الثاني والثالث الهجريين، لا يقلل من رسوخ جذور الثقافة العربية وتقدّم فن النثر العربي الحاضر بقوة منذ العصر الجاهلي، وما كان من أبرز سماته من أمثال جاهلية وخطابة وسجع كهان.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image