لا تزال الساعة الخامسة من مساء اليوم الحادي والعشرين من حزيران/ يونيو 2022، تشكل علامةً فارقةً في حياة عائلة حرب التي تعيش في بلدة اسكاكا شرق محافظة سلفيت شمال الضفة الغربية، عقب استشهاد نجلها علي؛ إثر طعنة بالسكين من قبل أحد المستوطنين، خلال تصدّي الفلسطينيين لهجوم المستوطنين على البلدة.
"ورد اتصال من أحد رعاة الأغنام، إلى أحد أفراد عائلة حرب، يفيد بأن مجموعةً من المستوطنين تحاول بناء 'بركس أغنام' في الأرض التي تقع في منطقة الجبل والقريبة من إحدى المستوطنات، فذهبنا وتصدينا لهم، وطردناهم من الأرض، ثم عادوا برفقة جنود الاحتلال. بدوا وقتها وكأنهم أخذوا التعليمات بالهجوم كونهم أصبحوا في حماية الجيش"، يقول نعيم حرب، عمّ الشهيد علي حرب.
ويضيف: "باغتنا أحد المستوطنين وطعن الشهيد علي (27 عاماً)، طعنةً في القلب مباشرةً، ومنعونا من تقديم الإسعاف له، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، وهو يدافع عن أرضه وأرض أجداده".
حادثة الشهيد علي حرب لم تكن الأولى ولا الأخيرة، في ما يخوضه الفلسطينيون منذ سنوات من حرب ضد المستوطنين واعتداءاتهم التي وصلت إلى القتل وحرق القرى والبلدات، وبرعاية من الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، التي يقودها غلاة المستوطنين أمثال وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريش، ووزير "الأمن القومي" إيتمار بن غفير.
بن غفير طالب بمنح وسام وتكريم لكل من يقتل فلسطينياً، عقب قيام أحد المستوطنين بإطلاق النار على الشاب قصي معطان، من بلدة برقة قضاء رام الله في الضفة الغربية، في الرابع من آب/ أغسطس الحالي، الأمر الذي أدى إلى استشهاده، فيما قررت المحكمة المركزية الإسرائيلية في القدس، الإفراج عن المستوطن "إليشاع يارد" المشتبه بضلوعه في قتل الشاب معطان بشرط أن يبقى رهن الإقامة المنزلية، لعدم كفاية الأدلة واعتبار ذلك دفاعاً عن النفس.
وزارة الخارجية والمغتربين الفلسطينية، اعتبرت تصريحات بن غفير دعوةً أخرى لتشجيع المستوطنين الإرهابيين على ارتكاب المزيد من جرائم القتل بحق المواطنين الفلسطينيين، ودعوةً لتبرير إطلاق سراح القتلة بحجة "الدفاع عن النفس" كما يدّعي.
عشاء أخير... لم يكتمل
كان الشهيد قصي معطان (19 عاماً)، يحضّر مع أصدقائه وجبة العشاء في أحد جبال بلدته برقا شرق رام الله، عندما وصلت رسالة تفيد بأن عدداً من المستوطنين هاجموا المنطقة الغربية، ليهب لنجدة المواطنين وينضم إلى من يدافعون عنها، حسب ما أفاد به والده جمال معطان.
ويقول: "توجه أهالي البلدة إلى المنطقة التي هاجمها المستوطنون المسلحون، وبدأت المواجهات بينهم، ليطلق أحدهم رصاصتين، صوب ابني الشهيد قصي، إحداهما في الرقبة والأخرى في القلب، ولم يكن هناك تواجد لقوات الاحتلال".
باغتنا أحد المستوطنين وطعن الشهيد علي (27 عاماً)، طعنةً في القلب مباشرةً، ومنعونا من تقديم الإسعاف له، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، وهو يدافع عن أرضه وأرض أجداده
ويضيف بصوت يملؤه الحزن: "وصلت إلى المنطقة وكان ولدي قد نزف الكثير من الدماء، ولم نستطع إسعافه".
ويشير معطان إلى أن "ما حدث حلم وكابوس لم تستوعبهما العائلة بعد. قصي ذهب لقضاء وقت مع أصدقائه في الهواء الطلق، وعاد محملاً على الأكتاف".
ويتحدث معطان عن نجله الشهيد، وكيف كان يحلم ببناء منزل له، بعد أن ترك التعليم، وعمل في إحدى المحامص في مدينة رام الله، ليؤسس لحياته، فيقول: "رصاصة الغدر نالت منه وحطمت أحلامه وأحلام العائلة".
"الشهيد قصي هو الابن الثالث للعائلة المكونة من ثلاثة شبان وأربع بنات، والآن نحن نعيش على ذكراه، فلم يعد هناك قصي"، يقول معطان.
محرقة ومراوغة
قبل أيام قليلة، مرّت الذكرى السابعة للمحرقة التي نفذها مستوطنون، في الحادي والثلاثين من تموز/ يوليو عام 2015، بحق عائلة الشهيد سعد دوابشة، من بلدة دوما جنوب نابلس شمال الضفة الغربية، وراح ضحيتها الأب سعد دوابشة (32 عاماً)، وزوجته ريهام (27 عاماً)، وطفلهما الرضيع علي (18 شهراً)، وأصيب أحمد، طفلهما الثاني، والناجي الوحيد من المحرقة، بجروح وحروق بالغة، ما زال يتعالج منها حتى اليوم.
وعائلة دوابشة تعيش في بلدة تحيط بها مستوطنات ومعسكرات تابعة لجيش الاحتلال، وغالباً ما تتعرض لهجمات من قبل المستوطنين، لكن حادثة تسلل مجموعة من المستوطنين، وإقدامهم على إلقاء مواد سريعة الاشتعال صوب المنزل الذي كان يسكنه أب وزوجته وطفلاهما أحمد والرضيع علي، كانت الأعنف من بين الاعتداءات التي تعرضت لها البلدة"، يقول نصر دوابشة شقيق الشهيد سعد دوابشة.
ويضيف: "كانت ليلة رعب بكل معنى الكلمة، بعد أن عاد أخي سعد وزوجته وأولاده، إلى منزلهم، إذ كانوا في زيارة لعائلة قريبة من موقع الحدث. بعد الساعة الثانية فجراً، ألقى مستوطنون الزجاجات الحارقة على المنزل، ما أدى إلى اشتعال النيران فيه بسرعة، ولم نستطع إخمادها، الأمر الذي تسبب بحروق بالغة للأب سعد وزوجته، واستشهاد الرضيع، فيما لا يزال أحمد الشاهد الوحيد على الحادثة".
ويتابع دوابشة: "الطفل أحمد ما زال يتلقى العلاج، وقد أجريت له الكثير من العمليات الجراحية بسبب الحروق البالغة، لكن مع الأسف لا توجد عمليات لعلاج الآثار النفسية والحالة التي يعيشها".
ويؤكد أن القضية مستمرة ضد الجناة، وقد أُغلق أحد الملفات بحبس أحد المتهمين والحكم عليه بالسجن المؤبد 3 مرات، و20 عاماً إضافيةً ودفع تعويض مالي للعائلة.
ويضيف: "حكومة الاحتلال تحاول المراوغة ولن تعترف بالتعويض على أساس أن من ارتكب الجريمة مستوطن، وهي غير مسؤولة عن ذلك، وتحاول التسويق للملف على أنه حادث عمل، وليس عملاً إرهابياً".
"ضوء أخضر" للقتل
منذ تولّي حكومة الاحتلال اليمينية المتطرفة زمام الأمور، بقيادة بنيامين نتنياهو، قبل عشرة شهور، وضمن ائتلاف ضم غلاة المستوطنين وأكثرهم تطرفاً، أمثال وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، ووزير "الأمن القومي" إيتمار بن غفير، الذين وصلوا إلى سدة الحكم بعد وعود قطعوها على أنفسهم، بالقضاء على الفلسطينيين وبناء المزيد من الاستيطان، وسلب المزيد من الأراضي، والعمل على تغيير شكل ومنظومة الحكم في دولة الاحتلال، من خلال تعديلات قضائية تعطي الحكومة المجال للسيطرة على القانون بشكل عام، والأوضاع تزداد سوءاً.
بن غفير طالب بمنح وسام وتكريم لكل من يقتل فلسطينياً، عقب قيام أحد المستوطنين بإطلاق النار على الشاب قصي معطان، فماذا يعني ذلك؟
ولكن كيف ستنعكس هذه القرارات والتعديلات على حياة الفلسطينيين؟ يجيب المتخصص في الشأن الإسرائيلي، إسماعيل مسلماني، بأن "التعديلات التشريعية في الجهاز القضائي الإسرائيلي والذي يسعى الائتلاف الحكومي إلى السيطرة عليه؛ ستكون بمثابة ضوء أخضر لارتكاب المزيد من الجرائم ضد الفلسطينيين".
ويضيف: "سنشهد المزيد من التغول، خاصةً مع التشكيلات الأخيرة التي سُمّيت بـ'الحرس الوطني القومي'، الذي لا يخضع لأي رقابة، وهو موجود سابقاً ويتكون مما يقارب 3،000 عنصر من التشكيلات التابعة لما يُسمّى 'وزير الأمن القومي' إيتمار بن غفير، وسوف ينتشر في الضفة والداخل المحتل، بشكل كبير، والجزء الأكبر منه من المستوطنين الذين يتدربون منذ خمسة أشهر على السلاح، ما يعني زيادةً في عمليات القتل بحق الفلسطينيين وبدم بارد دون محاسبة أو عقاب؛ خاصةً أن بعض رجال الدين أو من يُعرفون بـ'الحاخامات' يؤيّدون قتل الفلسطينيين".
ويوضح مسلماني أن التعديلات القانونية تهدف إلى سيطرة الحكومة والبرلمان ليصبحا صاحبَي القرار ويتوليا كل هذه المزايا، بالإضافة إلى السيطرة على المحكمة التي لم تكن يوماً منصفةً في قضايا الفلسطينيين.
ويشير إلى أن هناك العديد من القرارات التي منحتها المحكمة، لسلب البيوت والأراضي داخل فلسطين، مثل قضايا إخلاء الخان الأحمر، والتي كان القرار فيها هو التأجيل فقط، باعتبار ذلك لصالح رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو؛ لمواجهة الهبّات والصواريخ والخطر المحدق بإسرائيل.
شعب عبارة عن جيش
البرنامج الأساسي الذي تبنّته حكومة نتنياهو قائم على أساس ضم المزيد من أراضي الضفة الغربية؛ كالأغوار الفلسطينية التي تُعدّ سلة الغذاء لأبنائها، والمزيد من البناء الاستيطاني والعودة إلى المستوطنات التي أخليت في العام 2005، وتحويل الضفة الغربية إلى "كانتونات"، والتنصل من الاتفاقيات الدولية والاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة ومبدأ حل الدولتين، ما يشكل دافعاً قوياً لارتكاب المزيد من الاعتداءات التي تقودها مجموعات المستوطنين، وذلك بحسب تقارير للأمم المتحدة ومؤسسات حقوق الإنسان، وفي ظل انعدام الأفق السياسي.
ويقول مسلماني: "نحن أمام معركة حقيقية وجدّية تعيدنا إلى الصفر؛ في ظل التنكر لوجود دولة فلسطينية، وما نشهده على أرض الواقع، فقد أصبح الشعب الإسرائيلي كله عبارة عن جيش، ولا يوجد فرق بين مستوطن أو إسرائيلي".
ويؤكد مسلماني على أن "المشهد القادم للقضية الفلسطينية أسوأ، طالما أن الانقسام الفلسطيني مستمر، والمواجهة في الميدان هي الفعل الحقيقي الذي تجب العودة إليه بالإضافة إلى إعادة تشكيل اللجان الشعبية التي كانت في الانتفاضة الأولى لحماية القرى والمدن من المستوطنين".
ويضيف: "إن المواطنين الفلسطينيين في الداخل المحتل عام 1948، هم أكثر شريحة سوف تتأثر بهذه التعديلات، تحديداً بعد رفض وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، تخصيص الموازنات للعرب في الداخل المحتل، خاصةً في القدس الشرقية من منطلق التعامل معنا كالعبيد والتمييز العنصري، وهذه نوايا الحكومة التي تسعى إلى كسر إرادة الشعب الفلسطيني، وقد نشهد ما يُسمى بـ'الطرد الناعم'، من خلال التمييز في التوظيف والعمل؛ ما يعني ارتفاع نسبة البطالة، ووضع قيود على الفلسطيني، ما يؤكد خطة ترحيل فلسطينيي الداخل إلى الضفة أو غزة".
ويشدد مسلماني على أن المستوطنين في الأراضي المحتلة هم الذراع اليمنى لحكومات الاحتلال منذ سنوات طويلة، وبرغم أنهم لم يظهروا لكنهم الواجهة والمواجهة، ويقول: "وجود المستوطنين على الأراضي الفلسطينية موزعين على ما يقارب 137 مستوطنةً في الضفة الغربية، غير شرعي ومخالف للقانون الدولي الذي عدّ وجود المستوطنات أو وجودهم في الأراضي المحتلة منذ العام 1967 مخالفةً صارخةً للقرارات الدولية".
ويضيف مسلماني: "المشهد الإسرائيلي الحالي مع حكومة اليمين المتطرف هذه، يوضح أنها اتخذت المستوطنين ذراعاً لتنفيذ مهامها وواجهةً لها، حتى أن الأخيرين قبل هذه الحكومة كانوا في حالة مواجهة مع الفلسطينيين في مناطق الضفة الغربية وداخل غزة، خاصةً عقب العام 2005، عندما اتخذ أرييل شارون قراراً بالانسحاب الأحادي الجانب من غزة، بالإضافة إلى أربع مستوطنات شمال الضفة، والتي اتُخذت قرارات بإخلائها، وتمت إعادة صياغة القانون للعودة من جديد إليها".
ويتابع: "الاستيطان يهدف إلى اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم وطردهم منها؛ كما نشهد في محافظات الضفة الغربية، بالاستيلاء على المزيد من الأراضي وسرقتها، بما فيها مدينة القدس التي يسيطرون عليها من خلال المستوطنين وبحماية من الجيش والشرطة والحكومة".
ويتحدث عما يتعرض له المسجد الأقصى من اقتحامات منذ العام 2017، وهذه ليست مسألة جمعيات استيطانية أو أمناء هيكل، بل نهج للاستيلاء على المسجد عبر مخططاتهم من خلال الصلوات التلمودية العلنية المتكررة".
نحن أمام معركة حقيقية وجدّية تعيدنا إلى الصفر؛ في ظل التنكر لوجود دولة فلسطينية، وما نشهده على أرض الواقع، فقد أصبح الشعب الإسرائيلي كله عبارة عن جيش، ولا يوجد فرق بين مستوطن أو إسرائيلي
ويتابع: "إن ما جرى في قرية برقا في رام الله، وقبلها في حوارة جنوب نابلس، وإطلاق التصريحات من قبل بن غفير، وسموتريش وهو الأخطر إذ يسعى إلى سياسة الضم والمزيد من الاستيطان، ويوضح مدى الاهتمام بالمستوطنين القتلة والدفاع عنهم وتوفير كل السبل لإطلاق سراحهم، والاثنان أصلاً من الداعين إلى عدم اعتقال المستوطنين أو المس بهم، يعطي الضوء الأخضر بالقتل".
ويشدد على أن بن غفير هو من ينادي دائماً بتسليح المزيد من المستوطنين، وهو ما نشهده بين مجموعات المستوطنين الذين يُطلَق عليهم "فتية التلال" وينتشرون حول المستوطنات في محافظة نابلس، وتجب الإشارة إلى أن 88% من نساء المستوطنات جُنّدن وتدربن على حمل السلاح وإطلاق النار من أجل القتل وإيذاء كل فلسطيني.
897 اعتداءً في تموز/ يوليو الماضي
هيئة مقاومة الجدار والاستيطان قالت إن سلطات الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين نفذوا خلال شهر تموز الماضي 897 اعتداءً، تراوحت بين اعتداء مباشر على المواطنين وتخريب وتجريف أراضٍ واقتحام قرى واقتلاع أشجار ومصادرة ممتلكات.
وبينت الهيئة في تقريرها الشهري عن "انتهاكات الاحتلال وإجراءات التوسع الاستعماري" لشهر تموز/ يوليو، أن هذه الاعتداءات تركزت في محافظة القدس؛ 148 عملية اعتداء، تليها محافظة نابلس؛ 140 اعتداءً، ثم محافظة الخليل؛ 113 اعتداءً.
وأشارت الهيئة إلى أن عدد الاعتداءات التي نفّذها المستوطنون في شهر تموز/ يوليو بلغت مئتين واعتداءين، تخللها شنّ هجمات منظمة وخطيرة في المعرجات وأم صفا وكفر الديك وجالود وعقربا والقبّون وغيرها، وتركزت اعتداءات المستعمرين هذا الشهر في محافظة نابلس؛ 65 اعتداءً، ورام الله 35 اعتداءً والخليل 28 اعتداءً.
يقول مؤيد شعبان رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان إن محافظة نابلس، وتحديداً جنوبها، أصبحت المنطقة الأكثر عرضةً وعلى مدار الشهور الماضية لسلسلة اعتداءات ممنهجة من قبل المستوطنين في جريمة مستمرة ترتقي إلى مستوى جريمة الحرب، لأسباب منها تمركز عتاة المستوطنين في المستوطنات، وتحديداً مستوطنات "يتسهار" و"براخا" و"إيتمار" و"ألون موريه" وغيرها، التي تشكل غلافاً فاصلاً للمحافظة، ونظراً إلى الموقع الجغرافي للمحافظة الذي تستهدفه القوة القائمة بالاحتلال من أجل فصل محافظات شمال الضفة ووسطها عن بعضها البعض.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.