قبل الإسلام، اعتمد عرب الجزيرة على الغزو والإغارة كمصدر رزق، وفي الحالات النادرة التي خاضوا فيها حرباً منظمةً، استخدموا الاستطلاع المحدود كشكل أولي للتجسس لمعرفة مكان الجيش المعادي وحركته، والتجار والمسافرون القادمون من جهة الأعداء كانوا المصدر الأول للاستطلاع. وقد أورد جواد علي في كتابه "المفصل في تاريخ العرب"، أنه "إذا أحس العربي بغارة العدوّ أو رأى قوماً يتقدمون لمفاجأة قومه، سارع إلى إنذارهم وإبلاغهم بذلك حيث يتجرد من ثيابه ويشير بها إلى دلالة الخطر وقرب العدو، وهو ما يُعرف بالنذير العريان".
أما خلال أطوار الدولة الإسلامية، فكان طبيعياً إنشاء جهاز مخابرات لجمع المعلومات، ويبدو أن هذه المهمة كانت تتطور من حيث الأدوات والوسائل والتنظيم، وتتراكم خبراتها من مرحلة إلى أخرى للاحتياط من خصوم الداخل ومن أعداء الخارج، ولم تستهدف في العموم مجمل الرعايا المحكومين لإحصاء أنفاسهم كما يحصل اليوم.
في زمن البعثة النبوية
في زمن النبي محمد والخلفاء الراشدين لم يكن هناك جهاز منظّم، بل جهود كبيرة متنوعة بُذلت للتجسس على الأعداء
التجسس هو طلب الأمر والبحث عنه، وهو صيغة مبالَغة من الجسّ الذي يعني اللمس باليد لمعرفة الحال. يُسمى الجاسوس عيناً، لأن عمله بعينه، ولشدة استغراقه في الرؤية فكأنه صار كله عيناً، وفي زمن النبي محمد والخلفاء الراشدين لم يكن هناك جهاز منظّم، بل جهود كبيرة متنوعة بُذلت للتجسس على الأعداء ومواجهة جواسيسهم، ففي المرحلة المكّية نجد أن الحكم بن أبي العاص كان يتجسس على النبي، وينقل أخباره إلى قريش كما يروي سبط ابن الجوزي في "مرآة الزمان".
ويورد البخاري في شرح الباري، وابن حنبل في مسنده، أن "النبي أرسل عشرة عيون يتجسسون له في غزوة بدر"، وقد استفاد من الأخبار التي جمعها عن قافلة قريش وتحرك جيشها، فاستعد للمعركة ونجح، فتم الاتفاق مع العباس عم النبي بعد أن استبقاه في مكة، على أن يرسل أخبار قريش وتحركاتها إليه، وبدأت عملية بثّ العيون في القبائل، وأهمهم يهود المدينة.
كما يذكر ابن سعد في "الطبقات"، أن النبي كلّف نعيم بن مسعود، قبيل غزوة الخندق، أن يبثّ الفرقة بين قريش ويهود المدينة ويوقع بينهم، فنجح في مكيدة استخباراتية تحتاج إلى الكثير من الدهاء والقدرة على التمثيل والإخفاء. وقد استفاد النبي محمد من عيونه في القبائل بنسب متفاوتة في الغزوات والسرايا التي جهّزها، وفي عمليات الاغتيال الفردي حين يلزم، وقد بقي من كلّفهم بالتجسس حتى فتح مكة، وهو الإنجاز الأخير له قبل وفاته، وساعدته معلومات المخبرين في معرفة القبائل التي تنوي نصرة قريش، فأرسل لها فرقاً تهددها بغزو ديارها في حال تحرّكها صوب مكة.
والجدير بالذكر أن بث العيون اقتصر على الأعداء فقط، ولم يتم التجسس على المسلمين، الأمر الذي عُدّ حراماً بعد أن نهى عنه القرآن في سورة الحجرات (ولا تجسّسوا)، بمعنى لا تبحثوا عن عورات المسلمين، ولا تكشفوا عما ستره الله، وقد عدّه الفقهاء من الكبائر.
في زمن الراشدين
دأب الخليفتان أبو بكر وعمر، على تنبيه قادة الجيش إلى ضرورة اتخاذ الأدلّاء والجواسيس وأخذ الحيطة وكتمان الأسرار، وكان خالد بن الوليد من أكثر القادة نجاحاً في استخدام طرق التجسس على جيوش الأعداء قبل المعركة. أما تقصّي أخبار الداخل وأحواله الخفيّة، فقد بدأت مذ أدرك أبو بكر أهمية العَسس، وهو من الفعل "عسّ"، "عَسَسَ"، وهو طلب الشيء في الليل، وأصبحت تُقال على مَن يطوف ليلاً لحراسة البيوت والأمن، وقد كلّف أبو بكر عبدَ الله بن مسعود بهذه المهمة فأمره بالعسس في الليل.
لكن أول من أدخل نظام العسس في الإسلام، كمهمة دائمة لأشخاص محددين، هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وتمت تسميتهم في ذلك الوقت بـ"حرّاس الليل"، وكثيرة هي المرويات التي تذكر أن عمراً كان يعسّ بنفسه ليلاً من أجل أن يتفقد أحوال الرعية.
أول من أدخل نظام العسس في الإسلام، هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وتمت تسميتهم في ذلك الوقت بـ"حرّاس الليل"، وكثيرة هي المرويات التي تذكر أن عمراً كان يعسّ بنفسه ليلاً
نظام العسس الذي أسسه عمر بن الخطاب، كان النواة التي قام عليها في ما بعد جهاز الشرطة الذي يقوده صاحب الشرطة، وبرغم أن الخليفتين عثمان بن عفان وعليّ بن أبي طالب، قد طوّرا مهمة العسس، من الحراسة وحفظ الأمن ومراقبة الأسواق، إلى التدخل لتنظيم التجمعات وتيسير عمل السُّلُطات، إلا أن أغلب المراجع تؤجل نشوء جهاز الشرطة إلى المرحلة الأموية.
الريادة الأموية
الريادة الأموية تجلّت في إنشاء جهاز البريد الذي يتولاه "صاحب البريد"، أو "صاحب الخبر"، حيث المهمة الرئيسة لهذا الجهاز إعداد التقارير المكتوبة عن الولاة وعمّالهم، وعن القضاة وما يتعلق بالشؤون المالية في الزكاة والخراج والجزية. أسس هذا الجهاز معاوية بن أبي سفيان، ثم اعتنى به ورسّخ دوره الخليفة عبد الملك بن مروان، الذي أوصى أن يدخل عليه صاحب البريد في أي وقت، ليلاً ونهاراً، "فتأخير الخبر ساعةً يفسد أعمال الولاية عاماً". وهذا لا ينفي وجود عيون خاصة من أهل الثقة في الأمصار، إذ يذكر "ابن حجر" في "تهذيب التهذيب"، أسماء بعض العيون لبعض خلفاء بني أمية.
قال السبكي في "طبقات الشافعية": "صاحب الخبر يعني أَن الذي يطالع الأمير بأخبار المدينة". ولعلّ هذه التسمية هي مصدر التسمية الحديثة لأجهزة الأمن؛ المخابرات والاستخبارات.
تطوّر جهاز الشرطة والتجسس في دولة بني أمية في الأندلس، حيث انقسمت إلى فرعَين، شرطة كبرى على أصحاب المراتب السلطانية وكبار رجال الدولة وأقاربهم، وشرطة صغرى على العامة، والجديد هنا هو التنسيق الأمني بين صاحب الشرطة وصاحب البريد، زيادةً في الاحتراس، وسرّية الرسائل الرسمية وإيصالها بأمان.
في زمن العباسيين
استخدم الخلفاء العباسيون التجسس اتّقاءً لنشاط محتمل لبقايا أنصار الأمويين ولاحقاً لتقصي الحركات النشطة في بغداد والأمصار
يعزو الطبري في تاريخه، إلى الخليفة العباسي الثاني أبي جعفر المنصور، قوله: "ما أحوجني إلى أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون أعفّ منهم، هم أركان الملك، قاضٍ وصاحب شرطة وصاحب خراج وصاحب بريد"، أي ما يعادل في عصرنا وزارات العدل والداخلية والمالية والمخابرات.
استخدم الخلفاء العباسيون التجسس اتّقاءً لنشاط محتمل لبقايا أنصار الأمويين، وفي مراحل تالية كان لا بدّ من تقصّي أخبار الحركات التي نشطت في بغداد والأمصار، كالنزعات الشعوبية والهاشمية وفرق المعارضة. واعتمدوا نوعَين من التجسس: العلني الذي يقوم به عمّال البريد كما كان لدى الأمويين، والخفي الذي وظفوا له شخصيات متنوعةً من حيث الأعمال والحرف، مثلاً كانوا يكلّفون امرأةً لتقوم بالحجامة في البيوت فتتسقط أخبار شخصيات أو بيوت بعينها، أو بائعاً متجولاً يكون عيناً في تجواله، أو متسولاً يطوف في الأسواق وبين البيوت، وقد بلغ الحس الأمني لدى المنصور، أنه لا يترك لولاته الاستقرار والطمأنينة حتى يبدّلهم خشية نمو قوتهم وتمرّدهم، وقد أوصى ابنه المهدي بذلك حين قال له: "وأسئ الظن بعمالك وكتابك، وخذ نفسك بالتيقظ"، وقد اهتدى بالوصية، فاشتهر باستخدام الجواري اللواتي يهديهن لوزرائه وموظفيه الكبار لينقلن أخبارهم.
سار هارون الرشيد على نهج جدّه المنصور في موضوع التجسس والأمن، وكان من أشد الخلفاء بحثاً عن أسرار رعيته وأنداده في الحكم، وكان يتسقَّط أخبار الهادي، قبل أن يصبح هو خليفةً واستمر في ذلك عن طريق عين ثقة. وسار المأمون على نهج الرشيد في تتبّع أخبار القضاة والولاة، وقد ذكرت بعض المراجع أنه كانت للمأمون ألف وسبعمئة عجوز تجلب له الأخبار.
وكان لصاحب البريد مقرٌّ دائمٌ في مراكز المدن الرئيسية، يُدار منه المخبرون وأنشطتهم التجسسية، وتودع فيه التقارير الأمنية حتى ترسَل إلى "ديوان البريد والخبر"، واستخدم الفاطميون تسمية "ديوان الترتيب" بدلاً من ديوان الخبر.
وقد عُرف صلاح الدين الأيوبي باعتماده الكبير على فئات مختلفة من الجواسيس، وصلت إلى حد تجنيد اللصوص وأصحاب الكتاتيب.
آداب وأحكام فقهية
ونظراً إلى دور التجسس في استقرار الحكم وضمان الأمن، تحدثت العديد من كتب التراث عن أهمية التجسس وأصوله، فقد أورد القلقشندي، في كتابه "صبح الأعشى"، فصلاً عن صفات الجاسوس الناجح وكيفية تدريبه والمسؤول عن توجيهه، وذكر ابن أبي الربيع في كتاب "سلوك المالك في تدبير الممالك"، قاصداً صاحب الملك: "ويجب أن يعرف أخبار مجاوريه، وأن يشحن الثغور بالرجال، وينبغي أن يعلم حال العدو في كل ساعة بالجواسيس ولا يغفل أمره"، وقد أورد الواقدي في "فتوح الشام"، وصية عمرو بن العاص لجنوده بالإبقاء على جواسيس العدو المقبوض عليهم للاستفادة منهم. وقال الجاحظ: "إن من أخلاق الملك البحث عن سرائر خاصته وعامته، وإذكاء العيون عليهم".
كانت وصية عمرو بن العاص لجنوده، الإبقاء على جواسيس العدو المقبوض عليهم للاستفادة منهم، كما قال الجاحظ: "إن من أخلاق الملك البحث عن سرائر خاصته وعامته، وإذكاء العيون عليهم"
وقد تحدث السيوطي في كتابه "تاريخ الخلفاء والملوك"، عن التتار مبيّناً تفوقهم الاستخباراتي: "تصل إليهم أخبار الأمم ولا تصل أخبارهم إلى الأمم، وقلّما يقدر جاسوس أن يتمكن منهم"، ومن المفارقات أن الوزير السلجوقي نظام الملك، كتب فصلاً كاملاً في كتابه "سياست نامه"، عن أهمية جهاز الاستخبارات ودوره في استقرار الدول، وقُتل بعد ذلك اغتيالاً بسبب إهمال النشاط الاستخباري.
يُجمع الفقهاء على حرمة التجسس من قبل سلطة الخلافة أو الإمام على المسلمين، إلا في حالة الضرورة، حين يحتمل انتهاك حرمة أو قتل نفس أو وقوع زنا، فيجوز التجسس. أما وقوع التجسس على المسلمين لصالح دولة أخرى، فيختلف الحكم الشرعي فيه بين مذهب وآخر، كما يميّزون في العقوبة بين الجاسوس المسلم وبين الذمّي أو المستأمَن، أي الذي يدخل دار الإسلام لفترة محددة، وتمتد العقوبات من النفي والاسترقاق ونقض عهد الذمة والسجن والأسر إلى القتل.
ولا يخلو الأمر من أحكام أخلاقية في ما يخص عمل المخبرين، فقد رفض الإمام أحمد بن حنبل، الوشايةَ لدى السلطان حتى بفُسّاق الناس طبقاً لما ذكره أحد تلامذته، ويقصد بالفسّاق من نسميهم في عصرنا كتبة التقارير، وشاعت بينهم مقولة "السعاية قبيحة ولو كانت صحيحة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع