شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"انهيار المعنى" مسرحه معجم الألفاظ أم مباني المخاطبة؟

رأي نحن والتاريخ

الجمعة 11 أغسطس 202312:17 م

تنادى بضع عشرة صحافياً (كثرتهم- كثرتهن صحافيات) ومسرحياً (-مسرحية) ومدوّناً (ربما مدوّنة "محترفة" واحدة) وروائياً (واحداً)، ومدرّساً جامعياً لبنانياً أو مقيماً في لبنان منذ وقت طويل، تنادَيْن وتنادَوْا إلى كتابة معجم أولي، أو جزئي، يتناول كلمات "مفتاحية". وهذه الكلمات مستلّة، على ما كان يقول لقمان سليم (1962- 2021، اغتيالاً في العدوسية، جنوب صيدا)، من المداولات والأحاديث والانطباعات التي تلت اعتصامات وحراك 2019، فالانهيار العظيم الاقتصادي والاجتماعي والنفسي الجسدي، في الوقت نفسه، فتفشي وباء أو جائحة "كورونا" وما جرّه من تفريق وغلق وعلاج ووفيات، فانفجار 4 آب/ أغسطس 2020 العظيم في المرفأ والأحياء والطرقات والمباني والبيوت القريبة، على طول الشرفة البحرية، فأبعد وأعمق في الأشرفية وروابي بيروت أخرى، إلى عتبات الضواحي، شرقاً وجنوباً.

وشاء المتنادون والمجتمعون، من كَتَب منهم ومن لم يكتب وأدلى برأي في المناقشة ودوّن اسمه شريكاً في إعداد المَعجم، وإن من باب الرأي والمباركة، أن يخصّوا كلمات بعينها بالتناول والتوسيع، على ما كان يقال في مادة الإنشاء بالعربية. فكتبوا في مواد "كلمات... فقدت معناها أو تحول (المعنى) أو اكتسبت (الكلمات) معاني جديدة منذ الانهيار الاقتصادي..." (ص21، من "مقدمة" سينثيا كرشاتي) ومنها:

اشتراك (في مولد كهرباء)، المستقبل (الحزب الحريري والبعد الزمني اللبناني)، النصر (في الخطابة "الحزبلاوية" أو "الحزب اللهية")، عرصات (العامية التي عرّفت حاكم مصرف لبنان سابقاً وأعضاء مجالس إدارات المصارف في مدوّنات الجدران وفي بعض المطارحات الاقتصادية)، NGO’s، أهراءات، مودعون، وغيرها مثلها.

وتركوا من غير معالجة ألفاظاً أخرى يصدق عليها أو فيها شرط تناولها في معجم غير مغلق نصت عليه المقدمة، مثل التغيير، أو القضاء، أو شرطة المجلس، أو الحوكمة، أو الأوادم، وغيرها كثير (ص117). والحق أن سعة المعجم المفترض، الجائز، "مشروع لا ينتهي" على قول عمر الغزي في "افتتاحية" العمل (ص18) متخلصاً من التعليل ومن الوقوف في موقفه.

الجيل والثورة

وما استوقف الكاتب، موقّع هذه العجالة، ودعا إلى الكتابة، هو ظاهرة الجيل، أو القرن على ما كان العرب يكتبون، التي لا يعلنها المسهمون في معجم منهار- صيف 2023، على الشبكة ومواقع بعض المسهمين- ولكنهم لا يتسترون عليها. فنبذات التعريف بهم في ملحق العمل يخلص منها إلى أنهم أربعينيون على وجه التقريب. ومن أفشى منهم أو أعلن، وهو يروي واقعة أو حادثة، سنّه في أثناء الحادثة المؤرّخة (كريستيل خضر وهي تروي، في مادة اشتراك، ص29، أنها كانت في السابعة، في خريف 1990، حين "عادت" كهرباء المولّد إلى بيت في بلدة أنطلياس...)، وصدق هذا التخمين.

والتأريخ الآخر، وهو يفوق الأول دلالة، يُجمع على حمل "ثورة" تشرين الأول/ أكتوبر 2019 على الواقعة التاريخية الفاصلة، وعلى الواقعة المقالية (أو "الكلامية") القاطعة: "عندما تلاقت الناس في الشوارع وتم احتلال الساحات- يكتب عمر الغزي ص15- في 2019، تغيّر سياق الكلام، وسرت الأحاديث بين مجموعات كبيرة من الأفراد الذين كان من الصعب تلاقيهم لولا اندلاع الثورة، اختلف موقع الكلمات...". ويرجع الكاتب رجوعاً قليلاً من الإطناب في جلاء مكانة الواقعة وخطرها- ساهياً بعض الشيء عن نسبتها إلى جماعة من اللبنانيين ترجّحت بين الاتساع والانكماش- حين يتواضع فيكتب أنها "جزء من حدث تاريخي"، على ما يعتقد "المؤمنون" (ص16) بها.

هم يحسبون أن الغفلة عن جِدّة شهودهم، وشهادتهم أو شهاداتهم من بعد، يؤدي بالكلام، ومصطلحاته البارزة، إلى التضليل والكذب والتستر على "قاموس الانهيار" المتسع

وإلى سن الكاتبات والكتّاب وجيلهم، تقوم مكانة "ثورة تشرين" الراجحة، وغير المقارنة بغيرها، علامة على الفرق بينهم وبين الجيل السابق، أو الجيلين السابقين (سناً). فمعجمهم، على ما يقولون ويظنون، يؤرّخ للبنانيين (ولبنان) شهدوا ما لم يشهده السابقون. وهم يحسبون أن الغفلة عن جِدّة شهودهم، وشهادتهم أو شهاداتهم من بعد، يؤدي بالكلام، ومصطلحاته البارزة، إلى التضليل والكذب والتستر على "قاموس الانهيار" المتسع، و"إلقاء سهام" على "المهمشين والعمال واللاجئين السوريين والفلسطينيين" (ص18).

"النظرية" المستمرة

وعلى هذا، فـ "المعجم"، في مرآة بعض من كتبوه، وعلى الأخص من تولوا تقديمه وتعريفه، وغلبت حصتهم "النظرية" أو المفترضة نظرية على حصص كتاب المواد العينية والاختبارية- "جزء من استراتيجية الصراع السياسي والاجتماعي التي يجب أن نتمكن منها ونسيطر عليها" (ص18، من "افتتاحية")، ليس أقل، وربما أكثر. ويخالف إيلاء هذا الوجه، "النظري" و"الفوقي العمودي"، المكانة العالية بل الشاهقة التي يتربع فيها، ظناً تشاركته مع "فئتي العمرية"، فئة "آباء" الأربعينيين و "أمهاتهم"، صوَّر لنا هذا الظن أن فئة الأربعينيين، المولودين في أثناء الحروب المتناسلة منذ الثلث الثالث من القرن العشرين، رمت وراء ظهرها فَرْضَ سبقِ النظرية الثورية والعلمية "الممارسة" الثورية.

وخلف هذا الفرض، في النصف الثاني من العقد السابع (العشريني)، على جدران المخيمات الفلسطينية حول بيروت وصيدا وطرابلس وبعلبك، إلى مخيمات دمشق وعمان، شعاراً نص "حفراً وتنزيلاً"، على أن "لا حركة ثورية من غير نظرية ثورية". وعِيب على "فتح" (حركة التحرير الفلسطيني) أولاً جهل قادتها التاريخيين، ومعظمهم من الإخوانيين، بالشرط الذي اشترطه أبو "الماركسية- اللينينية" الفعلي وأبو الحزب الواحد والكلياني، لينين.

وحين يلاحظ "مخضرمون"، على ما يقال على سبيل التهذيب في المولودين في العقد الخامس الماضي، أن ما حسبوه، بعد لأيٍ ونصب، لوثة ينبغي التخفّف منها، والاعتناء أولاً وقبلها بإحصاء الوقائع وعلاقاتها وقراناتها وخلافاتها وتواريخها ومنازعها وارتكاساتها، وأهل هذه كلها- ليس أقل وربما أكثر- يأخذهم العجب. وكان بدا لهؤلاء المخضرمين أن حراكات 2011 (اختصاراً) وثوراتها، وقبلها في 2005 و2009 وبعدها في 2019 (السودان والجزائر والعراق ولبنان معاً)، برهنت على نحو لا يقبل التحفّظ أو الجدل، أن القيام على التسلّط والفساد والكذب لا يحتاج إلى حزب طليعي، ولا إلى نظرية هذا الحزب المعمية. ولا يحتاج إلى علم سابق ومصدَّق بأن "الثورة"، وصراعها الطبقي، تفضي لا محالة إلى انتصار حزب "قيادة الطبقة العاملة"، موقعاً ووظيفة إن لم يكن حقيقة ومادياً (حيث لا طبقة عاملة، ولا قيادة، ولا من تقودهم).

هوى الذات

وقدحت شرارات الحراكات- ويدعو تواضع اللفظة ودلالتها على القيام بالنفس والاستطالة والسيرورة إلى التأمل، على خلاف ما تصنع إشارة الـ "افتتاحية" الخاطفة والتقريرية إلى "إحياء مفردة (ثورة)"، على زعمها (ص16)- حوادث مثقلة بـ "الإشارات والتنبيهات" والتداعيات ولم يؤدِّ إليها سياق مرحلي على طريق أو طرق معبَّدة، في الذهن أو التصور، تقود إلى عتبة "المرحلة الوطنية الديموقراطية" و "مهماتها" و "قواها" على سبيل المثل.

وولعُ كتّاب "المعجم" أو بعضهم بالنظرية ولعٌ نظري، إذا جازت العبارة. فهم لا يغامرون في مقالة أو قول يتعدى التلويح من بعيد بكلام عام في السيطرة والصراع والدولة والأزمة والاستراتيجية على ما مر في شواهد سابقة. وجلي أن هواهم في وجه آخر. ويقع هذا الهوى على ذواتهم وعواطفهم وأحاسيسهم، أولاً.

17 تشرين 2019 في مرآة "المعجم" ومواده، إنما هو حادثة نفسانية مشتركة تتشاركها جماعة ضيقة ومصطفاة من الناس. وهذا قبل أن يكون حادثة اجتماعية سياسية وثقافية

وعلى هذا، فتشرين/ أكتوبر (2019) اللبناني، في مرآة "المعجم" ومواده- و "المقدّمة" تسميها "مداخلات"، ربما على معنى صدورها عن وحي اللحظة وتبادل الحديث في حلقة من الصَّحْب-، إنما هو حادثة نفسانية مشتركة تتشاركها جماعة ضيقة ومصطفاة من الناس. وهذا قبل أن يكون حادثة اجتماعية سياسية وثقافية ترجّحت، في أوقات متفرقة أو متزامنة، بين الاتساع والضيق، وبين الدمج والتفرّق، والأخذ بالزمام وإفلاته، وبين النشوة والخيبة... في مراحل وأوقات وأماكن متفرقة.

فمع "اندلاع الثورة" و "تلاقي (الأفراد)" و "أحاديثهم" المتبادلة في أثنائها، وتوسط "الشارع" علاقات المتظاهرين والمعتصمين بعضهم ببعض، تزعم الـ "افتتاحية" أن "وقع الكلمات (اختلف)". ففي "الشارع" "تذوب كلماتنا في تفاعلات الأجساد ومستويات الأدرينالين والإحساس بالانتماء للجماعة... (و) تمتزج (المفردات) مع أصوات الحناجر وعرق الأجساد وروائح الغاز المسيل للدموع والنَفَس المقطوع... (فهي) فترة زمنية امتلأت كل ثانية ودقيقة منها بالحياة وحملت رؤية مستقبلية" (ص15- 16).

فعلى قدر الإيغال في "الذاتية"، أي في حمل الحادثة العامة المشتركة والفردية معاً على الانفعالات الأولى واللصيقة بقاعِ النفس "النباتية"، على قول يوناني قديم، ينهض المعنى من "انهياره"، وتُخاط "الصلات بين التعابير والألفاظ ودلالاتها المزعومة، وبين أشكال التمثيل والمعاني التي تحملها" ("مقدمة"، ص22- 23، لا أزعم، وأنا أقتطف الشاهد أن الشاهد مفهوم، وأظن أن "بين" ثانية، قبل "دلالتها"، وقبل "المعاني"، سقطتا من التركيب).

وهذا، أي معالجةُ "انهيار المعنى" و "قطعِ الصلات" واستحالةِ "الكلمات" "أوعيةً فارغة"...، من طريق الحمل على انفعالات النفس، وإبرازها، والإطناب في استشهادها واستنطاق عيِّها- منهج ينتهجه المشاركون في "المعجم" عن قصد وتصميم سابقين. فإذا تناولت سارة مراد مادة "أهراءات" (ص53 وما بعدها)، كتبت: "لم ألحظ... رأيتها مرات... خفوتها(...) من ذاكرتي البصرية... الشيء الوحيد الذي أراه بعد أن درّبت عيني... كلما اجتزت... قيل لنا... شاهدت بنهم... درست بهوس... لفترة طويلة لم أتمكن... علاقتي بالأهراءات المدمرة مختلفة... تظل عيناي شاخصة (كذا!) عليها...".

"الصورة" و "الواقع"

فإذا خرجت الكاتبة من انطباعاتها، وجمعت الأهراءات إلى ثلاثة مبانٍ، أو أنصابٍ، مدمرة أو معطلة ومعلقة على حال شهود أخرس وأعمى وأصمّ- هي الهوليداي إن (الفندق السابق والقريب من البحر) وبرج المر (الناجز الهيكل العظمي منذ عشية انفجار حروب اللبنانيين) ومبنى البيضة (بقية مركز تجاري في قلب مدينة "الأسواق")-، أدخلتها في باب "أيقونات النجاة"، على سبيل الطباق، ربما وتسمية الشيء بنقيضه، ونسبت إليها "هوسنا بمشهدية الفاجعة". وختمت هذه المقارنات والأحكام، وهي تقتصر مراجعها على حجرة أصداء ثقافية نمطية، بجزم عام: هي "جريمة تتواطأ أركان السلطة في دفنها".

وثنّت على جزمها هي بجزم "موضوعي" وصوري فوتوغرافي. فأومأت إلى كتابة على حاجز إسمنتي قريب من المرفأ حيث الأهراءات، تؤيد ما خلصت إليه لتوها سارة مراد نفسها: "دولتي فعلت هذا". فاستقبلت سينتيا كريشاتي، صاحبة الـ "مقدمة" (ص23)، حلول الصور محل الكلمات "بقوة"، (و "الصورة" هنا هي صورة جملة تامة المعنى النثري)، جواباً عن "(استعصاء) الواقع... على الاستيعاب" في أعقاب استيفاء مراد، الكاتبة، تناولاً قادها إلى خلاصة واحدة مع "الصورة").

وحين تفرغ سارة مراد من أداء "مهمتها" المعجمية و "النقدية"، المفترضة والمقيدة، وتخلّي بين نفسها المتحررة من البحث عن معنى "حكومي" وبين روايتها الأهراءات رواية شخصية ومشتركة فعلية، تنتبه إلى أن الأهراءات، بعد الكارثة، "لم تبق" ساكنة، (و) باتت أقرب إلى كائن حي يشير ميلانه إلى انهياره الوشيك". وفي قلب هذا الدمار "العظيم"، على قول سفر أيوب، يصعد "دخان حريق القمح... وعطره"، على شاكلة دخان القرابين، في استعارة مشرقية وتوراتية أخرى تطعن ضمناً بـ "تعالي" السلطان (وهو "الحجة" في بعض التفاسير والشروح)، ومفارقته واستغلاق مقاصده، واستهلاكه البشر والحيوان والحجر.

وبجوار القلب هذا "جثث الحمام والفئران ملقاة بين الحطام على الرصيف البحري المدمّر... (فلا تُرى) بالعين المجرّدة، بل في محرّك البحث "غوغل". فإذا فكّت المعالجة الطوق عن معانٍ وصورٍ مبتكرة، لم تحتسبها "النظرية" ولم تنتبه إليها أو تلقِ بالاً. وتطرقت المعاني والصور هذه إلى وجوه من الحادثة الفاجعة لا يُقاس غنى أصدائها وتردداتها بحملها على "الحكومة" أو "الدولة"، وعمي التوجيه والتأطير البيروقراطيان والمتشاوفان عن البصر بها وملاحظتها.

الأصول والفروع

وربما حصل هذا من طريق الانقياد إلى شتات "الشيء"، حادثةً أو نصباً أو حالاً أو نعتاً وكلمة، والسعي في تقصّي فروعه وأصوله الكثيرة، بدلاً من الاقتصار اللفظي أو المعنوي عليه، وترديد صفته العامة وحمله على "الانهيار" و "القطع" ومرادفاتهما. فمعظم المواد (اشتراك، انتصار، دعم، صهر، انهيار...) تجول وبعضها يصول، في دائرة المادة القريبة والضيقة، ولا تتعداها إلى شبكاتها ودوائرها. فلا تبحث حول المواضع التي قد تصدر عنها عوامل وسيرورات تلتقي بالمادة، وبملابسات ظهورها وتصدّيها للانتباه. وتقصد دائرة الضوء لأن البحث فيها "أسهل"، على ما قال الرجل الذي أضاع ساعته، أو محفظته، في موضع مظلم فتركه إلى حيث ينير مصباح كهربائي موضعاً آخر.

وعلى هذا، فما تتناوله مواد "المعجم" المتفرقة من 17 تشرين/ أكتوبر (2019)، ومن الوقائع المركّبة والمتنوّعة التي تدخل في هذا الباب، رغم نصب التمهيدين الحادثة الكبيرة مرجعاً ومصدراً، لا يتعدى الجمل الخطابية التي ساقتها مواضع أخرى من هذه العجالة. ولا تدعو الملاحظات الناقدة على مجرى الحادثة، وهي جملة حوادث طالت إلى ما بعد 4 آب/ أغسطس 2020 وتشعّبت فروعاً لا تُحصى، أصحابها إلى التدقيق فيها، وفي ملابساتها وسياقاتها. فيُنعى على "الاحتجاجات" قصورها عن صوغ "خطاب سياسي ومتماسك ومسيَّس" (ص22). ويُنبّه إلى أن "الثورة" "فترة ولَّت" (ص16)، ويحاول "المعجم" ورائتها (ص27). ولا تتناول المواد لفظة واحدة من الألفاظ التي يزعم عمر الغزي (ص16) أنها وُلدت أو طغت على الكلام مع "الثورة" شأن "ساحة، خيمة... هيلا هيلا هو".

سها الكتّاب، على ما يبدو، عن أن كل معجم من المعاجم، جاهر بالأمر أم سكت عنه، يُدرج اللفظة في كوكبة ألفاظ قريبة تتضافر على "استكمال" المعنى. والاستكمال يقود إلى التفريع، واستدراج أبوابٍ جديدة

فإلى قصر المواد وتناولها على أضيق دائرة شبكية، تُقصر على زمن ضيق ولصيق بحدوثها، وتسلخ من بُعدها التاريخي. والمقارنة التاريخية نفسها، وهي لب مادة "انهيار" المستفيضة (سحر مندور، ص 41- 48)، وحملها وقائع 2019- 2022 على وقائع الثمانينات، تنتهي إلى تقرير حدوثها، في الوقتين، عن "سياق" متوقع (ص43 -44)، يبرهن توقّعه على تعمّده. والتأريخ، في هذه الحال، هو استدعاء الشبه شبهه. والفروق هي تخلّف عن تمام الشبه.

أصل وفصل

وإذا تعقّبت بعض المواد ("عرصات"، هاشم عدنان، ص61- 63) أطوار المادة- وهي لفظة غلبت على كتابات الجدران في محيط المصرف المركزي بين الوردية شمالاً والصنائع جنوباً، وعلى "ردّات" قليلة- بدا محض صدفة وقوع التعقّب على حلقة دقيقة من الإسناد، أو "الأصل والفصل"، على قول حسن قبيسي (1941- 2006) في نقل كتاب ف. نيتشه في الأخلاق. ويعود استعمال اللفظة الأَوّل والمدوَّن إلى أغنية راب، غنتها فرقة كتيبة 5 في مخيم برج البراجنة، في 2009: "الجمعيات/ عندن مصاري الوطن/.../ البيحطوهن بيشيلوهن/ الجمعيات/ عرصات هذا الوطن/.../ ولك الناس عم بتموت/...". وكان هاشم عدنان، أو غيره، أبعد في النسب لو تذكر "شعر" العراقي مظفر النواب في "عمليات" السلام العربية وقادتها، أو لو فحص عن دلالة تأنيث الحكام الضعفاء: "إبك كالنساء مُلكاً لم تدافع عنه كالرجال".

ويذهب الكاتب إلى أن اللفظة استقرت على "مكانة ثابتة" بين عامي 2011 و2015. ولا دليل على هذه الدعوى، لا من أرشيف لا أثر له في المواد كلها ولا من تذكّر وقائع تجوِّز القول وتؤيده. واستُعملت بعد الأزمة حصراً في "(ذمّ)... الطبقة الأوليغرشية الحاكمة" (ص72)، على زعم الكاتب. ويجرد لائحة بمن سمّوا بالإسم "الشوارعي" هذا. فإذا بهم الناس كلهم: أعضاء الهيئات الاقتصادية، و "عصابة" أصحاب المصارف، و "زعماء ومسائيل وقيادات وشبيحة أحزاب النظام الحاكم بلبنان، أصحاب الوكالات الحصرية... نواب الأمة، الأمة". فيسأل يائساً ومسلِّماً وساخراً: "كيف ممكن تخلص هلّيستة؟".

وأمست العبارة "الشتيمة الرسمية العامية لانتفاضة 17 تشرين". وقضى اتساع جمهور المشتومين بتكرارها في الأحوال كلها، على ما يلاحظ قارئ الشعارات على جدران الدائرة المكانية حول المصرف. فكان هذا قرينة على استنزاف "لغة" الحراكيين، وغرقها في لغو فقير وبليد. ويكتب هاشم عدنان أن قائل الشتيمة ومعيدها يحسّ "بالغضب وبالنشوة... هدفها المطلق هو الشعور... (في) لحظتها". وبعض الحكم أو الرأي القاسي هذا يصدق في أجزاء من بعض المواد، مع الأسف.

نَحْوُ المقالات

ولعل بعض العلّة في نحو تناول المواد إلى الاستغراق في "نشوة اللحظة" هذه، والانقطاع من التقصي والتداعي على أبوابهما (الشبكة، الزمن، الأشباه، الأضداد، الأصداء السابقة واللاحقة...)، هو الغرض المعجمي الضيق، وحسبان أن المعجم هو جملة "كلمات" أو "ألفاظ" ومداخل على حدة. وسها الكتّاب، على ما يبدو، عن أن كل معجم من المعاجم، جاهر بالأمر أم سكت عنه، يُدرج اللفظة في كوكبة ألفاظ قريبة تتضافر على "استكمال" المعنى. والاستكمال يقود إلى التفريع، واستدراج أبوابٍ جديدة.

وجرت المعاجم العربية، قبل قواميس الجيب، على إيراد المواضع الكثيرة التي جاءت فيها المادة، وتشعّبت معانيها فيها تشعُّباً يعصى الحصر والجمع، ولا يقيّده الاشتقاق. ويدل هذا على أن وحدة العبارة الأولى والمعنى هي الجملة، أو العدد الأدنى من الجمل الذي يؤدي إلى استقرار المعنى على وجه التقريب.

فلا تُفهم اللفظة "في نفسها"، ولا تُستعمل على هذه الحال، المجردة والذهنية. فإذا كانت موضوع تقصٍّ ظرفي (زمني) واجتماعي، على ما هي حالها في معجم أصحابنا، اقتضى ذلك تعقُّبَ المواضع، وعُقَدِ السياقات أو المفترقات التي تُستعمل فيها الجمل النموذجية. وهذا عمل لا يستوفيه الانطباع والتذكّر والتخمين. ويُخلص من هذا، إذا جدَّ السعي وتكلف الاحتذاء على مثالاته المضمرة أو المعلنة، على تجريد "نحو"، أو "قواعد" لغة، على ما كان يقول تلامذة الصفوف الابتدائية والمتوسطة قبل عقود. والنحو، على هذا المعنى، حاكم في أحوال الفصل والوصل، والجناس والطباق، وفي وجوه العمل (الرفع والضم والكسر) والمحال وشغلها، وفي ترتيب ما يسع الكلام العادي واليومي تناوله وما يقتضي تناوله بعض التجريد وما يعاند التناول وتطويه المقالات (وليس الكلمات أو المفردات) في ثناياها الغائرة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةًً وتتحكم بحاضرنا وتعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و"وقائع". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image