عشية بلوغه المئة عام، في 27 أيار/ مايو 2023، استقبل هنري كيسنجير- وزير الخارجية الأمريكي سابقاً، ومستشار الأمن القومي، ومفاوض ماوتسي تونغ الصيني على عقد علاقات أمريكي صيني جديد، ومفاوض الشيوعيين الفيتناميين على خروج القوات الأمريكية والحليفة من فيتنام مهزومة وخاسرة، والآمر بضرب كمبوديا وطريق هوشي مِنهْ فيها، ممهداً الطريق إلى استيلاء الخمير الحمر (أو "داعش" كمبوديا) على البلد، وسند الدكتاتور الشيلي بينوشيه على إدارة البلد إدارة بوليسية، ومهندس الخروج من "أزمة" 1973 المصرية- الإسرائيلية والمفاوضات التي أعقبتها... و"عميد" الدراسات الديبلوماسية مؤرخاً وصاحبَ مذكرات- (استقبل) صحافيين من الأسبوعية البريطانية ذي إيكونوميست. وأفضى إليها بشاغله الملح، العلاقات الأمريكية- الصينية، وخشيته من اندلاع حرب بين القوتين العظميين في غضون "أقل من عشر سنوات"، على ما يعلن عنوان المحاورة، أو بين خمس سنوات وعشر.
وعلى البلدين، في أثنائها، "التدرّب على العيش معاً"، وإلا انفجرت حرب "على الصدارة التكنولوجية والاقتصادية". ويتوقع السياسي المسن، و"الصافي الذهن"، على قول محاوريه، أن يغذي الذكاء الاصطناعي، والقوتان قطبان بارزان في حقله، الحرب هذه، بل أن يدعو إليها، ويحث على الإقدام عليها.
ويتردد كلامه بين حدين: حد (وصف) الانسياق إلى الحرب، على مثال انجرار العالم إلى الحرب الكونية "الكبرى" أو الأولى في ظل النزاع البريطاني- الألماني (الإمبريالي) وحدَ (الدعوة إلى) كبح الانقياد هذا، وبناء بنية ديبلوماسية ترعى المنافسة الحادة في إطار علاقات دولية يبقى مثالها الأول والثابت (في تفكير الرجل وكتاباته) هو "جوق" الدول الكبيرة الخمس المتعاونة والمتخاصمة، في القرن التاسع عشر.
و"تصادف" المحاورة هذه مضي اثني عشر عاماً على نشر كيسنجير، في 2011، كتاباً جامعاً، في الصين (دار بينغوين، نيويورك). ويصل الكتاب نشوء النظام الإمبراطوري، عن يد سلالة تانغ، وتوحيده الصين في حدودها تقريباً، باليوم الذي "أوفد فيه" الرئيس نيكسون مستشار الأمن القومي، في 1971، إلى قوله في مقدمة كتابه، إلى بكين مفاوضاً على "رؤيا سلام تتجاوز محن فيتنام وآفاق الحرب الباردة". ومذذاك، عاد المفاوض إلى الصين "50 مرة". وأودع كتابه ما استقاه من زياراته الخمسين، ومن قراءات لا تحصى في الصين، وتاريخها، وحضارتها، وسلالاتها، وحروبها، وعلاقاتها بدوائر فعلها في جوارها وردودها على الجوار ودوائه، ومن مقارنات بينها وبين أوروبا والغرب.
بين شي ودينغ
وصادف الكتاب، أو تاريخ نشره، في 2012 على ما مر، ابتداء "عهد" شي جين بينغ على رأس الحزب الشيوعي وجمهورية الصين الشعبية. وانصرم من هذا العهد، على ما يقال من تاريخ الأباطرة الصينيين وغيرهم، ولايتان، الواحدة من 5 سنوات، كان ينبغي أن يقتصر العهد عليهما، على ما نص دينغ (شياو) بينغ، صاحب الانعطاف الصيني، الاقتصادي والأيديولوجي، في 1978، سنتين بعد وفاة ماوتسي تونغ، و"دفن" "الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى".
وعلى هذا، خلف دينغ (ت في 1997) رئيسان أمينان عامان، جيانغ زيمين، في حياة دينغ، وهو جينتاو، قبل تسنّم شي رأس الحزب والدولة المزدوج، في 2012. ولم يلتزم شي بقيد الولايتين، وأملى على المتمر الشعرين، في خريف 2022، حلَّه من الشرطين.
يتوقع السياسي المسن، و"الصافي الذهن"، على قول محاوريه، أن يغذي الذكاء الاصطناعي، والقوتان قطبان بارزان في حقله، الحرب هذه، بل أن يدعو إليها، ويحث على الإقدام عليها.
وسبق الإجراء الاستثنائي والطارئ هذا، على خلاف نهج الثلاثة السابقين، إدخاله في دستور الحزب الشيوعي الحاكم والواحد "فكره" ("فكر شي جين بينغ"، على مثال "فكر ماوتسي تونغ" من قبل) مرجعاً ودليلاً. واختصر برنامج عهده، بعد إطلاق "حزام وطريق" (أو "طريق الحرير")، في 2012، بـ"الحلم الصيني": مد ظل "ابن السماء"، على ما لُقب الإمبراطور زمناً طويلاً، ودولته على الأرض كلها.
ويستأنف حوار كيسينجير، اليوم، الكلام في الأعوام التي انقضت منذ أن طوى الرئيس الحالي حقبة دينغ شياو بينغ، وهي عهد شي جين بينغ، وانعطافه نحو علاقة بالولايات المتحدة الأمريكية وبالغرب عموماً، تغلب "الخصومة"، إن لم يكن العداء، على "التعاون" و"المنافسة"، على قول التقارير الاستراتيجية الأمريكية، وبعض الأوروبية على منوالها، في الأعوام الأخيرة. والمسألة المركزية التي يخشى المنظر والمؤرخ السياسي خسارتها في علاقات القطبين هي "هامش المناورة". فيفتتح حواره الأخير بالتنبيه إلى عسر إرسال قواعد استقرار. ويعزو هذا العسر إلى تسارع تغير موازين القوة، وعواملها، وأولها العامل التكنولوجي (والذكاء الاصطناعي في مقدمته). والخلاف على القواعد هذه يؤدي إلى حشر أحد الطرفين أو كلاهما. ويرد على حسبانه أنه خسر هامش المناورة، بالحرب.
وكان المفاوض الديبلوماسي هذا حمل استجابة الصين الدعوة الأمريكية إلى التعاون على سعي بكين في هامش مناورة تتيح لها الصمود في وجه هجوم (تشنه عليها) موسكو. ويمدح 8 رؤساء أمريكيين و4 أجيال من القادة الصينيين تعاقبوا، منذ 1972، على رعاية العلاقة الصعبة بين البلدين الكبيرين، وإرسائها على التعاون، من وجه، وعلى يقين كليهما بـ"فرادة قيمه". ولكنه يعفي الصين من "الطبيعة الرسالية التبشيرية" التي تطبع دعوى الاستثناء الأمريكي. فيكتب أن الصين "لا تزعم أن على العالم الاحتذاء على أبنيتها (أو مؤسساتها)"، وتقصر علاقتها بالدول الأخرى، في دائرة نفوذها الأوسع، على الولاء لها، وترتب الولاء على مراتب القرب الثقافي والجغرافي.
وفي ضوء خصوصية "ثقافية" أو تاريخية ثابتة- أخذ نقاد كيسينجير الكثر عليه "ثقافويته" الجوهرية على رغم ملابسة تنبه تاريخي حاد تناوله الحوادث التي يتناولها-، ينفي المنظر والمؤرخ السياسي والديبلوماسي عن الصين، في حديثه الأخير، النازع إلى السيطرة على العالم، والذي ينسب إليها: تريد الصين أن تكون قوية (عظمى) وليس أن تسيطر على العالم، على طريقة هتلر، وأيديولوجية الصينيين لا تنفصل عن احتسابهم مصالحهم وقدراتهم، ونظامهم يميل إلى كونفوشيوس فوق ميله إلى ماركس، وقادتهم يريدون الإقرار لهم بأنهم من يقضي في نظام مصالحهم العالمي.
القانون
والاحتجاج الكيسنجيري المزدوج والمتكامل، بهتلر وبكونفوشيوس، يترك مسألة السيطرة العالمية معلقة. فالمقارنة مع التوسع الهتلري العسكري والعرقي العنصري والعدمي، لا تصلح وصفاً ولا تشخيصاً في حال الصين، لا بالأمس، على خلاف الإمبراطورية الجرمانية المقدسة، ولا "اليوم" (أي عشية الحرب الثانية، أو أواخر القرن التاسع عشر وصراع الإمبراطوريات الطاحن، ولا يومنا أوائل القرن الواحد والعشرين).
وحملُ تايوان- وهي بقية أرض صينية سابقة، ولا تزال خارج مركز بكين التي استعادت، في ثلث القرن الأخير، ماكاو وهونغ كونغ بمزيج من الدبلوماسية والنكث بالعهود وإرغام السكان- (حملها) على الألزاس- لورين، المقاطعة الفرنسية التي تتوسط ألمانيا وفرنسا، وكان أهلها يتكلمون الألمانية وينتسبون إلى فرنسا إرادياً منذ الثورة الفرنسية، تقريب يفتقر إلى مسوغات فعلية. و"التوسع" الصيني المعاصر لا يعدو طلب الاحتفاظ ببلاد سيطر عليها المركز الصيني الإمبراطوري طويلاً، مثل التيبت وشيانغيانغ، رغم تحفظ أهلها ومقاومتهم في بعض الأحيان.
كونفوشيوس وهتلر
والتمدد خارج حدود الصين المباشرة بحراً، والصين تقليدياً قوة أو إمبراطورية برية في التصنيف الاستراتيجي والسياسي والعسكري السائر، لا ينسب شي جين بينغ إلى هتلر ولا إلى ستالين. ولكنه، في ضوء "الحزام والطريق"، أي إحياء طريق الحرير على ركن القوة المالية والصناعية والسكانية الصينية وإعمالها على مثال كولونيالي متجدد، ينبه إلى نازع توسعي، يتجاوز أكثر فأكثر المنطق الإمبراطوري إلى منطق إمبريالي يكاد يكون صريحاً. وتعاظم الإنفاق العسكري في عهد الرئيس الصيني الحالي و"المزمن"، وصرف شطر راجح منه إلى القوة البحرية العسكرية، إذا عُطف على نزاعات بحر الصين الجنوبي الناجمة عن مد يد بكين العسكرية إلى جزر قريبة من شواطئ بلدان أخرى، وبحرها الشرقي، لا ينبئ باقتصار الصين على طلب مكانتها والاعتراف بهذه المكانة.
التمدد خارج حدود الصين المباشرة بحراً، لا ينسب شي جين بينغ إلى هتلر ولا إلى ستالين. ولكنه، في ضوء "الحزام والطريق"، يتجاوز أكثر فأكثر المنطق الإمبراطوري إلى منطق إمبريالي، كيف؟
والحق أن المفهوم الكونفوشيوسي، وهو "الإقرار (للقادة الصينيين) بأنهم من يَقْضي في نظام مصالحهم العالمي" في صياغته الكيسينجيرية- على مثال فكرة عامة تنسب إلى كل موجود من الموجودات مثال تمام ينفرد به ويوجب بينه وبين الموجودات الأخرى تناغماً وينعقد هذا على حظوة الموجود في نفسه بتمام مثاله، ولا يفترض نفياً- هذا المثال لا يبدد الاشتباه الإمبريالي، وإن على نحو غير هتلري. وضيق القادة الصينيين بزعم الولايات المتحدة، والغرب معها، السعي في إرساء "نظام عالمي ينهض على قواعد"، بحسب العبارة المتداولة، أي نظام ينص على قاعدة عامة (أو عمومية، جامعة وعامة) هي حماية الحقوق الإنسانية، السبب في هذا الضيق هو انتهاك الأصل الكونفوشيوسي الذي لا يشترط على التمام المنشود مثالاً مشتركاً وعمومياً مثل الإقرار بالحقوق الإنسانية، المدنية والسياسية، أو بـ"الحق في الحقوق"، في عبارة أوسع وأعم من العبارة "الأممية".
وفهم الفكرة الكونفوشيوسية في ضوء نظام عالمي عام و"شامل" وفي بيئة أو بيئات متعولمة- على ما هي حال العالم منذ نحو ثلث قرن، وفي أثنائه، صعدت الصين، وتدين بصعودها له، والعولمة تكبح النازع الصيني وغير الصيني الإمبريالي إلى تمهيد العالم- فهمها غير متاح ولا يسير. فدائرة المصالح الصينية، والمثالات الثقافية الصينية، الأوسع لا تقتصر اليوم، أو لم تعد لتقتصر على إطار جغرافي وثقافي "تتوسطه" الصين، وتقوم منه مقام "وسطه"، على ما تسمى ("إمبراطورية الوسط").
والحق أن المرجع الكونفوشيوسي الذي يحتكم إليه الكاتب الأمريكي، في سياق مركب ومعقد، ليس أو لم يعد المرجع الذي يعتدّ به القادة الصينيون منذ نحو عقد من السنين، يوم فرغ المؤرخ والمنظر الديبلوماسي الأمريكي من كتابة كتابه الجامع في الصين. ففي خطبة ألقاها شي جين بينغ، في 23/10/2014، في مقتبل عهده، يستعمل الخطيب مفهوم "تانجيا" دليلاً إلى ترتيب "مراتب الشعوب والكائنات"، أو الموجودات. وهذا الترتيب هو إطار السياسة الداخلية والسياسة الخارجية.
ويميل شي جينبيغ في خطبته هذه إلى تقديم مزاولة السلطة من طريق القانون، وحمل الشعب على العمل بمقتضاه من طريق التربية والشعائر والجوائز والعقوبات، وهي فكرة خصوم كونفوشيوس وأنصاره ومريديه، وهم المشرِّعون- على فكرة كونفوشيوس ودعوته إلى تمكين المحكومين من ضبط أنفسهم بأنفسهم، وبلوغ مثال الحكم من غير قانون أو "سلطان المعيار" (عن جان إيف هيرتوبيز استشراق واستغراب وعمومية جامعة، 2020، بالفرنسية، سبق وعرضت الكتاب في عجالة على رصيف- 22). وتعني تانجيا، في إطار العلاقات الدولية "ديكتاتورية القانون الشاملة بما هي حق دولي لا معارضة له"، وهي مفهوم إمبريالي وليس كوسموبوليتياً، أو أممياً جامعاً، على ما يخلص إليه الكاتب الفرنسي.
حقبة جديدة
ولكن كيسينجير نفسه لم يغفل، وهو يتعقب المسار الصيني في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، وقبيل إفضاء السلطة في الصين إلى نصير المشرِّعين على الكونفوشيوسيين، وصاحب بعث الماوية و"الحلم الصيني" وطريق الحرير الجديدة وداعية التسلط على بحر الصين الجنوبي والبحر الشرقي وباني قوة عسكرية بحرية تتعدى النطاق الإمبراطوري التقليدي- كيسينجير هذا لم يغفل عما آذن مذذاك بظهور أعراض إمبريالية على بعض تيارات الرأي العام الصيني.
وينقل وزير الخارجية سابقاً عن أحد كبار محاوريه، جيانغ زيمين، خالف دينغ شياو بينغ المباشر (1989- 2002 في أمانة الحزب، وإلى 2004 في رئاسة اللجنة العسكرية)، قوله في العلاقات الأمريكية-الصينية إن كلتا الأمتين تدرك حاجتها إلى الأخرى، وهما متراميتا الأطراف ويستحيل على الواحدة السيطرة على منافستها، ويستحيل عليها تخندقها على حدة، وتتمتع الواحدة بخصوصية تمتنع من التغيير (من أعراض "ثقافوية" الرجل!) فهل في وسعهما بلوغ غايات مشتركة؟ وما عسى أن تكون هذه الغايات؟
كلتا الأمتين تدرك حاجتها إلى الأخرى، وهما متراميتا الأطراف ويستحيل على الواحدة السيطرة على منافستها، ويستحيل عليها تخندقها على حدة، وتتمتع الواحدة بخصوصية تمتنع من التغيير، فهل في وسعهما بلوغ غايات مشتركة؟
ويلاحظ أن الصين انتقلت، مع نهاية ولاية جيانغ، إلى قرن جديد، وإلى جيل جديد من القادة، الجيل الرابع (بعد ماو ودينغ وجيانغ)، جيل هو جينتاو والوزير الأول، وِنْ جياباو. وهذا أول جيل قيادي لم يعاصر الثورة، واستيلاءها على السلطة في 1949. وبلغ الرجلان، هو ووِن، منصبيهما من طريق دستورية، أو عادية، انتخابية، وهما أول من باشر المسؤوليات في صين ارتقت مرتبة قوة عظمى، وجاهرت بمرتبتها هذه، وتعثرت بعض الشيء في تجاوز أزمة تيان إن مين في 1989.
وتربع الرئيس الأمين العام ورئيس وزرائه في سدة بلد لا يكبّله شعوره بالحرج من التدرب على التكنولوجيا، والتعلم عليها وعلى المعاملة مع الهيئات الدولية. ففي الأثناء، أي في نحو ربع القرن المنصرم، أثبتت الصين طاقتها على الابتكار، وانتقلت من التوطين والاختبار إلى المبادرة. ورفضت دروس الولايات المتحدة في الإصلاح، وسخرت من معظمها. واختبر السكان، مع دخول منظمة التجارة العالمية في 2001، نمواً استثنائياً صحبه تفاوت استثنائي في المداخيل، وفي الامتيازات الاجتماعية المتفرعة عن الإقامة ومستوى التعليم والميراث العائلي والجنس والسن.
بينما تسلّم بوش الإبن الحكم غداة انهيار الاتحاد السوفياتي وحسبان الولايات المتحدة أن في وسعها صوغ العالم على صورتها. فانتهجت سياسة خارجية تحت لواء قيم أمريكا العميقة، وانتصارها للحريات الفردية وحرية المعتقد الديني. وحاول بوش جمع النقيضين: التبشير الرسالي والبراغماتية، الانتصار للمؤسسات الديموقراطية وإيلاء الأمن الوطني الصدارة. فكانت العلاقة بين الصين والولايات المتحدة علاقة قوتين عظميين لا تجمع بينهما قيم مشتركة، وغاياتهما في السياستين الداخلية والخارجية متباينة.
11 أيلول/ سبتمبر وسعر اليوان
وتقارب موقف البلدين من مسألة تايوان حين أبلغت إدارة بوش الرئيس التايواني، في 2003، أنها لا تؤيد دعوته إلى إجراء يستفتي رأي التايوانيين في تمثيل تايوان في الأمم المتحدة، ورد وِن جياباو، في أثناء زيارة إلى واشنطن في كانون الأول/ ديسمبر 2003، بأن سياسة الصين ترمي إلى توحيد سلمي وتطبيق مبدأ "بلد واحد ونظامان" بوسائل سلمية. وصرفت هجمات "القاعدة" في أيلول/ سبتمبر 2001 انتباه الولايات المتحدة عن شرق آسيا إلى الشرق الأوسط وأفغانستان.
وطلبت الصين، وهي أرضاها هذا الانحراف، شراكة على قدم المساواة سندها قوة مالية واقتصادية وازنة. وانخرط البلدان في مناقشات حادة دارت على مسائل جيو- سياسية ناشئة مثل تسعير العملات وحقوق التصدير والاستثمار أو انتشار سلاح الدمار الشامل. وتحوَّل سعر صرف اليوان من مسألة ضئيلة إلى مشكلة كبيرة مع نمو الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة، وإلحاقها ضرراً بالغاً في القطاع الصناعي، وخسارة مرافق عمل يتردد أثرها السياسي في ولايات كثيرة تشهد أفولاً صناعياً حاداً في أثناء سريان نهج تقشفي وانكماشي جديد. وكان رد الصين، المضمر أو المعلن، أن سياسة نقدية تسهم في ترويج السلع المصنّعة في الأسواق الخارجية إنما تلبي حاجة صينية إلى الاستقرار الصيني.
وحين شرح ون جياباو، في أيلول/ سبتمبر 2010، إلى جمهور أمريكي من رجال الأعمال والسياسيين باعث الدولة على التمسك بسعر صرف منخفض عن سعر السوق الحرة، قال إن الأمريكيين يجهلون عدد الشركات الصينية التي يجرها التقويم السوقي إلى الإفلاس، وما يترتب على إفلاسها من اضطرابات سياسية واجتماعية. فدعت الولايات المتحدة الصين، وهي دعوة تتفق مع النهج الاقتصادي الأمريكي "السني" (الذي يقتفي السنن)، إلى توسيع استهلاكها الداخلي وتقليص صادراتها، فتتفادى إفضاء تقييد التصدير إلى زيادة البطالة ومترتباتها السياسية. وقد يسع الصين، بهذه الحال، إنشاء كتلة آسيوية متراصة مع أقرانها الإقليميين، وإقامة اتحاد محوره المحيط الهادئ.
الانتشار النووي والعهد الصيني
وفي الشأن الاستراتيجي الذي تتصدره المسألة النووية، برزت كوريا الشمالية وتسلحها قضية شائكة. فما تواضع عليه الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة ضمن تقريباً الحماية من حوادث طارئة مثل هجوم مفاجئ وقصف غير محسوب أو غير إرادي. إلا أن ما يُعلم عن شبكة الانتشار النووي الباكستانية، "صديقة" كوريا الشمالية وإيران، وليبيا قبل سقوط معمر القذافي و"تخليه" عن صناعته المحظورة، يؤذن بعسر تعيين مَنْ يردع مَنْ، وفي ضوء أي معايير.
وإلى هذا، كانت كوريا مسرح أوّل مواجهة عسكرية بين الولايات المتحدة وبين الصين في 1950. ويرتد تسلّح كوريا الشمالية على الصين سلباً، فيجر إلى تسلح اليابان- وهو موضوع خلاف اليوم بين إدارة جو بايدن وبين رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا- وكوريا الجنوبية، في جوار الصين المباشر، وربما جر فيتنام إلى التسلح، بينما التنسيق بين الدول الست، الولايات المتحدة والصين واليابان وروسيا والكوريتين أمر ملح.
وفي 2003- 2006، وهي سنوات ولاية هو جينتاو الأولى، خاضت الصين- على مستويات كثيرة ترجحت بين صوغ الرئيس الأمين العام "خطاً" يفسر صعود الصين، وكتابة وِن جياباو مقالة تندد بالثورة الثقافية، وبين نشر أحد ألسنة النظام، جينغ بيجيان، بياناً في فورين أفيرز في 2005 يتمسك بمبدأ صعود سلمي، وبث 12 حلقة تلفزيونية تناولت "صعود القوى العظمى"- (خاضت) في تعريف أحوالها وغاياتها. وانتهت إلى التنديد بالنهج الألماني، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، والنهج الياباني، عشية الحرب الثانية، وبصراع الدول في أثناء الحرب الباردة.
وحمل هو جينتاو، في خطبته أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة (2005)، "تعزيز النزعات الديموقراطية (في العلاقات الدولية)" على تقليص النفوذ الأمريكي على المجتمع الدولي، والسير على طريق عالم متعدد الأقطاب، والصعود السلمي، و"العالم المتناغم" مفهومان يتحدران من عصر الصين الكلاسيكي وعهود عظمتها. ولم تلبث المقالات الحكومية الصينية أن استبدلت "صعود" بـ"نمو" تحاشياً لإيحاءات المغالبة في اللفظة الأولى.
بين المشادة الساخنة في صدد تايوان والخشية من انكماش صيني تترتب عليه نتائج ثقيلة، تحتمل معاني متباينة منها احتمال النجاح في المحافظة على سلمية الصعود الصيني، وإرساء عالم متعدد الأقطاب على منافسة غير عدوانية
ويلاحظ هنري كيسينجير، في تعقبه الحلقات التي آلت إلى انعطافة شي جينبيغ الحادة بعد نحو العقد على هذه المرحلة، أن المناقشات والمواقف تلك عاصرت، زمناً، في 2007- 2008، أقسى أزمة اقتصادية غربية منذ الكساد الكبير في 1929، واضطراباً حاداً في العراق وأفغانستان. واتفقت، من وجهٍ ثان، مع تنظيم الصين دورة الألعاب الأولمبية، في 2008، على نحو انتزع الإعجاب و"بهر" العالم. ويعلق المؤرخ والمنظر الديبلوماسي على هذا التزامن، فينبه إلى أنه كان ذريعة إلى مقارنة الإخفاق الغربي، بعد أن اعتقدت النخب الصينية زمناً طويلاً بتفوق الغرب غير المنازع، بالإنجاز الصيني.
صعود و"أفول"
أيقن جمهور عريض من الشباب ومستعملي وسائط الاتصال الاجتماعي، وبعض القيادات السياسية والعسكرية بأنهم شهود على تغيّر أساسي في بنية النظام العالمي، وأن الصين عادت قطباً عالمياً، وعلامة يستدل بها على "معالم الطريق"، على قول سيد قطب في "نهضة" لم تتم. وأسرَّ زينغ بيجيان، صاحب "الصعود السلمي" ثم صاحب "النمو" محل الصعود، إلى صحافي غربي، غداة الألعاب الأولمبية، أن الصين طوت آخر مخلفات حرب الأفيون (البريطانية ثم الغربية على حظر الصين تجارة الأفيون في 1839- 1842 ثم 1856- 1860)، وقرناً من الكفاح ضد التدخل الأجنبي، وهي اليوم في قلب سيرورة من الانبعاث الوطني، بعد أن حلَّت إصلاحات دينغ شياوبينغ "اللغز" الصيني، وشقت الطريق أمام نمو العالم.
وبعد 2008، تعالت أصوات دعت إلى تناول "الصعود السلمي" من وجه مختلف. فالغرب لم ينفك قوة راجحة، ومصدر خطر على الصين. وهو لن يقر لها بحيازة أدوات أو آلات توسع متناغم. وعليها، إذن، المطالبة الحازمة بموقع قوة عالمية عظمى.
وحظي كتابان، في هذا المعرض، بجمهور قراء عريض. صدر الأول في 2009، تحت الوسم التالي: "الصين تعيسة: الحقبة الكبيرة، الهدف الكبير وقلقنا الداخلي وموضوعاتنا الخارجية". وصدر الثاني في 2010: "الحلم الصيني: نهج تفكير قوة كبيرة والنهج الاستراتيجي في الحقبة ما بعد الأمريكية"، وكتبه ليو مينغهو، وهو ضابط ذو رتبة عالية في جيش التحرير الشعبي. وينم الكتابان، غير الرسميين ولا المأذونين، بنازع قومي عميق. وينعيان على الغرب، "الجماعي" قبل الصفة الروسية، ضعفه "فوق حسباننا"، وغفلته عن ميل ميزان القوى إلى الصين- ويأخذان على الصين، تمسكها بالتدرج، ونسيانها "رسالتها التاريخية"، وتركها تحديد "غاية عظيمة" لسياستها.
ويدعو صاحب الحلم الصيني الصين إلى التربع في سدة العالم من غير انتظار، وإلى طرد الولايات المتحدة، وتدبير عالم متناغم بالحكمة والاعتدال الصينيين، على خلاف أمريكا. ويرى ليو، مؤلف الكتاب، أن الصعود العسكري ينبغي أن يلازم الصعود الاقتصادي. فطبيعة القوى العظمى السياسية "نزاعية" أو عدوانية.
ورد المستشار (أعلى مسؤول عن السياسة الخارجية) داي بينغ غويو، في كانون الأول/ ديسمبر 2010، في بيان جامع على الكتابين: "التوسع السلمي ليس حيلة، وليس وهماً ساذجاً تداري به الصين إنجازاتها، بل هو الطريق المستقيم الذي يخدم مصالح الصين والوضع الدولي". ويحمل المستشار ازدهار الصين في العقود الثلاثة الأخيرة على اندماجها في العالم. وربطها مواهبها ومواردها بنظام عالمي واسع. والتغيرات "المزلزلة" تقتضي ترك الاستقلال المطلق الذي دعا إليه ماوتسي تونغ. والصين لا تريد الحرب ولا تريد الثأر. والناتج المحلي الإجمالي، على ضخامته، ينبغي توزيعه على 1.3 مليار شخص...
وفي أثناء زيارة وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين الأخيرة إلى بكين، في الثلث الأول من شهر تموز/ يوليو 2023، زاوجت الصين موقفين مختلفين. فقيدت تصدير معادن ترابية نادرة، تُستعمل في الصناعات الإلكترونية، إلى الولايات المتحدة، وحجزت على شركات عاملة محلية، من وجه، وطمأنت، من وجه آخر وأعم، الولايات المتحدة إلى التزام الحكومة، على لسان شي جين بينغ، "حماية المستثمرين الأجانب"، وحقوقهم ومصالحهم.
وجدد الصيني الأول، غداة قدوم وزير الخارجية الأمريكي إلى بكين وإلحاحه عليها في بعث المفاوضات العسكرية المباشرة، ترتيبه أولويات الصين وتقديمها النمو "أولوية قصوى" على أولويات أخرى. وشرطه، على ما انتهزت الوزيرة الأمريكية "العاقلة" (لقبها الصيني) الفرصة وذكرت به، هو "الممارسات القائمة على السوق"، على خلاف نازع شي جين بينغ إلى مركزية متشددة تنحو إلى ما يرى فيه بعضهم تجدد عناصر "كليانية" (شمولية أو توتاليتارية). وتجديد الأولوية الاقتصادية، بين المشادة الساخنة في صدد تايوان وبين الخشية من انكماش صيني يراه بعضهم واقعاً وتترتب عليه نتائج ثقيلة، تحتمل معاني متباينة منها احتمال النجاح في المحافظة على سلمية الصعود الصيني، وإرساء عالم متعدد الأقطاب على منافسة غير عدوانية "تتسع للمتنافسين"، على قول الوزيرة يلين، ولا تخلو من "هامش مناورة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.