شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"أخذني الجنّي، وأدخلني أساطير ألف ليلة وليلة"... رسائل لوسي دوف جوردون من مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الأحد 6 مارس 202202:55 م

"أكتب إليكِ من قلب الليالي العربية الحقيقية، لعل النبي محمد – الممجد اسمه- يسعد حين يتطلع إلى القاهرة، إنها ذات وجود ذهبي، كل شيء مشرق وشاعري، وأضيف أنا الرقة والرقي". هذا هو مطلع الرسالة الأولى التي كتبتها، الأديبة والمترجمة الإنكليزية لوسي دوف جوردون إلى أمها سارا أوستن من القاهرة، في الحادي عشر من شباط/نوفمبر عام 1862، وهو ذاك العام الذي جاءت فيه الكاتبة إلى مصر، للاستشفاء من مرض السل وسط الطبيعة الجافة، لكن الرحلة العلاجية، ما لبثت أن تحولت، إلى حياة فريدة واستثنائية، عاشتها لوسي، متنقلة في أرجاء مصر، حتى وفاتها في القاهرة عام 1869، عن عمر ناهز 48 عاماً.

في مائة وثلاثين رسالة موجهة، إلى أمها، وزوجها، وأولادها، وثقت دوف جورودن حياتها في مصر، وقد تصدى الكاتب والروائي إبراهيم عبد المجيد، لترجمة الرسائل الكاملة، معتمداً على النسخة القديمة، والتي شملت نسختين سابقتين هما: رسائل من مصر عام 1865، والرسائل الأخيرة من مصر عام 1875. وصدرت ترجمة عبد المجيد في كتاب ضخم عن دار بيت الياسمين للنشر، شاملة، ذكريات ابنتها جانيت روس، ومقدمة للشاعر والروائي جورج ميريديث.

جوردون التي وصلت محبةُ المصريين لها عنان السماء، سارت في الطريق المضاد للاستشراق، حيث ألقت بنفسها في معترك الحياة المصرية، منغمسة حد الذروة وسط البسطاء

تُمثل رسائل دوف جوردون، صورة للإنسانية في أعلى تجلياتها، حيث تتكشف من خلالها، الحياة الحقيقية للمجتمع المصري آنذاك، مجردة من النزعة الاستشراقية، التي اتسمت بها كتابات الأجانب الذين عاشوا في مصر في زمن الاستشراق، حيث قدموا رؤية فلكلورية لمصر، كإحدى دول الشرق، بمعزل عن مكونها الحضاري وخصوصيتها الثقافية.

فـجوردون التي وصلت محبة المصريين لها عنان السماء، سارت في الطريق المضاد للاستشراق، حيث ألقت بنفسها في معترك الحياة المصرية، منغمسة حد الذروة وسط البسطاء؛ تُنصت بإخلاص إلى معاناتهم الحياتية، وإلى الظلم والجبروت الذين عاشوا تحت سطوتهما في فترة حكم الخديوي إسماعيل، علاوة على ذلك، كانت تُداوي المرضى من الدوسنتاريا والربو، والأمراض الأخرى المتفشية بين البسطاء والفقراء، لأنهم لا يثقون في طبيب الحكومة، بل إنهم لا يثقون في أي شيء يأتي من جانب "السلطة" التي يكنوا لها كل الكراهية.

وثمة عبارة، ذكرتها الكاتبة في إحدى الرسائل، هي بمثابة المفتاح، لهذه الإنسانية التي اتسمت بها رؤيتها، وقراءتها للمجتمع المصري. تقول جوردون: "هنا لا أستطيع أن ألوم أحداً، فهذا هو حال المجتمع، وهذه هي حياتهم، وعلي أن أحترمها.". بهذه العبارة التي تنطوي على فهم عميق لمعنى الخصوصية، دخلت لوسي حياة المصريين من الباب الواسع؛ رآها البسطاءُ ملاذاُ لهم في الحياة، ولم يعترفوا بغيرها مبعوثاُ للإنسانية. لقبوها بـ"البشوشة"، "الست"،و "نور على نور"، وكانوا يبتهلون من أجلها، ويدعون لها بالشفاء في مولد سيدي أبو الحجاج بالأقصر، ومولد سيدي عبد الرحيم القناوي بقنا.

لقبوها بـ"البشوشة"، "الست"،و "نور على نور"، وكانوا يبتهلون من أجلها

عاشت دوف جوردون في الأقصر في بيت فرنسا، التابع للسفارة الفرنسية، ومنه كانت تتنقل إلى القاهرة والإسكندرية، بمصاحبة خادمها وملاكها الحارس، عمر أبو حلاوة، الشخصية المحورية في حياتها في مصر. وقد التقت بشخصيات نادرة، على رأسهم الشيخ يوسف أبو الحجاج، وكان دارساً في الأزهر، وواعظاً في مسجد أبو الحجاج. وإلى جانب ذلك، كان كاتباً للقنصلية الإنكليزية ومعلماً للقرآن، والدكتور عثمان إبراهيم التي فرحت به لتعمقه في قراءة الأدب الإنكليزي، والحكيمباشي علي أفندي، وجمع من شيوخ البلد وشيوخ قبائل العبابدة، وهكيكيان بيك الأرمني الذي يُنسب إليه دخول زراعة اليوسفي في مصر. أما حكاياتها عن العبيد الصغار والنساء المصريات، فهي قطع أدبية فاتنة.

حفلت رسائل دوف جوردون بالصور الحية، لمظاهر الحياة الاجتماعية والدينية للمصريين، مع رؤية عميقة للأبعاد التاريخية لهذه المظاهر، ولعل ما أضفى على الرسائل هذه الروح الحية، هو أن الكاتبة الإنكليزية، لم تكن مجرد راصدة، أو مشاهدة محايدة للأجواء المصرية، بل كانت فاعلة ومشاركة في كافة الاحتفالات، والطقوس.

بصحبة عمر أبو حلاوة، تجولت لوسي في الشوارع، تتأمل الحياة البسيطة للمصريين، منبهرة بتفاصيلهم وملابسهم وسلوكياتهم، منتقدة نظرة الغرب المتعالية والمتغطرسة لهم؛ تقول: "الناس ودودون ووقورون على نحو مدهش، الغلمان يُشبهون تمثال الإله الروماني ميركيوري للفنان الإيطالي جون البولوني، لهم أقدام إلهية والنساء الصغيرات جذابات جداً في ثيابهن الرثة المهلهلة، رأيت بين الرجال البدو اثنين كانا الأكثر وسامة بين من رأيت من قبل، وكذلك أبهجتْني الجِمال وأشجار النخيل".

كانت تُشارك المصريين في احتفالاتهم بالموالد، وتحديداً مولد سيدي أبو الحجاج بالأقصر. تتبرع للمساجد بالأموال، وتقوم بشراء الفوانيس لإضاءتها في شهر رمضان، تواسي الناس في أوقات الشدة، وتذهب مع النساء إلى الجنازات، كما تُشاركهن الأفراح. وفي إحدى الحفلات التي أقامها هكيكان بيك الأرميني، فُتنت بـ"ساكنة"، المطربة المصرية الأشهر في ذلك الزمن: "استمعت إلى أغاني ساكنة، آسرة القلوب، إنها رائعة مثل راشيل (مغنية مذكورة في الإنجيل)، وغناؤها مزيج من التعبير الجميل والمشاعر. إنها في الخامسة والخمسين من عمرها، لجسدها شكل الفهد ورشاقته، وصوتها فريد في جماله، خشن لكنه مثير. لقد ظننتها في الثلاثين أو ربما الخامسة والثلاثين. حين كانت تُغني وترتجل فإن براعتها كانت ساحرة. وكنتُ في حالة من سيصيح من قلبه (الله) كما يفعل المواطنون".

الشيء الفريد في رسائل دوف جوردون، يكمن في وعيها العميق، بالامتداد الحضاري والتاريخي لمصر، ورغم أنها شديدة الإيمان بالعقيدة الأرثوذكسية، إلا أنها لم تبد أي تطرف لمعتقدها الديني

وفي أحد الأيام تركت لوسي خادمها والرجال المحيطين بها، لتتمشى بمفردها بين النساء وهن يحملن جرار الماء: "ككائنات جميلة حلوة يبتسمن كلهن ويتراقصن". أشارت لها إحدى النساء، لتذهب معها إلى القرية وتأكل من طعامها، وهكذا فعلت، وكانت هذه الزيارة، هي فحوى إحدى الرسائل إلى زوجها: "أنا لن أنسى أبداً هذه المخلوقات الحلوة المتعاطفة في القرية الصغيرة ولا الأدب الجليل لنساج عجوز ظهر لي فدخلت محله، والذي أيضاً رغب في إحضار مجموعة من الخبز لي. إنها الحياة الرعوية الشعرية كما جاءت في الإنجيل، تجدها في القرى التي لم يغزُها الإنجليز ومن حسن الحظ أنهم لم ينزلوا في هذه الأراضي الصغيرة".

على الجانب الآخر، من هذه الصور الزاهية والمشرقة، والحياة البسيطة المتناغمة، رصدت دوف جوردون صوراً للبؤس والفقر الذي يعيش فيه المصريون؛ فالقصور مهجورة والأكواخ مزدحمة، والكثيرون لا يجدون قوت يومهم، والأطفال شاحبون، بطونهم ضامرة من الجوع: "كل الوجوه حزينة بسبب الفقر، لكنها ليست مجرمة. كانت الأرواح الفقيرة عارية نظيفة بقدر ما يُنظفهم ماء وطمي النيل، ولم يكن لدى الواحد منهم رداء آخر غير ما يرتديه ولا فراش إلا أرضاً جافة. الرشاقة كلها في المشي والإيماءات، إنهم رشيقون مثل القطط، وللنساء نهود كالرمان كما يقول الشعر عندهم".

الشيء الفريد في رسائل دوف جوردون، يكمن في وعيها العميق، بالامتداد الحضاري والتاريخي لمصر، ورغم أنها شديدة الإيمان بالعقيدة الأرثوذكسية، إلا أنها لم تبد أي تطرف لمعتقدها الديني. رؤيتها للمسألة الدينية شديدة العمق، والإدهاش؛ فهي مثلاً ترى "السيد البدوي"، تجسداً آخر لأوزوريس، وثمة رجل بسيط، رأته صورة أخرى لسيدنا إبراهيم، وذات مرة حين زارتها امرأة بدوية، كانت ترتدي – بحسب وصفها- كساءً أبيض من الخيش، رأتها لوسي وهي سائرة تجاه الصحراء وقت الغروب، صورة جديدة للسيدة هاجر زوجة النبي إبراهيم: "كانت في رحلتها وحيدة وبدا مؤثراً ومهيباً أن نراها تتجه إلى الصحراء وقت الغروب. لقد رأيتها صورة أخرى للسيدة هاجر".

"لقد أخذني الجني، وأدخلني أساطير ألف ليلة وليلة، ولم أعد أعرف من أنا"

ثمة روح شاعرية حالمة، تميزت بها دوف جوردون، وقد تجسدت هذه الروح في الكثير من رسائلها التي تحكي فيها لزوجها عن الجو الأسطوري الذي يحوطها في مصر، حتى خُيل لها أنها إحدى شخصيات ألف ليلة وليلة. تقول لزوجها: "لقد أخذني الجني، وأدخلني أساطير ألف ليلة وليلة، ولم أعد أعرف من أنا".

ولعل هذه الروح الشاعرية الحرة، هي ما ساعدتها على تحمل آلام مرضها، وتقبلها للموت بهدوء، لتكتب وداعاً رقيقاً لزوجها: "أستطيع أن أنتظر صابرة حتى النهاية بين أناس طيبين ومحبين. إن مغادرة الأقصر مشهد محزن، فهم على يقين أنهم لا يستطيعون أن يفكروا في رؤيتي مرة أخرى. إن رقة الناس مؤثرة من أول القاضي الذي أعد مقبرتي بين عائلته من الفلاحين".

وتُشير جورودن في إحدى رسائلها إلى أمها السيدة أوستن، إلى روح التسامح السائدة بين المسلمين والأقباط في مصر: "لم أرَ حتى الآن أي ملمح لروح التعصب التي يتحدث عنها الناس، فالاعتقاد الإسلامي ليس كما يتصوره الأوروبيون، إنه مليء بالعواطف الرقيقة وأكثر عاطفية وتسامحاً مما نتصوره".

بحسب ابنتها جانيت روس، كان العامان الأخيران من حياة لوسي جوردون معركة طويلة وقاسية مع المرض، لكن جانيت لم تتمكن من وداع أمها، حيث ماتت قبل وصولها إليها، في 14 تموز/يوليو 1869، ودُفنت في القاهرة، على عكس رغبتها، حيث كانت ترغب في أن تُدفن "بين أهلها في طيبة". تقول جانيت: "كانت رغبة أمي أن تُدفن بين أهلها في طيبة، لكنها حين عرفت أنها لن ترى الأقصر ثانية، أعطت أمراً بأن تُدفن بأسرع ما يمكن في مقابر القاهرة. لقد تحملت أمي ألماً كبيراً، بشجاعة كبيرة وقوة روحية هائلة، عاشت بين جيرانها المصريين البسطاء الذين أحبوها حتى العبادة، ولم ينسوا قط –كما أخبروني- السيدة العظيمة التي كانت خيراً عظيماً لهم".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image