شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"السيرما" في مصر... إحياء فن كسوة الكعبة بعيداً عن موسم الحج

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والفئات المهمشة

الثلاثاء 8 أغسطس 202303:05 م

لا يوجد ثبت مؤكد حول التاريخ الذي بدا في ارتباط مصر بكسوة الكعبة في مكة المكرمة، البعض يعيد ذلك التاريخ إلى أيام الغزو الأولى مع وصول عمرو بن العاص، البعض الآخر ينسب البداية إلى حكم الفاطمين، في حين تشير مصادر إلى كون ارتباط مصر بكسوة الكعبة بدا في عهد الظاهر بيبرس الحاكم المملوكي. 

لكن بعيداً عن التواريخ، تبقى حقيقة ان مصر وحرفييها قضوا قروناً ينسجون ويطرزون كسوة الكعبة، مرسخين الفنون التي ارتبطت بذلك الكساء حتى وإن لم تعد خدماتهم مطلوبة منذ أعادت المملكة العربية السعودية الكسوة القادمة من مصر ورفضت تسلمها نتيجة خلافات بين حاكمي الدولتين في فترة الستينيات من القرن الماضي. 

انقطع المصريون عن كساء الكعبة، وكادت الحرف المرتبطة به وعلى رأسها "السيرما" أن تدخل طور الاندثار مثل كثير من الحرف التراثية الأخرى، إلى أن أتاها أبناء المنوفية. 

أحد ورش السيرما في المنوفية

من "أشمون" يحيون الفنون 

استمرت صناعة "الكسوة" والفنون المرتبطة بها في مصر كجزء من الصناعات التراثية في منطقة الخيامية الشهيرة بصناعة النسيج، حتى أوائل الثمانينيات. لكن الحرف ظلت معتمدة على السياحة الأجنبية التي تهتم بشراء التذكارات المصنوعة والمشغولة يدوياً في منطقة الحرف التقليدية في القاهرة التاريخية. 

الجيل الأول من أرباب الحرفة أغلبه اعتزل. والأجيال بدأت في التناقص بسبب عدم وجود مدخول كاف  فيفضل الشباب العمل سائقين على التوكتوك، لقلة المجهود المبذول، وارتفاع الدخل عن مثيله من مهنة تطريز "السيرما"

لكن الاعتماد على السياحة وحدها لم يكن كافياً، وتراجعت كثير من الحرف وتركها العاملون بها، إلى أن جاء من وجدوا سبيلاً لإنقاذ حرفة "السيرما" التي ارتبطت لقرون طالت بتطريز كسوة الكعبة.

أحد ورش السيرما في المنوفية

"السيرما" هي تطريز الحروف بخيوط الذهب والفضة فوق النسيج. بريق تلك الخيوط اجتذب أبناء قرية شما التابعة لمركز أشمون بمحافظة المنوفية، الذين جاءوا واحداً بعد الآخر للقاهرة في نهايات السبعينيات واستقر بهم المقام في الخيامية، ليصبحوا خلال 4 عقود ملوك حرفة "السيرما" في القاهرة التاريخية، وتنشط حاستهم التجارية المعروفة عن أبناء المنوفية ليخلقوا أسواقاً جديدة في تركيا والخليج العربي، وتنتقل معهم الحرفة من مقرها التاريخي الذي استقرت به قروناً في القاهرة، لتتخذ من قريتهم الأم مركزاً لها. 

من بين الذين نقلوا فن السيرما إلى قرية "شما" الحاج أحمد رزق، مدير أحد الورش بالقرية، وبحسب رزق فالمهنة لم تبدأ بصناعة نماذج محاكاة كسوة الكعبة، وإنما بدأت مع "الخشخانة"، وهو فن مقارب للسيرما حيث يتم استخدام المعادن في تزيين الأقمشة وصناعة لوحات فنية تعتمد على الآيات القرآنية بالدرجة الأولى، ورسوم وعبارات أخرى مختلفة، ثم انتقلت لفن "القصب" وهو فن تستخدم فيه الخيوط المذهبة لعمل لوحات صغيرة، إلا أن تشبع السوق بهذا الفن دفع أصحاب الورش للتحول لفن السيرما وهو صناعة نماذج تشبه كسوة الكعبة.

يوضح رزق: "نحن لا نصنع كسوة الكعبة، وإنما نماذج محاكاة لقطع منها، كالباب أو الحزام أو القناديل، وهي قطع صغيرة مزينة بأذكار مثل "الحمد لله" و"الله أكبر" أو "يا حي يا قيوم" أما الباب فهو أكبر القطع حيث يزيد حجمه عن 6 أمتار". 

أحد ورش السيرما في المنوفية

ويوضح أن ورش القرية منذ أعيد توطين الحرفة فيها تعتمد على التصدير لأثرياء دول الخليج بدرجة كبيرة وكذلك السوق التركية "الناس هناك بتحب تزين بيوتها وقصورها بما يشبه كسوة الكعبة". 

هناك نوعان من فن السيرما الأول هو "المكِّي" ويقصد به محاكاة كسوة الكعبة، والثاني هو "العثماني"، ويصنع منه الستائر والتكايا أو المساند، ويتفق الاثنان في النقوش المستخدمة والمعدن المستخدم في الخيوط، ويختلفان في نوعية القماش والمنتج النهائي

ملاذ الباحثين عن عمل 

نصر نوح هو واحد من شباب القرية الذين تعلموا الصنعة بعد أن نجح فيها شقيقه. 

لم يوفق نوح في إيجاد فرصة عمل بعد تخرجه في كلية التجارة، ففضل تعلم الحرفة والتخصص فيها فوراً على انتظار فرصة عمل تتسق مع مؤهله الدراسي، إلا أنه يخشى أنه لم يعد هناك كثيرون مثله، يتجهون لتعلم تلك الحرفة التي أنعشت مستويات المعيشة في القرية، "لم يعد هناك شباب. وإنما يمارسها الموظفون الذين يعتبروها فرصة دخل إضافية فقط".

وبحسب نوح، هناك نوعان من فن السيرما الأول هو "المكِّي" ويقصد به محاكاة كسوة الكعبة، والثاني هو "العثماني"، ويصنع منه الستائر والتكايا أو المساند، ويتفق الاثنان في النقوش المستخدمة والمعدن المستخدم في الخيوط، وهو النحاس المطلي بالذهب أو الفضة، أو حتى خيوط الذهب - حسب المشتري- ويختلفان في نوعية القماش والمنتج النهائي.

أحد ورش السيرما في المنوفية

وتمر صنعة السيرما بعدة مراحل، تبدأ أولاً - حسب نوح- بالخطاط، الذي يقوم برسم النقوش المطلوبة على ورق بمقاييس الرسم المطلوبة حسب القطعة التي يتم تنفيذها، ثم تطبع تلك النقوش على ما يعرف بورق "الكلك"، وهو ورق مخصص للطباعة يجري تطبيقه على القماش لنقل الرسوم، ثم تأتي مرحلة حشو النقوش والخطوط والرسوم بالخيوط، ثم العمل على هذه الرسومات باستخدام معدن النحاس الذي يتم سحبه ليتم تحويله لخيوط رفيعة يمكن استخدامها في التطريز، أما المرحلة النهائية، فهي تثبيت الخيوط المعدنية على الرسومات المحشوة بالخيوط.

ومثل كافة الحرف اليدوية يستغرق إنتاج قطعة واحدة عدة أسابيع. يقول نوح: "هناك اختلافات في الوقت المستغرق في القطعة بحسب حجمها، إلا أن أكثر القطع التي تتطلب وقتاً طويلاً هو الباب لكبر حجمه، ويمكن أن يقضي فيه فريق الورشة المكون من 12 فرداً، أكثر من 6 أسابيع لإنجاز باب واحد. أما القناديل، فتستغرق وقتاً لا يزيد عن 5 أيام من فرد أو فردين على الأكثر".

أحد ورش السيرما في المنوفية

منافسة هندية

"الأزمة أن السوق محدود"، يتدخل شقيقه أحمد نوح، موضحاً لرصيف22: "السوق في مصر محدودة، فلا معارض أو سوق مجهز، خاصة وأن الفئة التي ترغب في هذه المنتجات هي الأغنياء. والسوق الأساسي للتصدير، رغم أن إقامة المعارض يمكن أن يجتذب الفئة التي تحب هذا النوع من الفن، لاسيما أن الهنود بدأوا في المنافسة في هذا الفن".

وأوضح أحمد "الجيل الأول من أرباب الحرفة أغلبه اعتزل. والأجيال بدأت في التناقص بسبب عدم وجود مدخول كاف كما كان في بداية الامر، لذلك لا يعمل بها حالياً سوى الموظفين الذين يعملون في التطريز كمهنة إضافية فقط، بينما يفضل الشباب العمل سائقين على التوكتوك، لقلة المجهود المبذول، وارتفاع الدخل عن مثيله من مهنة السيرما". مشيراً إلى أنه "من عشر سنوات فقط كان نحو ألف من شباب القرية يعملون بهذه المهنة، أما الآن فالعدد أقل بكثير".

مشكلة أخرى أشار لها أحمد هي عدم وجود تأمين صحي أو اجتماعي للعاملين في الورش، رغم إمكانية تعرضهم للإصابة أو العدوى بسبب أدوات التطريز الحادة التي يمكن أن تصيب اليد أو العين، مما يقعد العامل عن العمل بصورة نهائية، بالإضافة إلى أمراض المهنة الأساسية وهي الانزلاق الغضروفي بسبب الجلوس لفترات طويلة أو ضعف النظر.

----------------

تصوير نادية مبروك

أحد ورش السيرما في المنوفية


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image