هل خذل الشعر محبّيه؟ سؤال بريء، ربما يحمل الكثير من الرومانسية، لكنه في الوقت نفسه يشير إلى معضلة كبرى تتمثل في علاقة الشعر بالعالم، بل الوظيفة المقدسة التي نزل بها ليحرر البشر من أوهامهم التقليدية، ربما ليغذيهم بأوهام أجمل وأبهى.
من هذا المنطلق اختار كثير من الشعراء التمرد والرفض، رفض العالم في محاولة بناء عالم جديد، رفض القيم السائدة والأوضاع القائمة والمشاعر الزائفة، لتتجلى وظيفة الشعر الحقيقية في مدى الشفافية التي تتمتع بها الروح كي تدرك ماهية العالم وتكشفه على حقيقته، وتفضح ما به من زيف وتصنُّع وكذب وخداع.
ومن المؤلم حقاً أن يفقد الشعر ثلاثة من أبنائه المخلصين في شهر واحد، يوليو/ تموز. الشاعر محمود قرني والشاعر سامي الغباشي والشاعر عبد الحفيظ طايل.
ثلاثة شعراء مصريين من جيل التسعينيات الذي كان بمثابة حالة ثورية في القصيدة العربية، امتاز كل منهم بأسلوب خاص وطريقة فريدة في التعامل مع الشعر انطلاقاً من رؤيتهم إياه وسيلة للرفض والتمرد، وخروجاً عن المألوف، وتحدياً للأطر والثوابت العقيمة. مساحة لحياة أخرى بديلة، ربما أصبح الشعر بالنسبة لهم نموذجاً مثالياً لما يجب أن يكون عليه العالم.
هذه محاولة تثبيت لحظة ونعي خسارة ثلاثة شعراء مصريين من جيل التسعينيات الذي كان بمثابة حالة ثورية في القصيدة العربية، رحلوا جميعاً عنا في يوليو/ تموز، شهر الفقد والألم
قرني: السائل بلا إجابة
الشاعر الراحل محمود قرني طرح هذا السؤال بطريقة مباشرة: لماذا يخذل الشعر محبيه؟!
وفي الإجابة على هذا السؤال الصعب يشير إلى نماذج كثيرة رفضت الخضوع لمفردات العالم وقررت مقاومته بشتى الطرق، ومن هنا صنعت طابعها المميز.
ينحاز قرني إلى هؤلاء. ينضم إليهم بدواوين تشهد له بالتفرد والصلابة والرفض والمغايرة، بداية من ديوانه الأول "حمّامات الإنشاد – 1996"، مروراً بدواوينه خيول على قطيفة البيت، هواء لشجرات العام، طرق طيبة للحفاة، الشيطان في حقل التوت، أوقات مثالية لمحبة الأعداء، قصائد الغرقى، لعنات مشرقية، و تفضل… هنا مبغى الشعر" ومن بعدها "ترنيمة لأسماء بنت عيسى الدمشقي"، ثم عدد من المختارات الشعرية وأخيراً، وللمفارقة، يصدر آخر دواوينه "مسامرات في الحياة الثانية 2022".
في هذه الدواوين رسخ قرني حساً فريداً في الشعرية العربية، فهو يمزج بين وعيين كبيرين: أحدهما الوعي العربي الأصيل المتماهي مع تاريخ الشعر العربي وحكاياته الهامشية المثيرة للدهشة والفضول، وبين الثقافة الغربية وقراءاته المتنوعة والعميقة في هذا الجانب.
في ديوانه "تفضل... هنا مبغى الشعراء" يعبر عن شعرية الرفض والتمرد والسخرية وربما الألم والمرارة قائلاً في قصيدة قوس قزح:
"تساءل عامل الحديقة:
لماذا صار الفيزيائيون كلابا؟
ولماذا صار الشعر شعرا؟
كان الشاعر يحمل أدرانه بين ضلوعه
ولا يملك إجابة
كان يلتمس هواءً جديداً
لصدره المعطوب
لكنه، في النهاية،
بكى وحيداً
على حافة نهر بعيد".
رحل محمود قرني عن عالمنا بعد معاناة مع المرض الذي واجهه بكل أنفة وصلابة، وكان رحيله طعنة في ظهر الشعر، أو ربما هكذا شعرت حين عرفت الخبر، وعزاؤنا أنه ترك وراءه إرثاً كبيراً، سيظل راسخاً في الشعرية العربية.
الغباشي: كلمة ومنحوتة
كانت الفاجعة الأخرى أو الطعنة الثانية هي رحيل سامي الغباشي.
الجميع استقبل الخبر بذهول وعدم تصديق، سامي كان ودوداً بشوشاً محباً للجميع، ويحبه الجميع. وكان – رغم اختياره العزلة والابتعاد عن الوسط الأدبي بقدر المستطاع – يكرس وقته للشعر وللنحت الذي يعشقه.
في الشعر، ظل سامي يراهن على القضايا العامة، يعتبر الشعر رؤيته الحقيقية الصافية الشفافة للعالم، الرؤية الصادقة المخلصة بعيداً عن أي زيف أو تلوث أو تصنع. كان منحازاً للهامش، ويعتبر الهامش هو المتن الحقيقي للمشهد الشعري والثقافي عموماً، بينما المتن الرسمي لم يكن يمثل في نظره سوى مجتمع استعراضي مصطنع.
عرفت سامي في نهاية التسعينيات، تقريباً عام 1998، أعجبني اسم ديوانه الأول الذي قرأته بشغف "فضاء لها ومسافة لي - 1995"، لاحظت منذ البداية شغفه بالشعر، وضرورة أن تكون هناك نوافذ ومنصات تعبر عن الهامش الشعري وعن الجيل الجديد، خاصة مع ثورة قصيدة النثر وحضورها الطاغي منذ بداية التسعينيات، وبالفعل أصدر سامي كتاباً غير دوري بعنوان "تكوين 2000"، ورغم أنني كنت في سنواتي الأخيرة بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة وقتها، كان لي الحظ أن شاركت في هذا الكتاب في الإصدار الأول، وكذلك الإصدار الثاني الذي لم يخرج إلى النور لأسباب ظلت غامضة بالنسبة لي.
يأتي رحيل هؤلاء الثلاثة خلال شهر واحد، فاجعة للوسط الشعري في مصر، لما يمثلونه من كتابة مختلفة ومخلصة، وربما بسبب اختياراتهم التي صنعت طريقهم المميز بالاستقلالية والصدق
ولكن بقي سامي يمثل روحاً شعرية خلاقة، بسيطة، منحازة لليومي، لقضايا الشارعوالناس. يرفض التهويمات الشعرية التي تسبح في فضاءات الخيال دون هدف واضح أو محدد، يفضل أن يكون الشعر معبراً عن الشاعر وعن اللحظة الآنية، عن إحساسنا بالعالم ومقاومتنا له، وكأنه يريد الشعر مباشراً وصريحاً وكاشفاً دون استهلاك أو ابتذال.
هكذا خط سامي الغباشي تجربته الشعرية في عدة دواوين هي "هزيمة الشوارع"، و"تسميهم أصدقاء، رصيف يصلح لقضاء الليل، قلب على طاولة، عند حافة الكراهية، وصورة سيلفي مع الحياة"، والأخير هو الديوان الذي أعلن الشاعر عن قرب صدوره قبل أيام من رحيله، ونشر منه قصيدة على صفحته في فيسبوك بعنوان "خبر وفاة مفاجئ على الفيس بوك"، وكأنه يتوقع رحيله، حتى أن كثيراً من أصدقائه ومحبيه والمقربين منه اعتقدوا أن خبر وفاته ربما يكون نوعاً من تحقيق القصيدة واختبار محبتهم، خاصة أنه لم يكن يعاني من مرض أو أزمات صحية ورحل وعمره 55 عاماً. تقول القصيدة:
عندما ينتشر خبر وفاتك على الفيس بوك
ستجدُ حتى القتلة وحاملي الخناجر
يرفرفون حول اسمك وصفحتك كعصافير
وسيبحثون عن أى صورةٍ معك
ليكتبوا فوقها
كم كنت جميلاً جداً
أيها الرجل الطيب كسنبلة..،
عبد الحفيظ طايل: قهر الشعر والنضال
الطعنة الثالثة في ظهر الحركة الشعرية رحيل الشاعر عبد الحفيظ طايل، وهو واحد من شعراء جيل التسعينيات، توفي في القاهرة في نهاية الشهر المنقضي، كان عبد الحفيظ يكتب الشعر بروح تحاول أن تكتشف العالم من جديد، بالتوازي مع عمله الحقوقي، فهو مؤسس المركز المصري للحق في التعليم، وله العديد من المآثر والمواقف المخلصة لإصلاح حال التعليم في مصر، استطاع عبر دواوينه "يحدث – 1996" و"حكايات الشرفة، ويحمل جثة ويغني، وعائلة يموت أفرادها فجأة، ومدمن الغناء"، بالإضافة لرواية "فقه الانتهاك"، أن يرسخ لحالة خاصة في الكتابة الشعرية.
وربما أدت معاناته مع المرض في الفترة التي سبقت موته إلى تمتعه بشفافية روحية فبدأ يكتب عن الموت بطريقة حميمية، ظهر ذلك في قصائد متعددة، منها آخر قصيدة نشرها أحدث عدد من مجلة إبداع الصادر قبل وفاته بأيام، يقول طايل في القصيدة المعنونة "حارس المقابر":
أنا حارس مقابر
أعرف الموتى ويعرفونني
في الليل نتسامر
نجلس حول أكواب الشاي الساخن
ندخن ونحكي
أحياناً نمارس النميمة
خاصة إذا غاب أحدنا عن الجلسة
نخمن الأسباب
ومن يفز يحصل على جائزة
نعرف أن الحياة طويلة وشاقة
مملوءة بالكد والمجاهدة
لكننا نعرف
أن ما يبقى منها
هو بعض حكايات لطيفة
وبعض أغان
تصلح لجلسات السمر.
رحيل هؤلاء الثلاثة خلال شهر واحد، فاجعة للوسط الشعري في مصر، لما يمثلونه من كتابة مختلفة ومخلصة، وربما بسبب اختياراتهم التي صنعت طريقهم المميز بالاستقلالية والصدق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه