على الرغم من أن القناة الرسمية التونسية "التلفزة الوطنية"، امتنعت منذ فترة طويلة عن استقبال معارضين سياسيين وتغطية نشاط الأحزاب المعارضة وحتى الموالية للنظام، كما أعلنت عن مساندتها الرسمية لنظام 25 نموز/ يوليو، من خلال فحوى البرامج التي تبثها ومواقف الضيوف الذين تستقبلهم، فإن رئيس الجمهورية قيس سعيّد، كان قد انتقد وبشدة الخط التحريري للتلفزة العمومية، عادّاً أن ترتيب الأخبار فيها غير بريء وأن برنامج "من الزمن الجميل" ما هو بجميل، داعياً إلى بث برامج تتعلق بمطالب التونسيين.
محاولات هيمنة وتوجيه
أثارت توجيهات وانتقادات قدّمها رئيس الجمهورية، للمديرة العامة للتلفزة الوطنية عواطف الدالي، موجة غضب واسعةً في صفوف الصحافيين وهياكلهم النقابية، إذ عدّوا أن مضمون اللقاء فيه تدخل سافر في الخط التحريري لهذا المرفق العمومي وعودة إلى مربع البداية في العلاقة مع حرية الصحافة والتعبير.
وشددت نقابة الصحافيين التونسيين على أن التدخل المباشر لرئيس الجمهورية في الإعلام العمومي، وحتى في ترتيب النشرات الإخبارية والمضامين الإعلامية، سابقة خطيرة لم يُقدم عليها غيره، وأن الإعلام العمومي مطالب بلعب دوره كمرفق عام في خدمة الدولة والمجتمع، وليس كبوق دعاية للسلطة الحاكمة.
يتهم قيس سعيّد وسائل الإعلام بالتعتيم على المبادرات التي يقوم بها في تونس أو مع الدول الأجنبية. فهل يطمح سعيّد إلى العودة إلى زمن توجيهات الرئيس والبروباغندا؟
كما رأت النقابة في بيان لها، أن تدخل رئيس الجمهورية يندرج في سياق كامل من الرقابة على الإعلام العمومي و"الصنصرة" (الرقابة)، وضرب مبدأ التعدد والتنوع والموضوعية، داعيةً الهياكل المهنية كافة إلى رفض هذه الممارسات والدفاع عن حق المواطنين في إعلام حرّ يعبّر عن مختلف التوجهات السياسية والفكرية.
تتسم علاقة رئيس الجهورية قيس سعيّد، بالإعلام، بالقطيعة حتى قبل توليه مقاليد الحكم وقد تعرض لكثير من النقد خلال حملته الانتخابية التي انتهج فيها سياسةً تواصليّةً استثنائيةً تقوم على تجاهل الإعلام المحلي والاقتصار على الحضور في الإعلام الأجنبي. كما هاجم في أكثر من مرة وسائل الإعلام واصفاً بعض المحللين الذين يظهرون على الشاشات بـ"الكاذبين والمرتزقة"، دون أن يذكر أسماء.
طوال خمس سنوات من توليه رئاسة الجمهورية سنة 2019، قام سعيّد بحوار وحيد مع وسيلة إعلام تونسية بعد 100 يوم من تنصيبه، وكان ذلك بمثابة الوفاء بعهد كان قد قطعه خلال المناظرة الرئاسية في أثناء الحملة الانتخابية.
حذر نقابة الصحافيين التونسيين
أكد عبد الرؤوف بالي، عضو المكتب التنفيذي لنقابة الصحافيين، أن انتقاد سعيّد للخط التحريري للتلفزة الوطنية هو تدخل جديد في الإعلام العمومي بعد أن كان قد تدخل في تسيير المؤسسة وتوزيع المهام داخلها، وتجميد عدد كبير من الصحافيين العاملين فيها وضرب كل البرامج التي كانت تُبثّ، مشيراً إلى أننا اليوم في مرحلة التدخل في المضامين و ترتيب الأخبار وهذا ما رفضته النقابة لأن هناك هيئات دستوريةً هي الوحيدة المخول لها التدخل حصراً في حال وجود اختلالات، وليس التدخل من أجل ترتيب المضامين الإعلامية في نشرة الأخبار.
ويرى بالي في حديثه إلى رصيف22، أن المجتمع المدني والأحزاب الموالية لرئيس الجمهورية تم إقصاؤهما من الظهور في التلفزة الوطنية، فما بالك بأحزاب المعارضة؟ والسبب هو أن السلطة التنفيذية وضعت يدها على المؤسسة وهو ما تم التنبيه إليه منذ سنوات، وتالياً الهيمنة ليست جديدةً ولا معنى لتساؤل الرئيس عن المحتوى لأن السلطة التنفيذية هي التي ضربت محتوى التلفزة وحوّلته إلى أداة لتلميع السلطة.
تتسم علاقة رئيس الجهورية قيس سعيّد، بالإعلام، بالقطيعة حتى قبل توليه مقاليد الحكم
كما لفت المتحدّث إلى أن "أبناء" التلفزة الوطنية يطالبون بحقهم في العمل وبرفع التجميد الإداري عن البعض منهم منذ أن وُضعت اليد على مؤسستهم بتاريخ 25 تموز/ يوليو 2021.
ويرى أن رئيس الجمهورية ينزعج من أي محتوى إعلامي خالٍ من التمجيد للسلطة القائمة اليوم، وحتى البرامج التي "تطبل" للسلطة القائمة لم تسلم من نزعة الهيمنة والتدخل في مضامينها، أي أن عملية إفراغ المؤسسة من محتواها لم تكفِ الرئيس، وهو يطمح إلى التحكم حتى في المحتوى الذي يُبثّ.
كما ذكّر بأن سعيّد مقاطِع للإعلام منذ حملته الانتخابية، وهو مؤشر على علاقته بالإعلام في تونس. وقد استمرت القطيعة وتطورت إلى محاولات للهيمنة ولتوجيه وسائل الإعلام واستغلالها وتغييبها بالمرسوم 51 وغيره، والمسار متواصل، على حد تعبيره.
سعيّد يذكّر بقبح "الزمن الجميل"
بثت التلفزة الوطنية برنامج "من الزمن الجميل"، وهو من تقديم رموز إعلام ما قبل الثورة، ويستضيف ممثلين وفنانين يسترجعون ذكريات بداياتهم ونشأتهم ويخوضون في مختلف أعمالهم، وقد تعرّض هذا البرنامج لنقد لاذع من رئيس الجمهورية الذي قال إن "اللصوص تحوّلوا اليوم إلى أبطال صنعوا تاريخ تونس ويتحدثون عن زمن قبيح ويريدون أن يسوقوا إلى أنه زمن جميل في حين أنهم أوصلوا تونس إلى هذا الوضع الذي نعيشه".
يرى المحلل السياسي بولبابة سالم، أن رئيس الدولة انتقد ما يتم ترويجه في برنامج "من الزمن الجميل"، وعدّ أنه زمن قبيح، ولولا ذلك لما صارت ثورة، معتبراً أن ذلك صحيح وأن رئيس الدولة معارض لمنظومة ما بعد الثورة ويرفض الرجوع إليها، ويرفض كذلك منظومة ما قبل الثورة، كما رجح أن المسؤولين عن الخط التحريري في الوطنية اعتقدوا أنهم سيعودون بعد 25 تموز/ يوليو إلى ما قبل الثورة، أي التطبيل لعهد بن علي وعهد بورقيبة وكأن المنظومة عادت إليهم، وحاولوا تصوير ذلك الزمن بالجميل سواء في الفن أو الاقتصاد أو السياسة بوجوه التلفزة المعروفة، وعليه أراد رئيس الجمهورية تذكيرهم بقبح ذاك الزمن ورفضه له.
انتقاد سعيّد للخط التحريري للتلفزة الوطنية هو تدخل جديد في الإعلام العمومي بعد أن كان قد تدخل في تسيير المؤسسة وتوزيع المهام داخلها
ورأى بولبابة أن كل سلطة، بطبيعة الأشياء، تسعى إلى السيطرة على الإعلام أو على تطويعه بطرق مختلفة لكيلا يكون معادياً لها، مبيّناً أن سعيّد غير راضٍ عن أداء التلفزة الوطنية، ولا عن طريقتها في تناول المواضيع في ظل وجود اختلالات كبيرة وغياب تام للشخصيات الحزبية وتغيّر خطها التحريري الذي لم يعد يستضيف كل ألوان الطيف السياسي في البرمجة منذ مسار 25 تموز/ يوليو.
وشدد محدث رصيف22، على أن ما حدث خلال لقاء رئيس الجمهورية مع مديرة التلفزة الوطنية، غير مقبول وغير معقول، ويُفترض أن يكون الإعلام العمومي حرّاً يجد فيه كل التونسيين أنفسهم وألا يخضع لأحد إلا لأخلاقيات المهنة التي يحددها القانون، مبيّناً أن انتقادات رئيس الدولة لبرنامج ترفيهي أثارت بلبلةً سياسيةً كبيرةً خاصةً أن لقاءه مع مديرة التلفزة كان علنياً وبدا وكأنها تتلقى التعليمات، والحال أن الصحافة لا تتلقى التعليمات من أي جهة كانت، سواء من السلطة أو حتى من جهات أخرى: "نحن نعرف أن الخط التحريري حتى في الإعلام الخاص فيه اختلالات ويخضع لأجندات وتعليمات في اتجاه معيّن. مع ذلك وجب أن يكون الإعلام مهنياً وموضوعياً والمهنية تقتضي دائماً وجود أكثر من رأي وتناول مختلف للموضوع دون تشويه وثلب".
وفسر المحلل السياسي عدم استضافة التلفزة الرسمية لوجوه حزبية، بأن رئيس الدولة معارض للمنظومة الحزبية عموماً، ولديه موقف من السلطة والمعارضة، وتالياً الخط التحريري للوطنية لم يعد يجذب، في حين أنها كانت في السابق تخلق التوازن وتضمن تعدد الآراء بتنوع برامجها وثرائها.
كما أكد أن "على الإعلام احترام ذكاء المشاهدين لأن عهد الإعلام الموجه الذي يسير بالتعليمات انقضى في ظل توسع فضاءات الإعلام وتطورها وظهور مواقع إنترنت تمكّن الجميع من التعبير عن آرائهم من دون قيود، وفي حال عدم التحاق التلفزة الوطنية بالركب وسيرها على منهج قديم من الموالاة، ستفقد الكثير من المصداقية وتسقط"، وفق رأيه.
هل يعود زمن "توجيهات الرئيس"؟
قبل أكثر من ثلاثة عقود، كان التونسيون على موعد يومي مع "توجيهات الرئيس"، وهي فقرة كانت تُبثّ قبل نشرة أخبار الثامنة مساءً، يقدّم فيها الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة جملةً من التوجيهات بحضور جماهير غفيرة. وتدوم فقرة توجيهات الرئيس لبضع دقائق يتحدث فيها عن مواضيع مختلفة من بينها الإضرابات وإصلاح الأوضاع في البلاد وواجبات المواطن والمسؤوليات الكبرى وغيرها من المواضيع المتعلقة بالمعارك والتضحيات في ما له علاقة بزمن الاستعمار.
سعيّد غير راضٍ عن أداء التلفزة الوطنية، ولا عن طريقتها في تناول المواضيع في ظل وجود اختلالات كبيرة وغياب تام للشخصيات الحزبية وتغيّر خطها التحريري
هذه الفقرة كان لها إشعاع لدى الشعب التونسي الذي كان يصغي إلى التوجيهات الرئاسية التي يقدّمها بورقيبة بكل حماسة، وكانت الأنشطة الرئاسية في عهد بورقيبة، وحتى في عهد الرئيس زين العابدين بن علي، تستأثر بغالبية فقرات نشرات الأخبار وتقدَّم في بداية النشرة، وهو ما يطالب به الرئيس قيس سعيّد علناً بانتقاده الشديد اللهجة لترتيب الأخبار الذي عدّه غير بريء.
نقدُ رئيس الجمهورية لترتيب الأخبار ليس الأول من نوعه، فقد سبق أن احتجّ على مواضيع عرضية منتقداً الحديث عن جلود الأضاحي في شريط الأنباء "قبل الحديث عن أنشطته مع الدول الشقيقة"، ومتهماً وسائل الإعلام بالتعتيم على المبادرات التي يقوم بها في تونس أو مع الدول الأجنبية. فهل يطمح سعيّد إلى العودة إلى زمن توجيهات الرئيس والبروباغندا؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...