"تقوم فكرة 'الكراكاج' أو 'دخلة البكالوريا' على اختيار مجموعة من تلاميذ البكالوريا من كل تخصص (اقتصاد، رياضيات، آداب، وتقنية...)، الذين يتفقون على تنفيذ فكرة معيّنة بالشعارات واللافتات الكبيرة والموسيقى والشماريخ والزي الموحد كهوية خاصة بكل تخصص"؛ توضح تلميذة البكالوريا تخصص اقتصاد رباب مهداوي، لرصيف22.
"ودخلة البكالوريا"، هي احتفال للتلاميذ يسبق امتحانات التربية البدنية في اختبار البكالوريا الوطني أو يلحقها، كل سنة، في المعاهد التونسية كافة.
وللدخلة قوانين صارمة لا يجب خرقها، بحيث تلتزم كل المجموعات بحفظ سرّ الأفكار المختارة وعدم البوح بها حتى يوم "الدخلة"، وتعود مصادر تمويلها إلى مساهمات جميع تلاميذ البكالوريا كلّاً حسب إمكاناته مع مشاركة العديد من الأساتذة ودعمهم، تضيف.
وتختار كل مجموعة الموضوع الذي تريد تجسيده حسب رغبتها، سواء محلياً أو وطنياً أو إقليمياً، ولكن وفق شروط هي "ألا يخلّ بالأخلاق العامة وأن يمس فكرةً معيّنةً ويضعها محل اهتمام وأن يكون النقاش إيجابياً"، تقول التلميذة.
للدخلة قوانين صارمة لا يجب خرقها، بحيث تلتزم كل المجموعات بحفظ سرّ الأفكار المختارة وعدم البوح بها حتى يوم "الدخلة"، وتعود مصادر تمويلها إلى مساهمات جميع تلاميذ البكالوريا
قام التلاميذ في فصل رباب (19 سنةً)، في أحد معاهد محافظة تطاوين (الجنوب الشرقي)، "بدخلة الباك" الخاصة بهم يوم 15 شباط/ فبراير 2023، بعنوان "تتغير الشخصيات والأسماء وتبقى الضحية واحدةً وهي التلميذ".
التلميذ الضحية
توضح مهداوي، أن رسالتهم لا تخص فصلها فحسب، وإنما التلاميذ كافة ومفادها أنهم "لا ناقة لهم ولا جمل في ما يحدث من معارك الآن بين وزارة التربية ونقابة التعليم بشأن مطالب منظوري النقابة وما نتج عنها من مقاطعة الدروس وحجب الأعداد، وأنهم هم ضحية هذا الصراع الوحيدة".
وتشدد على أن الضغوط التي يتعرض لها التلاميذ في تونس مستمرة منذ سنوات، وأنه "وبرغم تغيّر أسماء الوزراء والنقابيين وحتى الأساتذة، فإن التلميذ هو دائماً الضحية لذا يجد نفسه مدفوعاً إلى كره الدراسة والانقطاع عنها في ظل هذه الظروف غير الملائمة".
لم يجد تلاميذ فصل رباب، أي صعوبة في تنفيذ "دخلتهم"، إذ تعاونت إدارة المعهد معهم وسمحت لهم بالتحضير لها نهاراً وليلاً، وفتحت لهم أبواب مؤسستهم التربوية كما شجعهم أساتذتهم وتبرع عدد منهم بالمال.
طرح جاد
وبرأي رباب، فإن "دخلة الباك" بقدر ما هي مصدر ترفيه وأجواء حماسية جميلة خاصةً بعد ضغط الامتحانات وتعبها ووسيلة استراحة للتلاميذ للعودة إلى الدراسة بقوة، هي أيضاً طرح جاد وعميق لمواضيع مهمة لتسليط الضوء عليها، ورسائل نقدية عن واقع التلاميذ، ووسيلتهم في التعبير عن آرائهم ومواقفهم.
كل سنة، ومع حلول موعد إجراء اختبار البكالوريا البدني، تكون المعاهد التونسية على موعد مع احتفالات ضخمة ينظمها تلاميذ السنة الثانوية الختامية "البكالوريا"، قبل مرورهم إلى مرحلة جامعية جديدة وحاسمة في مستقبلهم الدراسي والحياتي.
وصارت هذه الاحتفالات بمثابة عادة، ومهرجاناً سنوياً ثرياً ومتنوعاً من حيث الشكل والمضمون وعلى سبيل الذكر لا الحصر ما أحدثته "دخلة بكالوريا" تلاميذ معهد القلعة الخصبة في محافظة الكاف (شمال غرب) من ضجة وإعجاب كبيريْن لدى رواد وسائل التواصل الاجتماعي.
وعلى قدر بساطة هذه "الدخلة"، إلا أن رسالتها كانت الأقوى وهي دعوة التلاميذ "إلى إصلاح النظام التربوي في تونس".
وفي المعهد الثانوي في الوردانين في محافظة المنستير (الساحل)، نجح التلاميذ في التعبير عن موقفهم مما يحدث في البلاد، وكشفوا من خلال لافتة كبرى عما يشعرون به من "انعدام آفاق التشغيل والاستقرار وتكوين المستقبل بعد تخرج الطلبة من الجامعة".
كما نجحت الصورة الصامتة التي غطّت أحد جدران المعهد في كشف "حالة يأس الشباب التونسي في ظل ارتفاع نسبة البطالة في صفوفهم ما يدفعهم إلى خوض مغامرة البحر والهجرة غير النظامية المحفوفة بالمخاطر للبحث عن سبل عيش كريم وأفضل في بلد غير بلدهم الأم".
منع
وكما سُمح بدخلة البكالوريا في معاهد عدة، فقد مُنعت في مؤسسات تربوية أخرى من بينها أحد معاهد منطقة الوردية في محافظة تونس، حيث وزعت إدارته على تلاميذ البكالوريا ورقةً "يلتزمون فيها بعدم المشاركة في دخلة البكالوريا أو ما شابهها من نشاط داخل هذا المعهد لعدم قانونيته"، وفق نص ورقة الالتزام المنشور.
سُمح بدخلة البكالوريا في معاهد عدة، فقد مُنعت في مؤسسات تربوية أخرى
وفي أحد معاهد منطقة دوز في محافظة قبلي (الجنوب)، منعت إدارة المعهد تلاميذ البكالوريا من تنفيذ دخلتهم فاضطروا إلى إقامتها على أرضية ملعب خاص، فتسببت الشماريخ التي استعملوها في حرق جزء من الملعب فطالبهم صاحبه بدفع تعويض قدره 13 ألف دينار (4 آلاف دولار)، وهم الآن مهددون بالسجن وفق تصريحاتهم لإحدى الصفحات التي تُعنى بشؤون التلاميذ في تونس.
"فلسفة المتعة والتعبير"
يعرّف المتخصص في علم الاجتماع ممدوح عز الدين، "دخلة البكالوريا"، بأنها "شكل من أشكال التعبير الشبابي العالمي السائد، وقد برزت في تونس مع انتشار العولمة ووسائل التواصل الاجتماعي، خاصةً خلال السنوات العشرين الأخيرة، مرفقةً بهذه الثقافة الشبابية التي تسمى فلسفة المتعة والترفيه وعيش اللحظة الحاضرة".
هي فرصتهم التي يعدّون لها طوال أشهر ليعبّروا عن كل ما يقلقهم بكل حرية وشفافية لأن حرية يوم الدخلة فرصتهم الوحيدة التي لا يحاسَبون عليها
وعليه، فإن الشباب لم يعد مهتماً بالماضي ممثلاً في ثقافة الآباء والأجداد وعاداتهم وتقاليدهم والعلاقة التواصلية معهم واقتداء الأبناء بهم، كما لا يهتم بالمستقبل لأن آفاقه، خاصةً المتعلقة بالعمل وبامتلاكه موارد اجتماعية تجعله قادراً على التعبير عن نفسه، منعدمة، يضيف لرصيف22.
وبحسب المتخصص في علم الاجتماع زهير العزوزي، فإن "دخلة البكالوريا هي بمثابة هوية الشباب وتعبيرهم عن فرحهم بنجاحهم ومرورهم من مرحلة الثانوية إلى مرحلة مهمة في حياتهم وهي الجامعة".
ويتحدث العزوزي عن تطور في "دخلة البكالوريا" من حيث الشكل، إذ "نلاحظ، خاصةً اليوم، أنها منظمة تنظيماً كبيراً من حيث اعتماد ملابس موحدة واستخدام آلات موسيقية ولافتات كبيرة الحجم وكميات ورود كثيرة توزَّع على الأساتذة لتكريمهم، فتُصرف عليها أموال كبيرة"، يوضح لرصيف22.
"أصوات وفرصة وحيدة"
أما مدربة التنمية الذاتية والمختصة بتقديم حصص نفسية ومعنوية نجلاء غدامسي، فترى أن "دخلة البكالوريا" تبدو ظاهرياً احتفاليةً ثقافيةً تتطور من سنة إلى أخرى، يحتفل من خلالها التلميذ بعيداً عن الالتزام بقوانين المنظومة التربوية، ولكنها باطنياً أصوات تعبّر عن الوضع السياسي والثقافي للبلاد ومشكلات المجتمع التونسي التي يرفضها التلاميذ.
ويتجلى هذا الرفض في الشعارات التي يرفعها التلاميذ فتتخطى "الدخلة" الاحتفال إلى ما تختلج به صدورهم "وكأنها فرصتهم التي يعدّون لها طوال أشهر ليعبّروا عن كل ما يقلقهم بكل حرية وشفافية لأن حرية يوم الدخلة فرصتهم الوحيدة التي لا يحاسَبون عليها"، تضيف غدامسي، لرصيف22.
وترى أن للتلميذ التونسي التزامات تجاه أسرته ونفسه بالنجاح واجتياز أهم اختبار وطني "البكالوريا" بالإضافة إلى عدم استقلاليته مادياً ومعنوياً عن عائلته ومؤسسته التربوية لذلك اختار "دخلة الباك" لإثبات وجوده كمواطن حر ومستقل من خلال اللافتات التي يكتبها والأغاني التي يغنّيها.
تمرُّد
لهذه الظاهرة الشبابية المنتشرة دلالات ورمزيات ورسائل عديدة، يرى ممدوح عز الدين أن من بينها "صعود مفهوم الفردانية حيث يخلق الشاب ذاته بنفسه وتمرد التلاميذ على كل ما له طابع مؤسساتي داخل مؤسساتهم التربوية وعدم انضباطهم لمعاييرها".
ويقول إنها كانت نوعاً من أنواع التنفيس، ثم أصبحت في ما بعد عادةً، وإن الشباب يرى أن من حقه امتلاك شكل من أشكال التعبير عن ذاته بالطريقة التي يراها تتناسب مع طموحاته وواقعه المختلف عن السابق كنوع من التمرد على السلطة العمودية التي لا يحبها ويطالب بسلطة أفقية.
يجب النظر إلى "دخلة الباك"، وكأنها يوم وطني للتعبير الحر وليست مجرد احتفال للتشجيع وللدخول إلى الامتحانات بكل أريحية
ويضيف عز الدين، أن النزعة الشبابية ترفض "عقلية المؤسسة القائمة على السلطة العمودية الأبوية (ترتيب إداري)، وعلى جملة من القيم التي وجب احترامها والانضباط تحت قواعدها".
ولذلك، يميل الشباب إلى التعبير عن هواجسهم ورغباتهم وإخفاقاتهم "فاجتمعوا في هذه التعبيرات الجماعية يتشاركون العمر والاهتمامات ذاتها، رغبةً منهم في كسر الحواجز والضوابط التي يشعرون بأنها مفروضة عليهم ولا تعبّر عن اهتماماتهم والواقع الذي يعيشون فيه"، يتابع.
"حالة وعي كبيرة"
من جهته، يتحدث زهير العزوزي، عن تطور في مضامين ورسائل "دخلة البكالوريا"، ويرى أنها دليل على "حالة الوعي الكبيرة التي يعيشها شباب المعاهد بالقضايا المحلية كلها كتضامن التلاميذ في دخلة البكالوريا في أحد معاهد محافظة القيروان (وسط غرب)، مع زميلهم المتوفى، ومع القضايا الوطنية وحتى العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية والإقليمية".
من جهتها، تقول نجلاء غدامسي، إن الدخلة تطرح مواضيع حساسةً وشائكةً وأحياناً ممنوعةً مجتمعياً "وفي حال تحدث عنها التلميذ وكشفها للمربّين وللناس وللمجتمع نعدّ الأمر تمرداً ونعدّه غير أخلاقي".
"شعور بالرفض"
وعن أهم الرسائل التي تحملها "دخلة الباكالوريا"، تؤكد غدامسي، أن أبرزها شعور التلاميذ بالرفض في محيطهم الذي يعيشون فيه وعدم رضاهم عن وضعية البلاد وخوفهم من المستقبل وانتظاراتهم في الوقت ذاته.
وتشير إلى أن هذه الرسائل موجهة إلى التلاميذ في حد ذاتهم والمربين والمجتمع والمنظومة السياسية لذلك وجب النظر إلى "دخلة الباك"، وكأنها يوم وطني للتعبير الحر وليست مجرد احتفال للتشجيع وللدخول إلى الامتحانات بكل أريحية ونفسية منطلقة وهذا مفهوم خطأ، حسب رأيها.
وتضيف أن التلاميذ يطالبون، عاماً تلو الآخر، بالتعامل بجدية مع "الدخلات" وبالنظر في شعاراتهم ومشاغلهم المطروحة لمعالجتها وليس لسماعها فقط والمرور عليها مرور الكرام وعدّها مجرد ترفيه وقتي عن النفس.
وتؤكد نجلاء غدامسي، أن عدم الاهتمام بهذه الرسائل له عواقب وخيمة "خاصةً أن الشعارات المرفوعة تكون في بعض الأحيان أكثر عدوانيةً تجاه الأطراف المعنية بالرسائل".
في المقابل، يرى عز الدين، أن المؤسسة التربوية تسمح بهذا التعبير لأنه نوع من الترويح عن النفس وحتى يعود التلاميذ بنفس إيجابي جديد لأن الكبت يولد الانفجار.
مسؤوليات
وفي حال حدوث بعض التجاوزات في "دخلة البكالوريا"، يؤكد ضرورة التعامل مع هذه الظاهرة بتحفظ من دون منعها كلياً أو السماح المطلق بها وترشيدها باتباع سياسة التقرب من التلاميذ والاستماع إليهم وتفعيل خلايا الإنصات داخل المؤسسات التربوية وتشريك أخصائيي علم النفس والاجتماع.
كما يقترح تنظيم حلقات نقاش داخل هذه المؤسسات للتقليل من مشكلات العنف والتوترات فيها، ولتكون هذه الظاهرة شكلاً من أشكال التعبير يشارك فيه كل الفاعلين التربويين ومناسبة لتعزيز انتماء التلميذ إلى مؤسسته وليجد فيها راحته وذاته.
من جانبه، يؤكد العزوزي أن رسائل هذا "التعبير الشبابي" موجهة أساساً إلى وزارة التربية "التي لم تتلقها كما يجب وعليها التفاعل إيجابياً معها بتأطير التلاميذ وتنظيمهم والإشراف عليهم لأن الدخلة أصبحت احتفاليةً وعادةً شديدة التنظيم وكبيرة الحجم خاصةً أن دخلات عديدة تحتوي على رسائل إيجابية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...