جهّزت كتاباً لمعرض الكتاب في تونس، المنعقد بين 28 نيسان/أبريل و7 أيار/مايو 2023، بعنوان "فرنكنشتاين تونس"، واتفقت مع دار الكتاب في تونس لنشره. حمل الكتاب عنواناً فرعياً: "تأملات في الشأن السياسي التونسي زمن قيس سعيّد"، تنضوي تحته مجموعة من المقالات السياسية الساخرة بخلفية ثقافية وأدبية تتناول ظروف نهاية الربيع العربي والانتكاسة التي عرفتها الثورة التونسية وتعود إلى أيام الثورة في كانون الثاني/يناير 2011، وفترة ما بعد الثورة والمعارك الأيديولوجية وكيف مهدت تلك الصراعات للعودة إلى الديكتاتورية والسقوط في الشعبوية التي جاءت بقيس سعيّد الذي أقدم على انقلاب يوم 25 تموز/يوليو 2021، وأجهز عبره على كل مكتسبات الثورة من حرية وديمقراطية وحرية تعبير.
ففي ظل القمع الذي تمارسه السلطة اليوم في تونس، والاستبداد الذي جعل الناس تلوذ بالصمت خوفاً من الملاحقة، كان يجب أن يظهر صوت يحاول أن يتصدى لسلطة الانقلاب التي تنكر أنها تمارس تضييقاً على الحريات وتجعلها في امتحان حقيقي أمام حرية التعبير. وكان كتابي ذلك الامتحان، وكان قرباناً لكي يفضح هذه السلطة الاستبدادية.
بداية الهجمة... من الغلاف
منذ اللحظة التي نشرت فيها صورة غلاف الكتاب، بدأ الهجوم عليّ من أنصار الديكتاتور قيس سعيّد، والمناداة باعتقالي وملاحقتي ومنع الكتاب، مما دفع بقرّائي إلى الإسراع نحو مقرّ دار النشر من أول يوم لاقتناء الكتاب. وهذا جعل الهيئة المديرة لمعرض تونس الدولي للكتاب ووزارة الثقافة تتحركان في الكواليس، وقررتا منع دخوله المعرض، وهي معلومات وصلتني من بعض موظفي وزارة الثقافة. كل ذلك حصل خلال يومين قبل انطلاق المعرض. ومع افتتاح معرض الكتاب يوم 28 نيسان/أبريل الماضي، وبمجرد أن غادر الرئيس قيس سعيّد المعرض، وصلت فرقة أمنية وسحبت الكتاب وأغلقت جناح دار النشر برمته.
في ظل القمع الذي تمارسه السلطة اليوم في تونس، والاستبداد الذي جعل الناس تلوذ بالصمت خوفاً من الملاحقة، كان يجب أن يظهر صوت يحاول أن يتصدى لسلطة الانقلاب التي تنكر أنها تمارس تضييقاً على الحريات وتجعلها في امتحان حقيقي أمام حرية التعبير
خرج الناشر على صفحة دار النشر، مقدّماً بياناً حول ما جرى، ومعلناً عن حجز الكتاب من قبل الأمن وإغلاق جناح الدار. وأضاف أن بقية الناشرين سيغلقون أجنحتهم تضامناً معه، وسينسحبون من المعرض. هذا الموقف جعل السلطة تتراجع من الغد، لتسمح بفتح جناح الدار لكن مع الإبقاء على مصادرة كتاب "فرنكنشتاين تونس".
سابقة تاريخية
هذه الحادثة سابقة في تاريخ تونس ما بعد 2011، وتعني أن حرية التعبير مهددة بشكل كبير، خاصةً أن هذه السلطة تستعمل الحشود والمناصرين لتشويه المعارضين وأصحاب الرأي، لذلك أتعرض للشتم والتهديد منذ أيام بشكل كبير من آلاف الحشود، وهم من أنصار الرئيس، وهذا العنف اللا متناهي لا شك أنه سيؤثر على أصحاب الرأي. ومع ذلك هناك مناضلون يقاومون في الداخل، مثل "مكتبة الكتاب" التي قررت أن تعرض الكتاب ووضعته في واجهتها محاطاً بسلسلة حديدية حمراء، وببيانات ضد المنع ومصادرة الكتب وصور كاريكاتورية لشخص يحرق الكتب.
وفي مقابل الإعلام الرسمي الذي يهاجمني، دفاعاً عن الرئيس ونظامه، تتضامن معي شخصيات ثقافية وسياسية وازنة منتصرةً لحرية التعبير.
هذه الحادثة سابقة في تاريخ تونس ما بعد 2011، وتعني أن حرية التعبير مهددة بشكل كبير.
منذ سنوات، نجحتُ في أن تكون لي قاعدة قرّاء كبيرة، يكتشفونها خاصةً في معرض الكتاب، حيث أجري توقيع الكتاب. هؤلاء القرّاء وجدوا أنفسهم أمام جناح دار خالية من الكتاب الذي جاؤوا لاقتنائه في يوم الافتتاح. والتهديدات والشتم والهرسلة التي أتعرض لها، بتلفيق تهمة أنني أتعامل مع إسرائيل، بسبب ترجمة رواية لي إلى العبرية، جعلت حشوداً أخرى تلحق بهم لتصفيتي والمناداة باعتقالي وحرق كتبي ومنعها، وصارت بقية عائلتي في تونس في خطر.
في الجانب الإيجابي، ثمة قسم آخر من الشعب اكتشف حقيقة هذا النظام الذي أصبح مرعوباً من كتاب ومن كاتب، والمعارضة التونسية تجاوزت خلافاتها الأيديولوجية من أجل الدفاع عن الديمقراطية؛ فاستقلاليتي عن الأحزاب والأيديولوجيات السياسية التونسية وما حدث لكتابي كانا دليلاً على أن سلطة الانقلاب لن تستثني أحداً مهما كان انتماؤه، سواءً كان يسارياً أم إسلامياً أم مستقلاً وحداثياً وتقدمياً مثلما هو الحال معي. والحقيقة هذا سبب آخر من أسباب الهجمة عليّ، لأنهم لم يجدوا أي تهمة يوجهونها إليّ، فاختلقوا قصة التطبيع التي سبق أن اتُّهمت بها قبل سنتين، وأصبحت حياتي مهددةً، فاستقلت من وزارة الثقافة، ومن عملي، وجئت إلى كندا عبر عقد عمل مع جامعة كارلتون قبل أن ألتحق هذا العام بجامعة تورنتو. وذلك كله بسبب رواية لي تُرجمت إلى عدد من اللغات، منها العبرية.
إدارة المعرض والحبكات الفاشلة
إدارة المعرض ادّعت بأن الكتاب غير مصادر ويباع في المكتبات، لكنه بقي ممنوعاً في المعرض. وحدها "مكتبة الكتاب" في العاصمة التونسية، والمعروفة بنضالها التاريخي ضد الديكتاتورية، تعرض بعض النسخ متحديةً السلطة، بينما المكتبات الأخرى لم تجرؤ على عرضه برغم القراء الذين يطلبونه بسبب الحملة التي بدأت ضده في المعرض عبر وسائل الإعلام التونسية والدولية.
أمام حملة التضامن الدولية الكبيرة معي ومع الناشر، قامت إدارة المعرض الممثلة للسلطة بتدبير حيلة لتضليل الشعب والإعلام، إذ أقدمت بعد أيام من منع كتابي على سحب بعض الكتب المنشورة منذ سنوات بالطريقة نفسها التي سُحب بها كتابي، للإيهام بأن العملية لا تستهدف كتابي فقط، ثم عقدت ندوةً بعد يوم، وأخبرت الرأي العام بأنها أعادت كل الكتب التي سحبتها يوم 29 نيسان/أبريل الماضي، فاعتقد الناس أن الأمر حُسم وأن الكتاب أعيد، والحال أن كتابي صودر يوم 28 نيسان/أبريل، يوم الافتتاح ولذلك لا يشمله قرار إعادة الكتب.
لم ينتبه الشعب إلى هذا التفصيل في البيان، ما أجبر الناشر على نشر بيان على صفحته يطالب فيه المتابعين والإعلاميين بالتثبت جيداً في بيان اللجنة، وأكد أنه اتصل بمديرة المعرض زهيرة جويرو، وسأل عن الكتاب المحجوز، وأخبرته بأن ليس عندها جواب، ورفضت أن تعطيه إيصالاً بالحجز.
في بيانها، اتّهمتني اللجنة بـ"الإساءة إلى صورة تونس في الخارج"، وهي التهمة نفسها التي كان الرئيس بن علي، يطارد بها معارضيه، قبل ثورة 2011، وكنت واحداً منهم، وهي تهمة تعني الخيانة العظمى وتنبئ بالملاحقة الأمنية للكاتب.
رجال أمن يلاحقون القرّاء
كشفت مديرة فروع مكتبة الكتاب، السيدة سلى جباس، في تعليقات لها عند بعض الشخصيات التونسية التي تناولت القضية، أن فرقةً من الشرطة المسلحة كانت تهاجم فروع مكتباتها وتطالب الموظفين بالكتاب وبعناوين القرّاء الذين اشتروه مباشرةً أو عبر البريد، وأنها رفضت أن تعطيهم تلك القوائم.
وانشغلت الحشود بمطاردة كل القراء الذين نشروا صوراً لهم مع نسخ من الكتاب، أو أرسلوها إليّ وطلب بعضهم سحب صورهم خوفاً ورعباً من تلك الحشود العنيفة من أنصار الرئيس التي لا تتوقف عن شتمهم وتهديدهم.
الرئيس ينزل بنفسه للقاء "فرنكنشتاين تونس"
مساء يوم 2 أيار/مايو الجاري، وبعد تصاعد حملة التضامن العربي والدولي من منظمات حقوقية وثقافية مثل منظمة القلم الكندي، ومنظمة القلم الأمريكي، ومؤسسات إعلامية عربية ودولية، نزل الرئيس قيس سعيّد، بنفسه، إلى مكتبة الكتاب في شارع الحبيب بورقيبة، التي تحدت المنع وعرضت الكتاب ليستشهد بها مؤكداً لأنصاره، ومغالطاً الرأي العام والإعلام، بأن الكتاب موجود ويباع. حدث ذلك في غياب مديرة المكتبة التي اتهمت الشرطة بأنها مارست عليها ضغطاً وهرسلةً، وجاءت تطلب الكتاب في مناسبات متعددة ووصل بها الأمر إلى المطالبة بعناوين القرّاء الذين اشتروا الكتاب عبر البريد أو الأوفياء للمكتبة الذين تحتفظ الأخيرة بعناوينهم.
أمام ما نتعرض له من السلطة التونسية، والرئيس قيس سعيّد وأنصاره، نعِد كل من تضامن معنا بأننا سنقاوم هذا الاستبداد، ولن نتراجع عن المطالبة بحماية حرية التعبير ككتّاب وفنانين أحرار من كل مكان، ولا يمكن أن نقبل أبداً بما يجري لذلك الكتاب المصدّر
استشاط قيس سعيّد غضباً واتّهم كل من يقول بأن هناك رقابةً، بالعمالة أو الجنون، في تحريض مباشر لأنصاره على المؤلف والناشر، وهو ما بدأ فوراً على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث لم يتوقع الشتم والسب والتخوين للمؤلف منذ أن نشرت صفحة الرئاسة ذلك الخطاب وتلك الصور في مكتبة الكاتب.
وبذلك التبنّي لخطاب اللجنة المنظمة للمعرض وعدم التحقيق في قصة الشرطة التي لاحقت القراء في فروع المكتبة، يؤكد الرئيس قيس سعيّد، أنه من كان وراء المنع الأول، وأنه اليوم، في هذا المأزق، عليه أن يهرب إلى الأمام كما هي عادته، وعدم الاعتذار أو الاعتراف بالتقصير، بل ينقلب متهماً الكاتب وكل المساندين له من منظمات دولية وإعلام عربي وأجنبي بأنهم متآمرون عليه وعلى تونس، ومؤكداً من جهة أخرى أنه صفر ثقافة سياسية، وكان يمكن أن يُرجع ذلك إلى مشكلة إدارية ويدافع عن الحريات ويكون أقل توتراً وأقل تشنجاً وهو يمسك بالكتاب الذي يتحدث عنه وهو يرتجف.
وأمام ما نتعرض له من السلطة التونسية، والرئيس قيس سعيّد وأنصاره، نعِد كل من تضامن معنا بأننا سنقاوم هذا الاستبداد، ولن نتراجع عن المطالبة بحماية حرية التعبير ككتّاب وفنانين أحرار من كل مكان، ولا يمكن أن نقبل أبداً بما يجري لذلك الكتاب المصدّر بعبارة للكاتبة الكندية مارغريت أتوود، تقول فيها: "أحياناً يصبح الصمت خطراً خطورة الكلام". ونعلن انتصارنا اليوم على آلة القمع وتكميم الأفواه والرقابة ومحاكم التفتيش بانتزاع الحق في توزيع الكتاب ونشره في تونس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...