شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"وذاك المرمر الأبيض، على النهدين قد عرَّض"… الجسد وتمنياته في الأغنية اليمنية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والنساء نحن والتنوّع

الجمعة 11 أغسطس 202301:20 م

ارتبط الحب الجنسي، الذي يتناول مفاتن المرأة الجسدية، بغنجها ودلالها وما يترتب عليهما من الصدّ والحرمان والآلام والأشجان، بحسب الباحث في الشعر الحميني محمد عبده غانم، (الشعر الحميني هو الشعر المحلي والمُطعّم بمفردات شعبية)، خلال مرحلته الزيدية (حكم المذهب الزيدي)، كما يرد في كتاب "شعر الغناء الصنعاني"، إلا أن الغزل الجنسي في معظم هذه القصائد لا يحضر كمادة أساسية، بغرض الاحتفاء بالجسد، بل كتقنية شعريّة تفتتح بها القصيدة أبياتها كما تفتتح المراثي الشعر العربي القديم.

في كتابها عن الشعر والمجتمع البدوي، تلاحظ الباحثة ليلى أبو لغد، أن الشعر البدوي يحدّ من الهوس بالأخلاق ومن الانتماء إلى أيديولوجيا الشرف، مما يعني أن الشعر الشعبي لا يحتكم إلى القيم الاجتماعية-الثقافية، ولا إلى اللغة الجمعية في التعبير، بحيث نجد فيه احتفاءً صارخاً بالجسد وبحميمية الحب. هذه اللغة المتحررة، هي الأكثر تمرداً على التابو في الجنس والسياسة والدين.

فبعد أفول العثمانيين في شمال اليمن، اشتد الميل إلى الأغنيات الإيروسية على نحو غاضب من الحكم الإمامي "الإسلامي"، بحسب البردوني، في كتاب "فنون الأدب الشعبي في اليمن". ويذكر البردوني من تلك الأغاني "اثنين كعوب الحرب بينهن بين أدخل يدك ما بينهن يدين"، وبعضها تطرقت للمشاعية النسائية: "ساجي العيون الغنج ما لنا به/ فك الزرار كلين يشل حسابه".

تُعدّ الفواكه من بين الاستعارات المفضلة عند الشعراء للإشارة إلى أشكال جسد المرأة، إذ تسمح الرمزية الخاصة باستعارات الفواكه بالحفاظ على قدر من الغموض في مفاتن المرأة

برغم التحريم والقمع، انتشرت أغنية "الدودحية" بجرأتها من دون وجود مجلات أو صحف أو إذاعات، إذ جسّدت قصةً واقعيةً لشاب وفتاة مارسا الجنس خارج مؤسسة الزواج، حيث تعترف المغنية بممارسة الجنس، وتتهكّم "دنّي من الكوز سكر واركني"، ولفظة "اركني" تشير إلى ممارسة الجنس في قراءة البردوني.


وتستكمل الأغنية تهكّمها بمأساة العاشقة الدودحية وجهلها بمصيرها "يا دودحية توصّي لا عدن/يدوا لَبوش عطر ويدّولش كفن/ أمان يا نازل الوادي أمان". فقد قُتلت على يد أهلها كما روت الأخبار. إلا أنّه صارت هناك دودحيات في الفن الشعبي على غرار خمريات أبي نواس وغراميات ابن هتيمل اليمني، ووفقاً للبردوني، حملت أغنية الدودحية سخطاً شعبياً تجاه الإمام وحاشيته، إذ كانت تندّد بالعائلات النافذة من جهة، ومن جهة أخرى بالسلطة.

إيروتيكا أغاني الذكريات

تبعاً لتحرُّر اللغة الشعبية، إلى جانب حرية ممارسة الأنشطة الفنية في مدينة عدن، سواء تحت الحكم البريطاني أو تحت حكم اليسار بعد الاستقلال، ظهرت مجموعة من الأغاني الإيروتيكية التي انطبعت في الوجدان الشعبي وعبرت بعضها الجزيرة العربية.

تنحو الكثير من الأغاني العاطفية التي يسيطر عليها الحنين، إلى استحضار ليالي الحب والأشواق في اتجاه إيروسي محض. منها أغنية الشاعر عبد الله هادي سبيت، "تذكرته مع النسمة"، التي أُعجب بها العديد من الفنانين وغنّوها. ومن ثم رحلت نحو السعودية، حيث غنّاها الفنان طلال مداح، وفي هذه الأغنية يصف الشاعر حبيبته:

"تذكرته وذاك الورد ذي هو في الخدود

وذاك الصدر ذي قد ضاق ما بين النهود

وذاك المرمر الأبيض... على النهدين قد عرَّض

يخلي مهجتي تلهب".

ويذهب الفنان فيصل علوي في أغنية "يا باهي الجبين"، من وصف الجسد إلى استذكار حميمية الحب:

"ما أنساها ليالي مرت يا جميل

وأنا بين نهدك والخد الأسيل

والشعر المنعثر والطرف الكحيل

تايه بينهم حاير وإنته دليل".

ترتبط أغنيات الصبا بطابعها الشبقيّ بمدارات الجسد، دون التزام بقضايا اجتماعية أو سياسية. ففي أغنية "مابا بديل" من كلمات الشاعر والفنان محمد سعد عبد الله، يشتهي جسد حبيبته ويصفه بالدواء بلغة مشهديّة:

"ليتني بلقاه باضمّه

وبرشف مبسمه ريقه الحالي

دواء العلة شفاء من يطعمه

هَلِيْ يا سُعد مَن شافه

مهلا كامل أوصافه

وأنا فدو العيون السود والخد الأسيل

ما بأ بديل

تذكرته إذا نفنفْ برود

على جسمه وحرّك شرشفه

وذي اليدين ذي فيهم زنود

يطوّقني بهم لمّا أرشفه

ويسقيني الهوى بالكاس

ونتعانق وننسى الناس".

جنس وجوع وقمع

تُعدّ الفواكه من بين الاستعارات المفضلة عند الشعراء للإشارة إلى أشكال جسد المرأة، إذ تسمح الرمزية الخاصة باستعارات الفواكه بالحفاظ على قدر من الغموض في مفاتن المرأة، خصوصاً في الأغاني التي تستعمل صيغة المذكر في الغزل، أو التي تنشد حباً مستحيلاً لأسباب اجتماعية.

 الأغنية اليمنية، في تاريخها من الشفهي إلى الكتابي، تبدو فضاءً رمزياً مناسباً لقراءة التحولات في المجتمع اليمني في العقود الأخيرة.

ولعل التماثل بين المرأة والطبيعة يخفي ظروفاً معيشيةً وأشكالاً قمعيةً تتجاوز سلطتها الأسلوب الجمالي؛ من حيث أن الاستعارات الحسية للطبيعة أقل حدّةً من التعبير الجنسي المباشر، كرمزية "ساعة المجنى" في قصيدة "أحبّة رُبى صنعاء"، التي غنّاها أبو بكر سالم مع تجنّب الأبيات الجنسية الصريحة:

"وخلوه يتأمل محاسن جمالكم ويحظى بطيب العيش فيها ويتهنّا

وقصده برشفة من معتق زلالكم فجودوا وقولوا له إذا قد شرب يهنا

وفكوا له الأزرار وحُلوا دِلالكم وخلوه يلمس جنة الخلد باليمنى

ويقبض زكاة الحب من عين مالكم فمن يلمس النهدين قد فاز واستغنى

ولا تحرموا المملوك يرعى وصالكم ولا تمنعوه أثماركم ساعة المجنى".

أعقبت سنوات الأئمة في اليمن مجاعات متواصلة، انعكست في التراث الغنائي والموروث الشعبي والأمثلة بصورة خاصة، تتجلى على شكل تمنٍّ من قبيل "يا ريت صنعاء عصيد والبحر زوم وقاع جهران ملوجة (خبز) واحدة"، ومنها التي انطوت على سخط طبقي مُضمَر: "يا ريت والله والإمام حمايا/الصبوح معصوب والغدا سبايا". ولأن الفاكهة ليست غذاءً أساسياً عند اليمني، في ضوء تعاقب المجاعات، نجده يصوّرها بتشهٍّ ولذّة في القصائد الغنائية، مثل أغنية إبراهيم الماس، التي غنّاها محمد عبده:

"أني تشككت حين عاينت تلك النهود في القامة المايسة

هن عنب أم ليم أم ليمون أم عنبرود؟ أمثال متقايسة".

في قاموس الغزل الشعريّ والغنائيّ اليمني (والعربي)، تطغى بشكل واضح مفردات أو عبارات افتراسية ترى في المرأة صيداً، وبشكل خاص، يغلب عليها تصوير المرأة بوصفها فاكهةً شهيّةً

في قاموس الغزل الشعريّ والغنائيّ اليمني (والعربي)، تطغى بشكل واضح مفردات أو عبارات افتراسية ترى في المرأة صيداً، وبشكل خاص، يغلب عليها تصوير المرأة بوصفها فاكهةً شهيّةً؛ فالخدّ تفاحة، والفم فستقة، والنهد كمثري ورمان، والحلمة كرزة، والصدر بستان... إلى آخره. تحمل هذه الصور دلالةً على الحرمان، فهذه المفردات والاستعارات تدل على بيئة صحراوية جافة وظروف اقتصادية سيئة تجعل الفاكهة صعبة المنال.


وبرغم وجاهة الشاعر أحمد فضل العبدلي، شقيق سلطان لحج، الملقب بالقُمَندان، أهم مجددي الأغنية اللحجية بقصائده الغزلية، إلا أنه ينهل معجمه بشكل كبير من البساتين، لأن شعره مطبوع بالثقافة المحلية وبطابع المنطقة، وليس بمركزه الاجتماعي. ومن قصائده التي غُنَّت: "يا حلو يا شهد دوعاني وطعم المربّا/المحتجب عن عيوني أوسع القلب نهبا"، وأغنية "يا مشمش وذول العنب عذبني الهوى وين هب/ يا عنب مشيم وتين لنته في المحبة فطين"، وأغنية فيصل علوي الأشهر في الذاكرة اليمنية: "يا ورد يا كاذي يا موز يا مشمش ويا عمبرود/ يا قمري الوادي لك خد شاميه وعين الهنود/ يا فل يا نادي قل لي ليالي الوصل شي باتعود"، وغيرها العديد من الأغنيات.

الاستحضار اللا واعي للمرأة والفواكه في المخيال الشعبي والتراث الغنائي المكتوب والشفهي، وحتى في الجدل الديني العقيم، الذي يطيب له، ابتداءً من الثمانينيات، وتشبيه المرأة المحجبة بالفاكهة المصونة والعكس، يثبت كيف يمكن لهذه اللغة الشعريّة الثريّة بالرموز والمعاني والمؤشرات المتعددة، استكشافُ الاختلالات والتوترات المتأصلة في العوالم الاجتماعية والسياسية المهيمنة. الأغنية اليمنية، في تاريخها من الشفهي إلى الكتابي، تبدو فضاءً رمزياً مناسباً لقراءة التحولات في المجتمع اليمني في العقود الأخيرة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image