شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
عن

عن "أم محمود" ومثلها من نساء يمتن ولا يعرفن أنهن نسويات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والنساء

الخميس 10 أغسطس 202310:23 ص

تستيقظ جارتي أم محمود كل يوم في الخامسة فجراً، تركب "البيك أب" متوجّهة إلى سوق الخضار، لتبدأ معركتها اليومية في اختيار الخضار الأفضل بالسعر الأرخص، تتحمّل ما تتحمّله من المزارعين والتجار المستخفّين بعملها، وتعود إلى دكانتها الصغيرة فرحة بانتصارها اليومي الصغير، لأنّها، وعلى حد تعبيرها، لم تعد تهتم بما يقوله الناس: "الناس في نهاية المطاف لا يكترثون بأطفال ينامون جائعين، بينما يهتمون جداً بتواجدي في سوق الخضار ليصبح الأمر قضية مهمّة يعقدون لأجلها المؤتمرات".

توضّب أم محمود خضارها الطازجة وترتبها حبّة حبّة، ثم تكنس ما تبقى من آثارها، وترجع إلى بيتها لتعود بصحبة ابنتها الصغيرة، تفترقان على باب الدكان. تذهب الطفلة إلى المدرسة، ترافقها قبلات أمها الكثيرة ودعواتها، وتدخل الأم مرّة أخرى إلى دكانها لتبدأ يومها مع صوت فيروز الذي يصدح في كل أنحاء الحي معلناً بدء يوم جديد من العمل، وما أن تسمع نسوة الحي الصوت حتى يجتمعن في الدكان الصغير، يخترن ما يحتجنه لوجبة الغداء، بعد أن تنعش أم محمود قلوبهن الذابلة بنكاتها البذيئة ونصائحها وضحكتها المدوية.

أم محمود نسوية للعظم، لكنها لا تعلم ماذا تعني النسوية

كثيراً ما شاهدتها في مساءات كانون، تقف أمام دكانها بعزّ البرد، تنظف الأعشاب من الوحل، تلك التي كانت قد قضت نصف نهارها في جمعها من الأراضي الزراعية، وفي مرات كثيرة، كان المطر المنهمر فوق رأسها مرافقها الوحيد في الشوارع الخاوية في أيام الشتاء الباردة.

لم تعد تهتم جارتي "أم محمود" بما يقوله الناس: "الناس في نهاية المطاف لا يكترثون بأطفال ينامون جائعين، بينما يهتمون جداً بتواجدي في سوق الخضار ليصبح الأمر قضية مهمّة يعقدون لأجلها المؤتمرات"

كانت أم محمود امرأة قوية، هذا الأمر لا شك فيه، فحتى في الليلة التي اجتمع أهل الحي جميعاً على صوت صراخ زوجها الغاضب لأنها اكتشفت خيانته للمرة العاشرة، لم تبك. أتذكر المشهد بوضوح: كانت شامخة كسنديانة تقف على باب الدار، وبنظرات ثابتة ودون أي ردة فعل تُذكَر، صفقت الباب وراءه، قائلةً بثقة لم أعهدها بكثيرات من النساء اللواتي أعرفهن: "درب يسدّ ما يردّ".

سألتها مرة: "أم محمود هل أنت نسوية؟". فدخلت بموجة من الضحك تبعتها جملة قالتها بسخرية: "والله إنتو المثقفات شغلتكم شغلة، لكن شو شايفتيني رجال بشوارب، لكن ماني نسوية؟". أدركت وقتها أن المصطلحات والتسميات لا تعني الكثير، وأننا ببساطة شديدة نستدلّ على المعنى بأشياء أخرى وكثيرة بعيداً عن التعقيدات والتعريفات، وأن كل امرأة، على سجيّتها، نسوية للعظم، وكل انحراف عن هذا ليس إلا فعل تكيّف وترويض من المجتمعات، التي غالباً ما تتبع مصالح الأقوى والثقافة السائدة القادرة على التحكم بالإنسان فينحرف عن طبيعته. يقول فرانسوا بولاين دي لا بار: "العادات والتقاليد هي حقائق اجتماعية، خلقها المجتمع، وليست حقائق طبيعية".

تبدأ النسوية كفكرة فعلاً قبل أن نعرف ماذا تعني النسوية، النسوية تبدأ مع رفض الظلم والاستغلال والتعصّب والتمييز، وقول كلمة "لا". ففي حالة أم محمود، وغيرها الكثيرات من النساء اللواتي يشبهنها، لم يكن من المهم جداً أن يقرأن مئات المقالات وعشرات الكتب، ولم يكن مهمّاً أيضاً أن يتخرّجن من الجامعات ليطالبن بحقوقهن وليحملن قضية يدافعن عنها، فهن يعشن قضاياهن بالفعل بعيداً عن الشعارات والبطولات، وبعيداً عن استجداء العواطف. يدافعن عن أنفسهن ويأخذن حقوقهن من "تم الأسد"، يرفضن الخنوع والاستسلام والذلّ، دون ضجة ودون خطابات. لا يكترثن لشيء من كل ذلك، يكترثن للحفاظ على كرامتهن فقط.

يروّضنا المجتمع وتعيدنا الحياة للنسوية؟

من بين تعريفات التعلم الكثيرة لفتني تعريف ورد في كتاب "التعلّم: نظريات وتطبيقات"، للدكتور أنور شرقاوي، فيقول: "التعلّم هو عملية تغيير شبه دائم في سلوك الفرد. لا يلاحظ بشكل مباشر ولكن يستدلّ عليه من السلوك ويكون نتيجة الممارسة، كما يظهر في تغير الأداء لدى الكائن الحي".

الظروف الاقتصادية الصعبة أثناء الحرب العالمية الثانية هي ما دفعت الحكومات في أميركا وبريطانيا لتشجيع النساء للخروج والعمل لسدّ الفجوة التي خلقها غياب الرجال، وبذلك حصلت المرأة على فرصتها لتثبت أن لا شيء يمنعها من القيام بما يقوم به الرجال، وفقط خلال خمسة أعوام، أي من 1940 وحتى 1945، زادت نسبة النساء العاملات في أميركا من 27% إلى 37%، ومن ذلك الوقت تغير كل شيء يخصّ التعامل مع النساء.

الظروف الاقتصادية الصعبة أيضاً في معظم بلادنا العربية هي من فتحت أبواب العمل على مصراعيه لنساء كن يحلمن فقط بفتح شباك غرفهن.

تبدأ عملية التعلم بظهور مشكلة ناتجة عن تفاعل الإنسان مع محيطه، بعدها تظهر الحاجة لحلّ هذه المشكلة، ثم يبدأ البحث عن سلوك مناسب لحلّها، ينتج عن تكرار هذه السلوك اكتساب للمعارف وتكون للخبرات التي تعدّل الخبرات السابقة، ليتم في النهاية انتقاء السلوك الأجدر، ليصبح الموجّه لسلوك الإنسان في كل حدث مشابه. وهذا بالضبط يفسّر كيف أصبحت أم محمود وكثيرات مثلها نسويات دون أن يعرفن شيئاً عن وجود لمثل هذه التسمية في العالم، فطالما أن جميع تعريفات النسوية تتفق على أنها حركة تسعى إلى تحرير المرأة وإعطائها حقوقها، فكل امرأة تسعى إلى ذلك هي نسوية.

ليس علينا انتظار حدوث جريمة مروّعة أو حادثة قتل مفجعة. علينا ألا نتوقف عن الكتابة عنهن والمطالبة بحقوقهن والسعي ما أمكن لمحاولة إخراجهن من ذلك النفق المظلم، لأن هذا النفق ببساطة هو حياتهن

البدء بمواجهة العالم في الخارج، الإحساس بالكفاءة، القدرة على جني المال، وغيرها الكثير من المواقف، جعلتهن يدركن حقيقتهن من جديد. الحاجة لرجل يمسك بأيدهن لم يعد إلا خبرة سابقة عُدّلت تلقائياً بمجرّد انخراطهم مع أحداث جديدة، أحداث أدت إلى اكتشافهن إمكانياتهن وقدراتهن.

الخطوة الأولى

الخطوة الأولى غالباً ما تبدأ من الخروج للعمل ومحاولة الوصول إلى الاستقلال المادي. وخاصّة أننا هنا نتحدّث تحديداً عن شرائح النساء اللواتي لم يكملن تعليمهن، وبالتالي لم ينخرطن جيداً في الحياة الاجتماعية ولم يختبرن قدراتهن بمعزل عن الرجل.

في النهاية أود الإشارة إلى نقطة أعتقد أنه من المهم جداً أن ننتبه لها: الواقع الاجتماعي والثقافي المتباين في مجتمعاتنا العربية خلق شرخاً حقيقياً بين واقع النساء هنا، ففي حين تمكنت نسبة لا بأس بها من النساء من تحصيل جزء من حقوقهن، بقيت الكثيرات قابعات تحت سطوة الاستغلال والفقر والتعنيف، يحلمن بالحصول على أبسط حقوقهن. لذلك نحن اليوم، وخاصة إعلامياً، بحاجة للتركيز أكثر عليهن، على أم محمود ومثيلاتها من النساء.

ليس علينا انتظار حدوث جريمة مروّعة أو حادثة قتل مفجعة. علينا ألا نتوقف عن الكتابة عنهن والمطالبة بحقوقهن والسعي ما أمكن لمحاولة إخراجهن من ذلك النفق المظلم، لأن هذا النفق ببساطة هو حياتهن. وهنا لا أعني أن الحديث عن الحريات الجنسية وما يتبعها من حريات أخرى ليست مهمّاً وليس جديراً بالكتابة، ولكن علينا الحذر من هيمنة نظرة معينة وشكل واحد يجعل منا، نحن النسويات، أشبه بمخلوقات فضائية لنساء أخريات يعشن ظروفاً مأساوية أقرب إلى الموت.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

رصيف22 من أكبر المؤسسات الإعلامية في المنطقة. كتبنا في العقد الماضي، وعلى نطاق واسع، عن قضايا المرأة من مختلف الزوايا، وعن حقوق لم تنلها، وعن قيود فُرضت عليها، وعن مشاعر يُمنَع البوح بها في مجتمعاتنا، وعن عنف نفسي وجسدي تتعرض له، لمجرد قولها "لا" أحياناً. عنفٌ يطالها في الشارع كما داخل المنزل، حيث الأمان المُفترض... ونؤمن بأن بلادنا لا يمكن أن تكون حرّةً إذا كانت النساء فيها مقموعات سياسياً واجتماعياً. ولهذا، فنحن مستمرون في نقل المسكوت عنه، والتذكير يومياً بما هو مكشوف ومتجاهَل، على أملٍ بواقع أكثر عدالةً ورضا! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، وأخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا!.

Website by WhiteBeard
Popup Image