لا تعلن حكومة أي دولة في العالم عن جميع دوافعها المقترنة بخطوة ما. هذا أهم درس كنت قد تعلمته قبل دخولي ميدان العمل في الصحافة. هنالك سياقٌ مخفي على الدوام، ومهمتنا الأصعب، هي تحديد ماهيته.
هكذا تجري الأمور بالنسبة لسياسات الدول لا سيما الكبرى منها، أليس كذلك؟ ولكن من المدهش حقاً كم تخفيه تلك السياسات من نوايا خبيثة، وكم يمكن أن تُنفق دولة ما على أشياء محددة مُعلنة، في سبيل أشياء أخرى مُبطنة مختلفة تماماً.
لعل قضايا البيئة والمناخ دخلت لعبة السياسات هذه منذ حوالي عقد. وهذا أمر مبرر، مع تزايد انخراط المناخ بالعمل السياسي بشكل جنوني.
لقد أصبح المناخ ورقة ضغط وبوابة نفوذ وأداة تعبئة شعبوية من العيار الثقيل في آن واحد. نحن نقرأ بالفعل عن برامج ضخمة للمناخ كجزء من البرامج الانتخابية لرؤساء الدول العظمى، ونشاهد كم من الممكن أن تؤثر احتجاجات ناشطي المناخ على قرارات وتوجهات بعض الحكومات وتهدد وجودها. كما أن للمجتمع الدولي عينُ مراقب، تفرض على حكومات الدول الكبرى الإسراع في تنفيذ التزاماتها المتعلقة بالمناخ، ليس فقط ضمن حدودها، بل خارجها أيضاً، وبالتحديد في الدول النامية والأكثر عرضة للتأثر بتداعيات تغير المناخ.
أصبح المناخ ورقة ضغط وبوابة نفوذ وأداة تعبئة شعبوية من العيار الثقيل في آن واحد.
تشير الإحصاءات إلى مليارات الدولارات التي تُنفق سنوياً من جيب الدول الكبرى على مشاريع ذات علاقة بالمناخ، منها ما هو في سبيل التكيف مع تداعيات تغير المناخ كالفيضانات والسيول، ومنها ما هو في سبيل تطوير حلول تكنولوجية قادرة على تخفيف الانبعاثات والحد منها، ومنها ما هو في سبيل تزويد المنشآت والمصانع والأبنية السكنية بمصادر الطاقة المتجددة، أو تعزيز البنية التحتية التي تتطلبها مشاريع الوقود النظيف كالهيدروجين الأخضر، وغيرها.
هي إجراءات وتدابير عظيمة، وتُنفذ بشكل جاد بمعظمها، ولكن هل الدافع هو حماية الكوكب فقط، بحسب ما يُقال في العلن؟
جنون البحث عن مصادر مستدامة للطاقة
أثبتت الحرب الروسية الأوكرانية مدى هشاشة أقوى الاقتصادات في العالم، وتركت الدول الكبرى في مأزق كبير يهدد أمنها، ووسط رحلة بحثٍ مضنٍ عن مصادرٍ أخرى مُستدامة للطاقة تحررها من قبضة الروس المُحكمة على هذا القطاع، ولكنها في المقابل، لا تغض الطرف عن حقيقة تقول إنه ليس من السهل الوصول لمصادر الطاقة التقليدية اليوم.
بذلك، بدأت تلك الدول تتخبط في مسارات مختلفة تتحرك وفقها بالتوازي لتأمين الطاقة من مصادر بديلة، ولكن تحت غطاء أخضر، وبحجة أن هذا ما يستدعيه موقفها المسؤول لمساعدة العالم على خفض الانبعاثات بنسبة 45٪ بحلول عام 2030، والوصول إلى صافي انبعاثات صفري بحلول عام 2050، وفق اتفاق باريس في مؤتمر الأطراف 21.
بدأت دول الاتحاد الأوروبي العمل مؤخراً على الترويج للطاقة النووية على أنها مصدر نظيف للطاقة، متجاهلين بذلك حجم الخطر الذي قد يلحق بالبيئة والإنسان جراء خطأ بسيط مُحتمل ضمن مشروع نووي "نظيف".
لقد عدّلت السويد على سبيل المثال سياساتها التشريعية لتتمكن من بناء المزيد من محطات الطاقة النووية لتأمين الوقود النظيف، بعد أن كانت قد تعهدت منذ عقود بعدم بناء أية محطة نووية جديدة. ولكن ها هي تتراجع عن الوعود، وتفاضل ما بين الخطر الكبير المُحتمل "انفجار نووي"، وما بين الخطر الكبير المؤكد "إفلاسها من مصادر الطاقة". في حين تسير حكومة فرنسا - بخطى ثابتة وعازمة - لتعزيز اعتمادها على المحطات النووية لتأمين الطاقة، بل وتمد الدول الأخرى بخبراتها الكبيرة في هذا المجال.
أما في بريطانيا، فلم تنجح أصوات المحتجين التي تلقفها القضاء على خلفية إعلان الحكومة الشروع ببناء محطة "سيزويل" النووية، بإيقاف المشروع، إذ أصدرت المحكمة حكمها وكسبت حكومة بريطانيا القضية.
أتاحت قضايا البيئة والمناخ فرصة حقيقية وكبيرة أمام القوى الكبرى لتوسيع نفوذها واستثماراتها الخبيثة وتبرير كل ما هو غير شرعي بحجة حماية الكوكب من مخاطر تغير المناخ، وليس مستغرباً أن تتحول هذه القضية في مرحلة ما إلى تجارة حقيقية بالمطلق
كل هذا يأتي في إطار البحث عن مصادر بديلة ومستدامة للطاقة قادرة على انتشال وحماية حكومات تلك الدول وغيرها من هلوسات الخطر المحدق الذي يهدد أمنها واقتصادها وكيانها. هم يقولون إن هذا يخدم الكوكب ويحد من تغير المناخ، هذا ما يسمعه الرأي العام وتنقله وسائل الإعلام المختلفة، ولكن ما لا يتحدثون عنه هو السياق الخفي لمبادراتهم وتحركاتهم، ويدفعون بوجهات النظر بعيداً عن فكرة حقيقية تقول إن هذا السعي ليس من أجل التحول إلى مصادر الطاقة النظيفة.
تقنيات خضراء مقابل النفط والغاز!
لقد حملت اليابان خبرتها الهائلة في مجال التكنولوجيا الخضراء إلى حكومات السعودية والإمارات وقطر مؤخراً، واستعرضت بشكل مبتذل نواياها في تقديم مقترح يتضمن رؤية كبيرة من الممكن أن تساهم في جعل المنطقة قاعدة لإمدادات الطاقة النظيفة - بحسب تصريح كيشيدا رئيس وزراء اليابان، ولكنها أرادت شيئاً مغايراً تماماً: العودة إلى طوكيو باتفاقات في مجال الطاقة "غير النظيفة".
تأتي 93% من واردات اليابان من النفط الخام من الدول الثلاث المذكورة بالفعل، ولكنها تسعى حالياً وبشكل مدروس لإقامة علاقات أوثق مع حكومات المنطقة مدفوعة بخطر تزايد الوجود الصيني فيها، والتهديد الذي يمثله ذلك من منظور أمن الطاقة، فلم تجد - ربما – سوى ورقة المناخ للولوج في مباحثات مع دول الخليج الغنية بالنفط اليوم.
هي تدرك تماماً الاهتمام المتزايد لحكومات تلك الدول - وعلى رأسها الدول الثلاث المذكورة - بتعزيز صورتها الخضراء باعتبارها من أكبر دول العالم المُنتجة للنفط. لقد أعلنت اليابان عن نيتها بتقديم تقنياتها المتطورة في المجال الأخضر لدول الخليج، ولكنها أهملت السياق: حاجتها للنفط.
تمويل المناخ في دول فقيرة... غنية بالبترول!
إن راقبت حركة الاستثمار والتمويل - المُعلنة في إطار عناوين "إنسانية" - والتي تقودها الدول الكبرى لمساعدة الدول النامية والأكثر تعرضاً لتداعيات تغير المناخ في العالم، ستدهش بكم النتائج والخلاصات التي ستتنهي إليها.
تركز بعض القوى الكبرى على تمويل دول القارة الأفريقية على سبيل المثال - الغنية بالثروات الطبيعية بمحض الصدفة - بملايين الدولارات لمواجهة تغير المناخ والتصدي للفيضانات والسيول والتصحر وغيرها. وتتحرك وفق قواعد لعبة تبدو مفهومة لجميع أطراف التمويل، لتحديد ماهية المشاريع التي تنوي تنفيذها، وأين.
تجد أن الصين ترفع من نسبة التمويل والاستثمار الأخضر في القارة الأفريقية، فتلحق بها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وغيرهم، وهكذا تجري الأمور. التزامات إنسانية يفرضها تغير المناخ على الدول الكبرى، نعم. ولكن المقابل هو البترول على أقل تقدير.
تشير الإحصاءات إلى مليارات الدولارات التي تُنفق سنوياً من جيب الدول الكبرى على مشاريع ذات علاقة بالمناخ، منها ما هو في سبيل التكيف مع تداعيات تغير المناخ كالفيضانات والسيول، ومنها ما هو في سبيل تطوير حلول تكنولوجية قادرة على تخفيف الانبعاثات والحد منها
المناخ فرصة
لقد أتاحت قضايا البيئة والمناخ فرصة حقيقية وكبيرة أمام القوى الكبرى لتوسيع نفوذها واستثماراتها الخبيثة وتبرير كل ما هو غير شرعي بحجة حماية الكوكب من مخاطر تغير المناخ، وليس مستغرباً أن تتحول هذه القضية في مرحلة ما إلى تجارة حقيقية بالمطلق، لا سيما أن بعض الحكومات تروج اليوم لضرورة تعزيز ما يسمى بـ"أسواق الكربون"، التي تعني أن تقوم الشركات والصناعات المتسببة بالانبعاثات بالدفع مقابل ما تتسبب به من انبعاثات سنوياً.
تساهم في حماية الكوكب بالفعل في مكان ما، ولكنها تدفع المال مقابل الاستمرار بتعزيز الخطر الذي تتسبب به صناعاتها في مكان آخر.
ملاحظة من المحرر: يشير مصطلح "الأخضر" إلى تدابير ومشاريع صديقة للبيئة والمناخ لا تتسبب بانبعاثات ضارة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون