تزخرُ لغتنا العربية الفصحى، بالكثيرِ من الكلمات اللطيفة والخفيفة على الفؤاد واللسان. نتبسّم ونحن نلفظ هذه المفردات الملوّنة، والمغرّدة خارج السّرب، والتي نشعرُ ونحن ننطُقها بأنّ لها مذاقاً خاصاً ولوناً مغايراً ورنيناً مختلفاً عن شقيقاتها المحلّقات في سماء لغة الضّاد.
الفشكلة والفذلكة والكشكشة
يقول النّاس: "هذا الأمر مفشكل" أو "كلُّ عملهِ فشكلة"، عندما يصفون عملاً غير منظم أو مرتّب بالشكل المطلوب. وفشكلة تعني الغلط واللغط في العمل أو القول، وتالياً تكون صفةً لعملٍ أو حديثٍ بلا قيمة وليس جديراً بالاهتمام، وبلفظ آخر: "معفشك".
فشكلة تعني الغلط واللغط في العمل أو القول، وهي مأخوذة من كلمة عربية فصيحة صحيحة ألا وهي "فسكلة"، لكن تم تحويرها على لسان العامّة
وكلمة فشكلة، مأخوذة من كلمة عربية فصيحة صحيحة ألا وهي "فسكلة"، لكن تم تحويرها على لسان العامّة. في كتاب "تاج العروس" لمرتضى الزبيدي، جاء: "كانت العرب تطلق صفة الفِسكل على الفرسِ الذي يجيء آخر الحلبة". كما يورد قولاً لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب حين خاطب أبناء زوجته أسماء بنت عميس: "قد فسكلتني أمّكم"، أي أخّرتني، كونها تزوجت قبله بأخيه جعفر الطيار، ثم بأبي بكر، ثم بعلي رضي الله عنهم أجمعين. وهنا بيت للأخطل يورد هذه الكلمة:
"أجميع قد فسكلت عبداً تابعاً/فبقيت أنت المفحم المكعوم".
إذاً، كلمة فِسكل تعادل كلمة الأخير من كل شيء أو "الطُشي" في لغتنا العامية.
الفذلكة
نستخدم كثيراً كلمة فذلكة، أو نقول إنّ فلاناً يتفذلك كثيراً، تعبيراً عن امتعاضنا وانزعاجنا من تصرفات شخص ما، ونستبدل الذال بالزين، فنقول بلا فزلكة، أو فلان يتفزلك، أو علّان شخص مفزلك وعلّاك. ونقول أيضاً بلا فزلكة وعلّاك وحكي فاضي (فارغ)، وتعني في لغتنا العامية الفلسفة (ليس بمعناها الحرفي)، وحب الظهور الفارغ، وهي لمن يحاول أن يظهر معرفته بالشيء وفهمه له وهو بعيد كل البعد عن ذلك، فهو يتفزلك لإظهار قدراته ومعلوماته واستعراض عضلاته العقلية.
ولكن في لغة الضاد، لكلمة فذلكة معنى مغاير عن المعنى الذي نقصده في أيامنا هذه. في كتاب ابن النديم (ت 385 هـ)، "الفهرست"، أن كلمة فذلكة تعني نهاية التأليف وحصيلته، وهي كلمة قديمة جداً، تعني أنها جملة الحساب والعدد، فذلكَ حسابهُ تعني أنهاه وفرغ منه.
وقال ابن النديم في ترجمته لأبي عمر الزاهد المتوفى عام 345 هـ: "ثم جمع الناسَ على قراءة أبي إسحاق الطبري، وسمّى هذه القراءة الفذلكة".
الكِشكِشة
تعني كلمة كشكشة، بفتح الكاف في اللغة العامية الدّارجة، أن يهتمّ شخص ما بشخص آخر أيّما اهتمام.
أمّا في اللغة العربية الفصحى، فهي بجعل الشين مكان الكاف، للدلالة على التأنيث.
يذكر العلّامة المحقق عبد السلام هارون (1909-1988)، في كتابه "كُناشَة النّوادر"، أنه جاء في أعمال لجنة اللهجات المصرية، شرحٌ لها، باستبدال الشين بمكان الكاف، وذلك في خطاب المؤنثة الخاصة، كقولهم: عليشِ ومنشِ، عوضاً عن، عليكِ ومنكِ. وهي لغة بكر بن وائل، مستشهداً ببيت شعرٍ لمجنون ليلى:
"فعيناشِ عيناها وجيدُشِ جيدها ولكن عظم السّاق منشِ دقيقُ".
وإذا لم نستخدم الكشكشة في البيت الأخير فيكون كالآتي:
"فعيناكِ عيناها وجيدُكِ جيدها ولكن عظم السّاقِ منكِ دقيقُ".
كما يذكر عبد القادر البغدادي (1030-1093)، في الجزء الحادي عشر من كتابه "خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب"، ترجيح تسميتها بالكِشكِشة بكسر الكافين في الكلمة المذكورة، لأنه مقتضى الحكاية في كِش كِش. كما يذكر البغدادي رأياً آخر، وهو أنّ مِن العلماء مَن يفتح الكافين على حدّ قولهم في التعبير، فكَشكَشة على وزن بَسملة التي تعني بسم الله.
الطُّرطور
يرى العلّامة المحقق عبد السلام هارون، في كتابه " كُناشَة النّوادر"، أن الطُّرطور كلمة من صميم العربية، فقد جاء في المعجم الوسيط أن الطُّرطور بتشديد الطاء وضمّها تعني الوغد والضعيف من الرجال.
هذا الرجل زير نساء، هكذا يُوصف الرجل الذي له علاقات عاطفية كثيرة مع النساء، وقد اشتُّقت من الزّيارة، زير نساء أي يكثر من زيارة النساء، حسب العلامّة المحقق عبد السّلام هارون.
وتستخدم العامة من الناس، هذا الوصف كثيراً على الشخص الذي يكون بلا شخصية مستقلة أو تابعاً وخاضعاً لأحد ما، وليس بذي مكانة بين بني عشيرتهِ وليس له حلّ ولا عقد. ولكنهم يقومون بفتحِ الطاء فيقولون طَرطور.
وهنا يذكر الشاعر هذه الكلمة:
"قد علمت يشكر من غلامها/إذا الطراطير اقشعر هامها".
ورجل طرطور، أي دقيق طويل. والطرطور أيضاً قلنسوة للأعراب طويلة الرأس، وهي القلنسوة التي يرتديها رئيس الطباخين أو الشّيف كما نسميه اليوم.
الزّير
هذا الرجل زير نساء، هكذا يُوصف الرجل الذي له علاقات عاطفية كثيرة مع النساء، وقد اشتُّقت من الزّيارة، زير نساء أي يكثر من زيارة النساء، حسب العلامّة المحقق عبد السّلام هارون.
ولكلمة زير معنى آخر بالعربية، فالزير يعني الدّن وجمعها دِنان وهي تعني الجرّة الضخمة التي تُستخدم لصنع الخمر أو الخل.
ويروي الخشني القروي (ت 361 هـ)، في كتابه "قضاة قرطبة وعلماء إفريقية"، روايةً طريفةً عن أحد قضاة مدينة قرطبة في الأندلس، واسمه "أبو الزير أحمد بن وهب"، وكُنّي بأبي الزّير لأنه عمل نبيذاً في زير، وأراد أن يذوقه، ولم يجد آنيةً يُدخلها في الزّير، فأدخل رأسه في الزّير ثمّ لم يستطع أن يخرجه حتّى كُسِر الزير، فأصبحت كنيته أبا الزّير.
الإمّعة
الإمّعة تعني لغةً الرجل الضعيف المتهافت الرأي، وبتفسير أوضح هو من يقول لكلّ واحد من الناس: أنا معك. ولهذا سمّي إمّعة لأنه مع الجميع ولا يريد أن يعادي أحداً أو يتخذ موقفاً واضحاً.
وإمّعة كلمة جاهلية تعني الرجل الذي يذهب إلى موائد الطعام من دون دعوة. يقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود: "كنّا في الجاهلية نعدُّ الأمّعة الذي يتبع النّاس إلى موائد الطعام من غير أن يُدعى، وإنّ الإمّعة فيكم اليوم المُحقِب الناسَ دينهُ". والمُحقب تعني أن يضع دينهُ في حقيبة غيره من الناس، أي أن غيرهُ هو من يتحكم به ويوجهه على هواه في أمور دينه.
الطفيلي
يذكر الثعالبي (350-429 هـ)، في كتابه "ثمار القلوب في المضاف والمنسوب"، في الباب السادس منه، كلمة طفيلي، وهي تعود إلى رجل كوفيّ من بني عبد الله بن غطفان، كان يُلقب طفيل الأعراس أو العرائس، واسمه طُفيل بن دلال، كان يذهب إلى الولائم دون دعوة، وإليه يُنسب الطُّفيليون، وكان يقول: "لوددت أن الكوفة كلها بِركةٌ مصهرجةٌ فلا يخفى عليّ من أعراسها شيء". وكان العرب يقولون في أمثالهم: "أوغل من طفيل" و"أطمع من طفيل".
اللغة العربية هي واسطة العقد بين لغات العالم أجمع؛ ليس لجمالها وجزالتها في الوقت نفسه، ولكن لتفوقها على باقي لغات الأمم الأخرى، فمن أوتي حلاوة بيانها وطلاوة نعوتها فقد أوتي علماً كبيراً وخيراً كثيراً
وسُئِل ذات مرة عن أشرف الأعواد، فقال: "عصا موسى، ومنبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وخِوان العُرس". وكلمة خِوان تعني السُفرة المرتفعة التي يوضع عليها الطعام.
أي أنه عندما سئل عن أشرف الأخشاب، وضع خشب الطاولة التي يوضع عليها الطعام في الأعراس في المرتبة الثالثة بعد أغراض الأنبياء، وذلك لشدة شراهته وعشقه لمعدته.
وفيه يقول أحد الشّعراء: "وكنا بالمطالبِ قد شقينا ففزنا بالسّعادةِ عن طفيلِ".
أي/ أيوه/ إيوه
أي/أيوه/إيوه، لها معنى كلمة نعم، وأصلها من كلمة إِي، التي لها جذور قديمة في لغتنا العربية، حيث وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم ولكن الهمزة فيها موقعها تحت الألف وليس فوقها كما نلفظها في أحاديثنا.
وقد وردت في سورة يونس، الآية 53: "وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ".
وفي التفسير الميسّر وتفسير الجلالين، إي تعني نعم، وهذا واضح من سياق الآية الكريمة.
وفي كتاب "حاشية الأمير على مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام"، للشيخ محمّد بن محمّد بن أحمد المعروف بالأمير (1154-1232 هـ)، أن إِي هي حرف جواب بمعنى نعم، وأنها بهذا المعنى لا بد أن تكون متلوّةً بقسم، إذ يقول العرب: "إِي وربي" عندما يُقسمون ويحلفون.
نجد مما تقدّم، أن بعض هذه المفردات كان يستخدمها أبناء قريش وهم الأكثر فصاحةً بين العرب، حالهم كحال هذيل وثقيف وخزاعة وبني كنانة وغطفان وبني أسد وبني تميم، وذلك لابتعادهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم، كما يرى ابن خلدون في الفصل السابع والثلاثين من مقدمته المعروفة.
وفي الختام، لا بد من القول إنّ اللغة العربية هي واسطة العقد بين لغات العالم أجمع؛ ليس لجمالها وجزالتها في الوقت نفسه، ولكن لتفوقها على باقي لغات الأمم الأخرى، فمن أوتي حلاوة بيانها وطلاوة نعوتها فقد أوتي علماً كبيراً وخيراً كثيراً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...