شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"أهدتْ إليه سفرجلاً فتطيّرا"… طرائف الطعام عند العرب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 5 مايو 202302:29 م

يدرك دارسو الحضارات ما للمطبخ ولآداب الطعام في كل ثقافة من أهمية في فهم أوجه الحياة المختلفة لدى الشعوب. فتدوينات الرحالة، على اختلاف جنسياتهم وأزمنتهم، حفلت بملاحظات تتسرب منها روائح تثير الشهية، وأخبار وطرائف قد تسيل لعاب القراء. ومَن لا يسمع مِن اللسانيين بالأنثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي ستروس، صاحب "المثلث الغذائي"؟ قسّم ليفي ستروس الحضارات، بوصف كل ثقافة غذائية لشعبٍ ما بأنها تتكون من "نيء، ومطبوخ، ومعفن". وتختلف تالياً الحضارات باختلاف نِسَب مكونات هذا المثلث.

تردد اسم هذا العالِم الفرنسي في غير موضع من فصول كتاب "لعنة بابل"، للغوي اللبناني بلال عبد الهادي، وحفلت فصوله بأخبار مأكولات لغوية وغير لغوية. ولم يغفل الفيلسوف أبو حيان التوحيدي في إحدى لياليه الأربعين من كتابه "الإمتاع والمؤانسة" عن ذكر المائدة وسلوكيات "المُطعِمين والطاعِمين". وما تفصيل الفقيه أبي منصور الثعالبي، في أسماء المأكولات عند العرب، باختلاف مكوناتها ودرجات إنضاجها وطرق تقديمها سوى دليل على هذا الثراء اللغوي المعادِل قيمةً للتنوع الثقافي في باب المعدة ومزاجها.

اللسان أداة التكلم والتذوق: طُرَف من هنا وهناك

كتب عبد الهادي يقول إن كلمتَي الأدب والمأدُبة خرجتا من رَحِم واحد، أي من الجذر الثلاثي (أ–د-ب). وفي هذا السياق يفصّل الثعالبي في كتابه الشهير "فقه اللغة"، أطعمة الدعوات؛ أذكر منها على سبيل المثال أن طعام الدعوة يقال له "المأدُبة"، وطعام الضيف هو "القِرى"، وطعام الزائر يسمى "التُّحفة"، أمّا طعام العرس فهو "الوليمة". هذه التسميات ما زالت متداولةً بمسمياتها كعادات سلوكية لدى العرب. فثمة تسمية لكل طعام مقرون بمناسبة، كطعام الولادة، والختان، والمأتم، والبناء، وطعام القادم من السفر، وإلى ما هنالك من مظاهر اجتماعية تختص بها معدة العربي، فتتسع لها معدة لغته.

إذا ما عُدنا إلى مشكلة التطيّر (أي التشاؤم غير المفهوم من بعض الظواهر)، فإن بعض المأكولات سيئة السمعة على غرار فاكهة "السفرجل". وقد نجد مِن العرب مَن يبتعد عنها؛ وذلك، زيادةً على أثرها على اللسان، لسبب خفي يقترن باسمها

في آداب المائدة يتبع العامة التقليد العربي في وضعهم الطعام أمام الآكلين، وتركهم حرية الاختيار للضيوف وفق ما يوضع من أطباق متنوعة. ويجد الثعالبي أن جُلّ أطعمة العرب على وزن "فَعِيلة"، وهي متقاربة الكيفيّة (من الدقيق، واللبن/الحليب، والسمن، والتمر): كالسَّخِينة واللَّوِيقة والصَّحِيرة وغير ذلك من أطعمة على شاكلة هذه "الفَعيلة".

وفي الليلة الحادية والثلاثين من ليالي أبي حيّان التوحيدي، في مسامرة الوزير ابن سعدان (أبي عبد الله العارض، وزير صمصام الدولة البويهي)، جاء الكلام عن "الأخلاق المختلفة بالأمزجة المتباينة، والطبائع المتنائية"، في مسألة من يهشّون عند المائدة أو يعبسون، بدلالة الكرم وحسن الضيافة أو عَدَمهما.

ينقل التوحيدي ما جرى من جدال عند الوزير الصاحب بن عباد في الرِيّ، أفضى إلى أن الأَولى الحث والتأنيس والطلاقة وقلة التحديق. ويروي أحد الجلساء أنه حضر موائد ناسٍ لا يظن بهم البُخل، فلم يحثوه ولم يبسطوه، فقبضه ذلك.

وفي رواية أخرى للتوحيدي، يورد واقعةً عن امرأة جاءت إلى الليث بن سعد (أبي الحارث، إمام وفقيه من مصر)، تسأل عسلاً لزوجها المريض، وفي يدها قدح؛ فأمر لها براوية (مَزادة) عسل. ويرد على من عاتبه لما ظنوه منه تفريطاً، بالقول: "سألتْ على قَدْرِها، ونُعطيها على قَدْرنا".

في كتاب "أدب الرحلات"، يخبر حسين محمد فهيم، بأن العرب في عهد الأمويين استخدموا الفوط والملاعق المصنوعة من الخشب، وأخرى من الفخار تُجلب من الصين. وبأن الناس في ذلك العهد كانوا يجلسون على الكراسي أمام مائدة طعام يكسوها مِفرَش من القماش. وثمة آداب مقررة لتناول الطعام مع الخلفاء والأمراء؛ فلا ينبغي التبسط في الطعام؛ "لأن الأكل مع عِلية القوم كان للشرف وليس للشبع، مع ما في الانبساط من الجرأة وسوء الأدب". أما معظم موائد الخلفاء العباسيين فمصنوعة من الفضة والذهب. وكان من عادتهم أن يغسلوا أيديهم لدى جلوسهم حول المائدة قبل البدء بتناول الطعام.

ويعرّج حسين فهيم على ذكر "سفرنامه" للرحّالة الفارسي ناصر خسرو، وقد تحدث عن المائدة السلطانيّة التي شاهدها في القاهرة في ظل الدولة الفاطمية (439 هـ)، فكتب يقول: "اعتاد سلطان مصر أن يدعو الناس إلى مائدته مرّتين في العام. وتتم الدعوة في عيدَي الفطر والأضحى. وتشمل الدعوة الخاصّة ويستقبلهم السلطان في قصره، والعامة يُدعَون في قصور أخرى... أمّا هيئة المائدة السلطانيّة فتصل حدّ الإعجاز. تزيّن المائدة شجرة عملاقة شبيهة بشجرة الأترنج (من الحمضيات)، وجميع أغصانها الكثيفة وحملها من الأترنج عبارة عن قطع من السكر، ويحف بالشجرة ويعلوها ويجاورها ويرقد بين يديها آلاف من الصور والتماثيل الغريبة العجيبة وكلها من السكر الخالص".

ابن العميد وترفه وابن الرومي ولذاته وعمر بن عبد العزيز وضَرَسه

ينقل حسين فهيم عن الباحث محمد إحسان، في كتابه "أثر المعدة على الأدب العربي"، أن العرب بقوا على حالهم وقيمهم إزاء الطعام في عهد تأسيس الدولة الإسلامية؛ فكانوا يفضلون الجوع على الشبع. وبعد أن سكن الناس إلى الرفاهية استمتعوا بالخيرات التي انهالت على الشام وبغداد، فكانت الولائم والدعوات، والنزهات والسمر؛ ليتجاوب الشعراء مع مقتضيات تلك الحياة في وصفهم الموائد، والتغني بالمآكل وضروب الفاكهة والحلوى. ويأتي على ذكر الوزير ابن العميد (العصر العباسي)، كمثال عن التَّرَف المَطبخي؛ إذ كانت له جولات في عالم المأكل أثبت بعضها الثعالبي في كتابه "يتيمة الدهر".

وفي مسألة الشَّبَع، لا تختلف الآراء فيها بين بيئة وأخرى أو زمن وآخر فحسب، بل يُنظر في مفهومه وفاق المهنة ومجال الاشتغال، والطباع، كما جاء في "الإمتاع والمؤانسة". فحين سُئل صوفي عن حد الشبع، أجاب بأن لا حد له، وبأن الأكَلَة مختلفو الطباع والمزاج، "وحكمة الله ظاهرة في إخفاء حد الشبع حتى يأكل من شاء على ما شاء كما شاء".

"النحو في الكلام كالملح في الطعام"؛ فالجودة وحسن المذاق في كليهما، أي النحو والطعام، يعودان إلى تناسب المقادير وإلا ستفسد الطبخة.

أما الطبيب فرأيه في حد الشبع أنه ما عدل الطبيعة وحفظ المزاج، والجندي يرى في أنه ما شدّ العضل وأحمى الظهر، والبخيل يقول إن الشبع حرام كله، وإن الله أحل من الأكل ما أمسك الرمق وسكن الصداع. وعلى هذا النحو تتباين الآراء للتركي، والمَدني، واليَمني، والهندي، والحمال، والقصار، والطفَيليّ، والأعرابي، بما لا مجال لذكر تفاصيلها في هذا المقام.

عُرف عن الشاعر العباسي ابن الرومي تطيره وسلاطة لسانه الساخر، غير أن ولعه بالطعام لا يقل عنهما شهرةً. فهو صاحب قصيدتَي "فواكه أيلول"، و"مَجمَع اللذات".

ويورد عبد الهادي اعتراف الشاعر بأن لا أحد يضاهيه خِبرةً في الكلام عن لذيذ الطعام، وأنه يرى الطعام نصاً فنياً يجب إتقان كتابته ووضع النقاط والحركات (الشكل) على مفرداته. وإذ يُنهي قصيدته "مجمع اللذات" بالبيت: "لهفي عليها وأنا الزعيم/لمعدةٍ شيطانها رجيم"، تكون نهايته مسموماً على يد الوزير القاسم بن عبد الله، بوضعه السم في طبق "لوزينجة" (اللوزينج، نوع من القطايف، من الأطعمة حلوة المذاق)؛ حيث رأى الوزير أن لسان ابن الرومي أطول من عقله لكثرة هجائه وبذاءته.

ومن الطرائف اللغويّة المختصة بأثر الطعام على اللسان، يأخذنا كتاب "لعنة بابل" إلى زمن الخليفة عمر بن عبد العزيز، الذي كان يَضرَس من سماع اللحن في الكلام (واللحن هو الخطأ النحْوي ومخالفة الإعراب)؛ فيقول: "أكاد أضرس إذا سمعت اللحن". وضَرَس الأسنان غالباً ما نحسّ به مع المأكولات شديدة الحموضة.

وإذا ما عُدنا إلى مشكلة التطيّر (أي التشاؤم غير المفهوم من بعض الظواهر)، فإن بعض المأكولات سيئة السمعة على غرار فاكهة "السفرجل". وقد نجد مِن العرب مَن يبتعد عنها؛ وذلك، زيادةً على أثرها على اللسان، لسبب خفي يقترن باسمها يوضحه بيتان لشاعر قديم، حيث يقول: أهدت إليه سفرجلاً فتطيّرا/ منه، وظل متيّماً مستعبِرا/خاف الفِراقَ لأنّ أوّل اسمه/سفرٌ، فحُقّ له أن يتطيّرا.

"كرواسان" من فيينا إلى فرنسا... ووزير صيني يحترف فن الطبخ

للألفاظ رحلاتها، ولمعانيها ترحالها أيضاً؛ فدلالات الكلمات لا تبقى كما هي من زمن إلى آخر ولا في تنقلاتها بين الأمكنة؛ والحديث في هذا الباب يطول. إذا كان هذا هو الحال مع الألفاظ فإن السفر سمة بارزة للمأكولات. ولعلّ القارئ يتذكر في هذا المقام ما جاء في رواية "يوسف الإنكليزي" لربيع جابر، من أن طعام "الفول المدمّس" عرفه البيروتيون مع الحملة المصرية لإبراهيم باشا، على بلاد الشام (1831).

كما عرف أهل الشام شراب "المتة" من أسفار السوريين وأهل جبل لبنان إلى بلدان من أميركا اللاتينية في بدايات القرن العشرين، كما تخبرنا رواية "أميركا" للروائي نفسه، وهو من له رأي إيجابي جداً في السفر بوصفه طارداً للاكتئاب. فماذا عن "الكرواسون"؟

"اسم هذه الفطيرة وليد شكلها": "الهلال" بالفرنسية. ومن نافل القول إنه رمز إسلامي. وللفطيرة حكاية أوردها عبد الهادي في "لعنة بابل"، ترتبط بالغزو العثماني لمدينة فيينا، وبفرّان بسيط يدعى "أدم سبايل" يقع فرنه قرب أسوار المدينة المحاصرة من قبل العثمانيين. وقد انتبه ذات فجر من عام 1693، إلى صمت الصراصير وعزوف الفئران عن الحركة؛ وسرعان ما بدأت أشياء فرنه تهتز، والأرض ترتج، وأصوات غامضة تتسرّب إليه؛ فأبلغ الحراس بالأمر، وما لبثوا أن اكتشفوا بدء حفر العثمانيين نفقاً يتسللون عبره إلى داخل المدينة.

من الطرائف اللغويّة المختصة بأثر الطعام على اللسان، يأخذنا كتاب "لعنة بابل" إلى زمن الخليفة عمر بن عبد العزيز، الذي كان يَضرَس من سماع اللحن في الكلام (واللحن هو الخطأ النحْوي ومخالفة الإعراب)؛ فيقول: "أكاد أضرس إذا سمعت اللحن"

بطبيعة الحال، أُفشلت الخطة المعادية بهذا الكشف المُبكر، واندحر العدو، ونجت المدينة من الاحتلال، وكُرّم الفرّان، وخُصّ بتحضير فطائر للمناسبة على شكل هلال/كرواسان، وهو الرسم الموسوم به علم الجيش العثماني. فالتهام الرمز هو بمنزلة التهام المرموز إليه، وانتصار معنوي على ما ومَن يمثله، على ما يذهب صاحب الحكاية.

إنما الرموز جوالة؛ فانتقلت هذه الفطيرة إلى فرنسا بداية مع الملكة ماري أنطوانيت، وهي من أهل فيينا، كي تكسر شعورها بالغربة بطعام اعتادته في بلادها. ليبقى الفضل في رواج هذه الفطيرة وانتشارها في الأوساط الفرنسية لزوجة نابليون الثالث، يوجين دي مونتيجو، التي تربطها بفيينا صلات عميقة. وهكذا "تفَرْنَست" الكرواسان. وما لبثت أن غزت صباحاتِنا، نحن العرب.

ومع خبر طريف من الصين أيضاً، يستند إلى العلاقة الوثيقة بين تركيب الكلام وتركيب الطعام، يفيد عن إمبراطور صيني كان يرفض تعيين وزير لإدارة شؤون المملكة إن لم يكن طباخاً ماهراً. يجد عبد الهادي تعليلاً لهذا السلوك، ولا يرده لمسّ في عقل الإمبراطور كما يُخيَّل للبعض، بل إلى حاجة السياسي إلى توليف تناقضات المجتمع وتباين الأمزجة، تماماً كمهارة الطباخ في تركيب مكونات الوجبة والجمع بين مذاقاتها المتناقضة. ويستشهد بمقولة يعرفها النحويون تفصح عن أن "النحو في الكلام كالملح في الطعام"؛ فالجودة وحسن المذاق في كليهما، أي النحو والطعام، يعودان إلى تناسب المقادير وإلا ستفسد الطبخة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard