شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
تضحية والي الكوفة بالجَعْد بن درهم... ذبحٌ شرعي أم عودة مكبوتٍ بدائي؟

تضحية والي الكوفة بالجَعْد بن درهم... ذبحٌ شرعي أم عودة مكبوتٍ بدائي؟

سياسة نحن والتطرف نحن والتاريخ

السبت 5 أغسطس 202312:41 م

صبيحة عيد الأضحى لعام 118 هـ، انتهى والي الكوفة للأمويين خالد القسري من صلاة العيد وخطبته وختمها مخاطباً المصلّين: "انصرفوا وضحّوا تقبّل الله أضحياتكم، أما أنا فإني مُضَحٍ بالجعد بن درهم، فقد زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلّم موسى تكليماً تعالى الله عما يقول الجعد علواً عظيماً"، ثم نزل درجات المنبر وأمسك بالجعد مقيّداً ونحره.

يمكن تخيّل المشهد على طريقة أفلام هوليوود، فنرى الوالي التقيّ الورع، يهبط بهدوء وثقةٍ من منبره، يدندن لحناً لطيفاً أو يرتل آيةً تدعو للرحمة والتسامح، ينظر إلى الحضور الغفير ويبتسم، يمسكُ بيده شعر الجعد، وبيده الأخرى مديةً تجزّ عنق الضحية المستكينة لمصيرها، ثم يطلب من الخدم: "نظّفوا المكان من هذه النجاسة يا أبنائي"، ويذهب إلى منهل الماء فيغسل يديه، ويلتم حوله بضعة شيوخ يباركون تضحيته ويدعون له بطول العمر لما فيه خير أمة الإسلام (!).

الحادثة ليست جديدةً من حيث تبادل القتل بين فرق الإسلام المتصارعة منذ الخلافة الراشدية، لكنها ربما الأولى من حيث الشكل والتبرير الذي ساقه الوالي "المضحّي"، بل إظهار الأمر بوصفه أضحية عيد وتنفيذاً لتكليف إلهي، أي إسباغ الصفة الشرعية على قتل شخص يقول رأياً مختلفاً، وباسم "الحق الإلهي".

من هو الجَعْد؟

يعود أصله إلى خراسان. أقام في دمشق وظهرت ميوله في علم الكلام، وعلم الكلام هو فرع من العلوم الدينية يقوم على الجدل في المسائل الاعتقادية، وقد نشأ في أوائل العهد الأموي بالتوازي والارتباط مع النزاع السياسي بين الأمويين ومعارضيهم. يُعدّ الجعد أول من قال بخلق القرآن، المسأله التي أضحت لاحقاً من المباحث المعتزلية، وأول من قال "بالتعطيل"، أي نفي الصفات والأسماء والتشبيه عن الله، وتأويل ما جاء به القرآن حين يذكر يد الله أو عرشه أو كلامه تأويلاً مجازياً، ويُروى أنه استقى فكرة التعطيل من فلاسفة حرّان.

يذكر ابن كثير في تاريخه: "وأما الجعد فإنه أقام بدمشق حتى أظهر القول بخلق القرآن، فتطلبه بني أمية فهرب منهم، فسكن الكوفة، فلقيه فيها الجهم بن صفوان، فتقلد هذا القول منه". قبل ذلك كان قد نال ثقة الأسرة الأموية فعمل معلماً لبعض أبنائهم حيث وصل تأثير آرائه إلى مروان بن محمد، الذي أصبح آخر الخلفاء الأمويين. خاض في دمشق المناظرات مع علمائها وحاول نشر أفكاره فأثار حنق بعضهم وشكوه للخليفة.

يمكن تخيّل المشهد على طريقة أفلام هوليوود، فنرى الوالي التقيّ الورع، يهبط بهدوء وثقةٍ، ينظر إلى الحضور ويبتسم، يمسكُ مديةً تجزّ عنق الضحية المستكينة لمصيرها، ثم يطلب من الخدم: "نظّفوا المكان من هذه النجاسة يا أبنائي"

والسبب المباشر للشكوى كانت خطبته التي قال فيها إن "أفعال الإنسان، سواء أكانت خيراً أو شراً، هي من صنعه وبإرداته الحرة، وحاشى لله أن يجبر إنساناً على فعلٍ شرّ ثم يعاقبه عليه لأن عدل الله تعالى يوم الحساب لا يقبل بعقاب إنسان على خطيئة أجبره على اقترافها"، وهذا ما تحسس فيه علماء السلطان مناهضةً لفكرة الجبر الأموية، فكتبوا للخليفة الذي قبض عليه وأرسله لواليه على العراق خالد القسري.

من هو خالد القسري؟

خالد بن عبد الله بن يزيد القسري البجيلي، ويكنّى بأبي الهيثم، ولّاه الوليد بن عبد الملك إمارة مكة سنة 89 هـ، ثم أعطاه هشام بن عبد الملك ولاية العراق سنة 105 هـ، وبقي فيها إلى أن عزله سنة 120 هـ. وككثر من رجال الحكم في التاريخ العربي دونت المراجع رواياتٍ تنحاز إليه وأخرى ضده، فقد قال عنه "الذهبي" إنه جوّاد عالي الرتبة ومن نبلاء الرجال، وروى "الأصمعي" أنه كان يطعم الآلاف من الفقراء، وأنه عاقب رجلاً أعلن النبوة في الكوفة بأن صلبه على عمود، فتندر أحد الشعراء شامتاً: "إنا أعطيناك العمود* فصلّ لربك على عود* وأنا ضامن لك ألا تعود". كما يروي الأصمعي قصصاً أخرى تدلّ على رقة قلبه وطيبته وطربه للموسيقى، وقيل إنه كان يستعين ببني قومه من بجيلة في إدارة شؤون الولاية.

كما يذكر "ابن الأثير" في تاريخه أن الوليد بن يزيد الذي نازع ابن عمه الخلافةَ وانتصر عليه، استدعى خالداً وانتقم منه بسبب انحياز ابنه محمد إلى خصمه، فسلبه كل ثروته التي حصّلها في أثناء ولايته واتهمه بالزندقة وباعه في سوق النخاسة، فلقي الذل والتعذيب إلى أن توفّي عام 126 هـ.

فتاوى ومباركات

الأبرز والأكثر خطورةً من حادثة القتل، هي الكيفية التي نظر بها بعض رجال الدين إلى هذه الجريمة وامتداحها بوصفها "تضحيةً مباركةً" لا شك مقبولة من رب العالمين، والثناء على القاتل كبطل وصاحب سلطان مؤمن لا يتردد في الدفاع عن الدين والعقيدة، وذهب آخرون إلى أن ذلك "أفضل وأعظم أجراً من الأضحيات؛ لأن فيها قطعاً لدابر الفتنة والفساد، وثوابها أعظم من ثواب الأضحية"، وسمّاها بعضهم "الذبح المبارك".

وقد أثنى عليها "ابن العماد" في "شذرات الذهب"، مؤكداً على أنها أضحية عيد مقبولة من الله "فلله ما أعظمها وأقبلها من أضحية"، والبعض نظموا القصائد مثل "ابن قيّم الجوزية" الذي قال في مديح خالدٍ وتضحيته:

شَكَرَ الضحيةَ كلُّ صاحبِ سنّةٍ... لله درّكَ من أخي قربان.

أما فتاوى الفقهاء فيكفي أن نذكر أن "ابن تيمية" الذي يعدّه جمهور المسلمين أهم من أفتى بشؤونهم الدينية والدنيوية ويلقبونه بـ"شيخ الإسلام"، قد عدّ عملية الذبح هذه تمت برضا علماء الإسلام، وقد وضع بعض القواعد والشروط للذبح منها أن "يكون بالسيف أو نحوه، لأن ذلك أروح أنواع القتل، بشرط أن يتم حدّ الشفرة"(!). فهل علينا وعلى ضحايا الذبح أن نشكره على رأفته بالمذبوح وإصراره على تسهيل العملية بأن يكون النصل حاداً مرهفاً؟

تهديد الرأي

تجب الإشارة أولاً إلى أنه وبرغم كل التسلط الذي مارسه الأمويون والعباسيون؛ لم يتحول قتل المفكرين وعلماء الكلام والفلاسفة إلى ظاهرة واسعة أو نهجٍ مستمر، بل كان المناخ العام ومزاج سلطة الخلافة يحتملان عموماً اختلاف الاجتهادات الدينية وصولاً إلى إعلان الميول والأفكار الإلحادية، ويغلب على الحالات التي تم فيها قتل المفكرين أنهم أعلنوا موقفاً سياسياً معارضاً أو يستبطن المعارضة، أو ساهموا في تشكيل فرق المعارضة، وبعض الحالات جرت تحت ضغط مشايخ السلفية، لذلك يمكن بدايةً النظر إلى قتل الجعد على أنه بمثابة حادث خارج عن السياق المألوف حينها، إلا إذا صحّت رواية أن الخليفة هشام بن عبد الملك أرسل أمراً صريحاً بالقتل لأسباب تندرج ضمن الصراع بين تياري الجبرية والقدرية.

ما التهديد الذي شكّلته آراء الجعد لإيمان المسلمين ويقينهم كي يعدّه الوالي  خطراً على أمة الإسلام يستحق الإفناء لكيلا يتفاقم؟ اجتهد الجعد وأعمل عقله في مسألة عقائدية قاصداً تنزيه الخالق عن صفات بشرية؟

تبنّت السلطة الأموية فرقة "الجبرية"، وروّجت لها كتبرير عقائدي لاحتكار ولاية أمر المسلمين المرضيّ عنها من السماء، ولولا ذلك لتدخل الله لتغيير هذا الواقع طبقاً للقول المنسوب إلى معاوية، وأتت "القدرية" كردٍ فكري/ سياسي، أي أنها كانت إحدى أدوات المعارضة في تفنيد جبرية الأمويين وتقويضها، وقد سُمّيت بذلك ليس لأنها تسلم بالقدر بل لأنها تبحث في مسألة القدر وتنحاز إلى إرادة الإنسان وحريته في خلق أفعاله ومسؤوليته عنها، فهل أتى الحادث ضمن الحرب التي شنتها السلطة الأموية على هذه الفرقة وغيرها؟ أم أن الجعد بنفيه الصفات الإلهية قد "أنكر ما هو معلوم من صحيح الدين"، فارتدّ عن دينه واستحق حدّ الردة الذي ينفذه السلطان بمباركة رجال الدين؟

ما التهديد الذي شكّلته آراء الجعد لإيمان المسلمين ويقينهم كي يعدّه الوالي وبعض الفقهاء من حوله خطراً على أمة الإسلام يستحق الإفناء لكيلا يتفاقم؟ اجتهد الجعد وأعمل عقله في مسألة عقائدية قاصداً تنزيه الخالق عن صفات بشرية، فهل كان ذلك كسراً لاحتكار فقيه السلطان "للحقيقة"؟ ألا يجوز في عرف المؤمنين الاجتهاد في جزئية من عقيدتهم تحتمل التفسير والنظر طالما لم يحسمها النص المقدس بصورة واضحة؟

خصوصية الحدث تأتي من القداسة التي خلعها القاتل على فعلته، فحزّ الرقبة مع البسملة والتكبير هو طقس تضحية وعبادة، يفعلها المؤمن تقرّباً من الله وتنفيذاً لتكليفٍ شرعي يقتضي ذبح خروف أو ثور، لكن التضحية بإنسان استعادة لطقسٍ قديم كانت قد تجاوزته الأديان السماوية، فهل حملت الحادثة في عمقها إحياءً لنزعات بدائية مكبوتة، فضلاً عن كونها استعادة حق السلطة الأبوية/ السياسية في القتل المقدس؟

دور تأسيسي للجهادية؟

أياً كانت الأسباب والتفسيرات، فإن طريقة القتل وتوقيته ومكانه، بالإضافة إلى ما لقي من استحسان وشرعَنَة من الفقهاء ورجال الدين الموالين للسلطان وبالأدلة النصية المقدسة، قد صنعت من الحادثة غراراً أولياً كاملَ الشرعية يمكن لأي مسلم أن يتمثله ويقتدي به، فيعطي لنفسه أو "لجماعته" حق تنفيذ حكمٍ بلا محكمة مدّعياً أنه حكم الله.

التضحية صبيحة العيد بالبشر تكررت غير مرة حديثاً، أشهرها تنفيذ حكم الإعدام بالرئيس صدام حسين، صبيحة عيد الأضحى عام 2006، وسواء أكانت السلطة العراقية الجديدة هي صاحبة قرار التوقيت أم سلطة الاحتلال الأمريكي؛ فإن اختيار التوقيت شكّل استفزازاً واستهتاراً بمشاعر المسلمين بصرف النظر عن موقفهم من المحكوم.

أما النشاط الجهادي الذي توالى في المنطقة، وتكاثرت فصائله في العراق وسوريا والجزائر قبلهما في ما سُمّي بالعشرية السوداء؛ فقد حفل بالذبح المقدس، ومع أبي مصعب الزرقاوي صار معلناً ومبعث فخرٍ، ومع داعش دخلت فنون الميديا لنشر أخبار الذبح على شكل تسجيلات وأفلام متعوب على إخراجها، وقد نشر التنظيم صبيحة عيد الأضحى في أيلول/ سبتمبر 2016، فيلماً لذبح تسعة عشر سجيناً سورياً معلّقين من أرجلهم وبلباس أحمر بينما لبس الذبّاحون الأبيض، وقبل نحر كل سجين كان يجري التكبير والدعاء: "ضحوا تقبّل الله منكم، فإنّا مضحون بعملاء الصليب"(!). كان اسم الفيلم "صناعة الوهم".

وإذا صرفنا النظر عن توظيف أطراف الصراع للحركات الجهادية واستثمارها واختراقها؛ يبقى السؤال مشروعاً حول قابلية المجاهدين ونزعتهم القوية نحو التطرف في العنف وسفك الدم بصورة صادمة، ولماذا يختزلون خطاب القرآن بآيات القتل؛ "فضربُ الرقاب"، و"قاتلوهم يعذبْهم الله بأيديكم"، و"كُتِب عليكم القتال"، "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، فتغدو العبادةُ طقس عربدةٍ عنيف يحصد الأرواح باسم السماء؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةًً وتتحكم بحاضرنا وتعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و"وقائع". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image