يعود وجود الزنج في العراق إلى القرن الهجري الأول، وأولى المحاولات للثورة على أوضاعهم كانت في ولاية مصعب بن الزبير على الكوفة، ثم نشأت حركة تمرّد منظمة عام 75 هـ/ 649 م، تزعمها رباح الذي لقّبوه بـ"شير زنجي"، أي أسد الزنج، ويبدو أنهم واجهوا فشلاً مبكراً.
في ما بعد، وصل ازدهار المجتمع العراقي في العصر العباسي منذ خلافة هارون الرشيد إلى حدٍّ توسعت معه المشاريع الإنتاجية الكبيرة التي تحتاج إلى أيدٍ عاملة وجدها الأثرياء في طبقة العبيد، في ظل نظام اجتماعي يسمح باقتناء عدد لا محدود منهم واستثمار جهدهم، حيث كان يتم استقدامهم في حملات منظمة من إفريقيا ويتم بيعهم في أسواق معروفة، أي عمليات الخطف والاستعباد نفسها التي مارستها أوروبا والقارة الأمريكية على مدى قرون ولم تتوقف حتى آخر القرن التاسع عشر.
أكثر العبيد في جنوب العراق كانوا يعملون في إصلاح الأراضي (كسح السباخ)، في منطقة مصب دجلة والفرات وفي المزارع الكبيرة. يعملون في مجموعات يشرف عليها وكيل يعيّنه مالك الأرض، وتجري معاملتهم من قبل وكلائهم ومالكيهم بامتهان لا يحترم آدميتهم، ومن الطبيعي في حالة كهذه أن تتولد مشاعر الحقد والرغبة في الانعتاق، والاستعداد للثورة والانتقام.
"صاحب الزنج" ليس زنجياً
قاد ثورة الزنج علي بن محمد الذي ادّعى النسب إلى الهاشميين، واختلفت المراجع التاريخية في صحة هذا النسب، فمنها من رجح بالأدلة أنه فارسي الأصل، ومنها من قال بنسبه العربي إلى الهاشميين كالمؤرخ المسعودي الذي قبل هذا النسب بسبب العدد الكبير لنسل علي بن أبي طالب الذي كان يُعدّ وقتها بالآلاف ممن لم تذكرهم كتب التاريخ، ومن الصعب إثبات رواية دون أخرى لكن المؤكد أنه ليس زنجياً، بل عربي أو فارسي تميّز بحس المعارضة للعباسيين برغم أنه بدأ حياته كما تقول بعض المصادر كشاعر بلاط متكسب، أو على الأقل كانت تربطه علاقات بعدد من رجال الدولة، وقد تميز بطموح سياسي تجلى في محاولات متكررة في بغداد والبحرين والموصل لتسنّم دورٍ قيادي وسلطة جديدة فشل فيها كلها، لكنه حاز من الكفاءة والأهلية ما مكّنه من قيادة ثورة لفئة من المسحوقين وهو من خارجها، وهذا ليس أمراً نادراً في تاريخ الثورات.
ادّعى علي بن محمد العلم بالغيب ونصرة الملائكة له، ويبدو أن انتسابه إلى الهاشميين أفاده في جذب المزيد من الأنصار، في وقت تتالت فيه حركات الانتفاض التي يقف وراءها الشيعة
يكتنف الغموض الطريقة التي بدأ بها علي بن محمد، دعايته وتحريضه على الثورة والتفاف بعض العبيد حوله، والتفاصيل المتوافرة تبدأ من لحظة انطلاقه عام 255 هـ/ 869 م، مع مجموعةِ منهم حاملين رايتهم التي كُتبت عليها الآية 111، من سورة التوبة التي استخدمها الخوارج قبله؛ "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ..."، وكلما مرّ بمكان فيه عبيد ضمهم إليه واعتقل وكيلهم، واستمر يوماً كاملاً على هذا النحو حتى تجمع لديه عدد كبير خطب فيهم ليلاً معلناً "برنامجه السياسي" إن جازت التسمية، والذي يمكن اختصاره بتحرير العبيد وتحويلهم إلى أسياد ومالكين. ثم أمر بتقييد الوكلاء وطلب من العبيد ضربهم بسعف النخل انتقاماً، ثم أطلق سراحهم.
يروي الطبري، أن علي بن محمد ادّعى العلم بالغيب ونصرة الملائكة له، ويبدو أن انتسابه إلى الهاشميين أفاده في جذب المزيد من الأنصار، في وقت تتالت فيه حركات الانتفاض التي يقف وراءها الشيعة مما رسخ فكرة أن الخلاص من سلطة العباسيين لن تكون إلا عن طريق الشيعة أو العلويين، فانضم إليه بعض العرب، لكن الفكرة الأبرز التي ركز عليها كانت حديثه عن العدالة ورفع المظالم، فجذب إليه وإلى حركته بالإضافة إلى الزنوج المستضعفين بعض الفلاحين وبعض الناقمين على سلطة الخلافة من عشائر جنوب العراق، ما مكّنه من تكوين جيش كبير امتد على مساحة واسعة.
وكأي قائد عسكري يتبع في كل معركة وموقف الأسلوب الأنجع؛ فقد تباينت السرديات حول رحمته، ولجمه اندفاعة الجنود للقتل والسلب، وتجنّب القتل الذي لا تفرضه ضرورات النصر، وبين اتّباعه سياسة التدمير والانتقام الشرس واسترقاق الأسرى بمن فيهم النساء والأطفال.
دولة الزنج الموازية
توسعت سلطة الثائرين صوب المدن الكبرى في جنوب العراق وشرقه، وفي خططهم الانقضاض على بغداد والاستيلاء على سلطة الخلافة العباسية، وقد استخدمت وسائل الاستطلاع وعناصر التجسس لرصد تحرك قوات العباسيين وتصدوا لهم في الكثير من المعارك وهزموهم، ساعدتهم في ذلك القيادة الذكية لعلي بن محمد، فاعتمدوا نصب الكمائن والفخاخ في المستنقعات والطرق واستخدموا بعض وسائل حرب العصابات، ونصرهم الكبير كان في الاستيلاء على مدينة البصرة حيث ارتكبوا فيها كل أنواع القتل والتدمير والاغتصاب والسبي والنهب.
وقد روى الطبري: "وكثُر المفقودون بالبصرة، وعلا العويلُ من نسائهم وهذا يوم الشذا الذي ذكره الناس، وأعظَموا ما كان فيه من القتل، وكان فيمن قُتل من بني هاشم جماعة من ولد جعفر ابن سليمان"، وهو الحدث الذي تشير إليه الكناية الشائعة "بعد خراب البصرة"، كنايةً عن سحق الثورة على أيدي جيش العباسيين، ولكن بعد أن دُمّرت البصرة وأُحرقت وقُتل أهلها وتم استعباد الباقين، الحدث الذي خلّد ذكره الشاعر ابن الرومي في لاميته الشهيرة في رثاء البصرة برغم عدم محبته للعباسيين.
استفاد الزنج الثائرون من ضعف السلطة المركزية في بغداد، فوصل نشاطهم إلى مشارفها مهدداً وباعثاً القلق لسلطة الخلافة، فكيف كان الرد عليهم؟
استفاد الزنج الثائرون من ضعف السلطة المركزية في بغداد، فوصل نشاطهم إلى مشارفها مهدداً وباعثاً القلق لسلطة الخلافة، واستمرت حركتهم قرابة خمسة عشر عاماً سيطروا خلالها على رقعة جغرافية كبيرة تمتد بين الأهواز وواسط، بالإضافة إلى البصرة وعبادان وخوزستان. وقد تميز بعض قادة الزنج -وهم عرب في الغالب- بتكتيكات عسكرية استفادت من طبيعة الأرض ومكّنتهم من التصدي لحملات الجيش العباسي وإفشالها لسنوات.
نهاية محتومة
ضاق صدر سلطة الخلافة بثورة الزنج حتى عام 266 هـ، حين تفرغ القائد العباسي الموفّق طلحة أخو الخليفة المعتمد، للتخطيط لسحقها بعدما انتهى من أمر الصفّاريين في فارس، وأرسل جيشاً من خمسين ألف مقاتل بقيادة ابنه العباس، مدعّماً بالسفن الحربية التي بناها العباسيون لتجوب النهر من بغداد حتى شط العرب لأغراض تجارية وعسكرية، وكانت المعركة الأولى في مدينة واسط التي استطاع الأمير العباس أن يحررها، وقد بنى مدينةً سماها "الموفقية"، نسبةً إلى الموفق، قبالة عاصمة الزنج المسماة "المختارة" لتكون منطلقاً لهجماته المتكررة على قوات الزنج.
ثم اعتمد سياسة الحصار والتجويع قبل أن يهزمهم في معركة تلو الأخرى، وقد استفاد الثائرون من طبيعة الأهواز في أساليبهم الدفاعية، فتمكّنوا من الصمود لثلاث سنوات كان الجيش العباسي خلالها يقضم أطراف دولتهم بالتدريج وصولاً إلى معركة الحسم في "المختارة"، حين استمات الثائرون في الدفاع عنها بسبب الروحانيات والغيبيات التي بثّها فيهم قائدهم علي بن محمد، طبقاً لتفسير الطبري، فاستطالت المعركة على المعقل الأخير قرابة السنة قبل أن يتمكن جيش الخلافة من حسمها وقتْل علي بن محمد عام 270 هـ/ 883 م.
وبذلك، أُسدلت الستارة على ثورة أقامت دويلتها على تخوم الخلافة لأربعة عشر عاماً ونصف العام، لكنها لم تفشل تماماً، لأنها منعت عودة نظام استعباد الزنوج الجماعي في المزارع كما كان سائداً، وبقي العباسيون يدارون من بقي منهم خشية العودة إلى التمرد.
في الميزان
وكما الكثير من أحداث التاريخ ومفاصله؛ اختلفت زاوية الرؤية والتحليل لثورة الزنج، فأنصار اليسار السياسي رأوا فيها ثورة كادحين مظلومين تمتلك كل الشرعية، والمنافحون عن الإسلام ودولة الخلافة عدّوها تمرداً مدمراً للدولة الإسلامية، وبعض العروبيين صنفوها ضمن الحركات الشعوبية المعادية للعرب.
لا توجد أخبار مفصّلة عن الطريقة التي أدار بها قادة الثورة شؤونهم الداخلية من قبيل إدارة الموارد وتوزيعها، إذ يبدو أنه ليست من أولويات الثورة عدالة توزيع الخيرات والغنائم أو إشاعتها كما فعل القرامطة، ولم تنطوِ خطة صاحب الزنج المعلنة في خُطَبه على تغيير النظام الاجتماعي برمته، وإنما رفع المعاناة عن طبقة العبيد الزنوج فقط.
الثورة التي أرادت تحرير العبيد، لم تقُم بقطيعةٍ كاملة مع هذا النظام الطبقي، بل قلبت الأدوار وصار عبيد الأمس مالكين لعبيد جدد ممن تم أسرهم في المواجهات أو الغزوات
انطلقت الثورة تحمل هدفاً تحررياً مشروعاً انسجم في البداية مع أساليبها، لكن النزعة الثأرية والفوضوية التي لزمتها في ما بعد شكلت مقتلاً لها، وقد ذكر الذهبي في كتابه "العِبَر"، أنهم أغاروا على مدينة واسط وهرب أهلها حفاةً عراةً فنُهِبت ديارهم وأُحرقت، وأورد الطبري في تاريخه أنهم سطوا على كسوة الكعبة عام 266 هـ.
ويذكر الكاتب فيصل السامر، في كتابه "ثورة الزنج"، أن المراجع أوردت الكثير من الشواهد عن مواقف مبدئية تمسّك بها صاحب الزنج، فامتنع عن العنف والسلب حين تحمس له ثوّاره فلجم اندفاعهم إلى القتل والانتقام، لكن سيرة الثورة بالإجمال فيها الكثير من العنف الفائض عن حاجة النصر، وهي السمة التي وسمت الكثير من الثورات على مر تاريخ البشر. ويغدو التساؤل هنا حول المبادئ الأخلاقية في الحرب تساؤلاً في غير محله إن لم نأخذ في الاعتبار السياق التاريخي في منطقة سادت فيها سلوكيات عسكرية من هذا النمط، سواء في الغزوات المتبادلة بين القبائل أو في حروب الجيوش بين الدول والإمبراطوريات.
والمفارقة الأبرز هنا، أن الثورة التي أرادت تحرير العبيد، لم تقُم بقطيعةٍ كاملة مع هذا النظام الطبقي، بل قلبت الأدوار وصار عبيد الأمس مالكين لعبيد جدد ممن تم أسرهم في المواجهات أو الغزوات على القرى والقوافل، بما في ذلك استرقاق الأطفال واتخاذ السبايا كجوارٍ، وربما تحكمت النزعة الثأرية في صراع الثوار مع المالكين ومع سلطة الخلافة، فغيّبت الأهداف الرئيسة في سياق صراع شرس مارست الثورة خلاله إنتاج الخلل الاجتماعي نفسه، مقلوباً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.