شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
آمال مثلوثي في فلسطين... ملاحظات في معايير التطبيع والمقاطعة

آمال مثلوثي في فلسطين... ملاحظات في معايير التطبيع والمقاطعة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتنوّع نحن والحقيقة

الأربعاء 2 أغسطس 202301:27 م

لقد فتحت زيارة الفنانة التونسية آمال المثلوثي، إلى فلسطين، (صيف 2023) ملف المقاطعة والتطبيع من جديد، وهذا بذاته أمر جيد، لأنه يوفر لنا مثالاً عينياً للحوار حول الموضوع بهدف تطوير آلياته وزيادة فاعليته وتأثيره.

بدايةً، من المهم التنويه إلى أن المقاطعة، على أشكالها، هي من الآليات الناجحة جداً في تقريع ومقاومة الاستعمار. بناء عليه، فإن الهدف من الخوض في هذا النقاش هو الإضافة إلى هذه الآلية وليس إبطالها، إذ أصبح اليوم واضحاً لكافة القراء أن معايير وإمكانيات المقاطعة قد تختلف من مكانٍ إلى آخر، فما يمكن توقّعه من الأمريكي والأوروبي، صاحب الامتيازات الكبيرة، الاقتصادية والأكاديمية والثقافية، لا يمكن توقعه من الذين يعيشون مباشرة تحت الاحتلال، وما يمكن توقّعه من عربي مناصر للقضية الفلسطينية، لا يمكن توقّعه من فلسطيني يسكن في الشتات وعائلته تسكن في فلسطين.

بناءً على ذلك، يجب أن يكون المعيار الأول للمقاطعة: "قاطع على قدر استطاعتك وعلى قدر البدائل والإمكانيات المتاحة لك". من استطاع أكثر وتوفرت له البدائل وقاطع أقل فهو مُلام، ومن لم تتوفّر له البدائل والإمكانيات فعذره معه. وهذا المعيار الأساسي والأولي نابع من فهمنا للورطة العميقة التي يعيشها الفلسطينيون في المناطق المحتلة، فالمقاطعة في حالهم هي سيف ذو حدين، فإن توقعنا منهم مقاطعة نقية تامة فهذا سيعني رحيلهم عن البلد حتى يزول الاحتلال، وهذا في الحقيقة ما قالته القيادات العربية لأجدادنا في العام 1948: "أخرجوا وستعودون بعد بُرهة عندما نقضي عليهم"، فخرج من خرج وبقي من بقي وها نحن إلى اليوم في انتظار العودة.

يجب أن يكون المعيار الأول لمقاطعة إسرائيل: "قاطع على قدر استطاعتك وعلى قدر البدائل والإمكانيات المتاحة لك". من استطاع أكثر وتوفرت له البدائل وقاطع أقل فهو مُلام، ومن لم تتوفّر له البدائل والإمكانيات فعذره معه

هذه هي للأسف الترجمة الفعلية على أرض الواقع لمقولة "مُحاصرة السجّان أولى من زيارة السجين"، ففي عملية محاصرة السجّان قد يموت السجين قبل ان يستسلم السجّان، فما هي الفائدة من هذا وهل هدف المحاصرة هو تحرير السجين ام استبدال السجّان؟!
وإذا عدنا بهذه المقولة من البُعد المجازي إلى أرض الواقع، هل ترفض الأمهات الفلسطينيات، على سبيل المثال، زيارة أبنائهن وبناتهن في السجون الإسرائيلية لأن هذه الزيارة منوطة بموافقة الاحتلال؟! كلا، بل تذهب الأمهات الفلسطينيات وعائلات الأسرى بعزيمة كاملة لزيارة فلذات أكبادهن رغم كل العقبات التي يضعها أمامهم المُحتلّ، ويعرفن أن إصرارهن يرفع معنويات فلذات أكبادهن ويقوّي عزائمهم، وهذه الزيارات لا تحوّل السجن إلى مزار سياحي أو مكان مقدس نحجّ إليه، لكننا نزور أسرانا ونحارب من أجل ذلك ولا نتوقف عن مقارعة المحتلّ بكافة الوسائل الممكنة.

كنقطة انطلاق، أوافق الحملة التونسية لمقاطعة ومناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني في هذا الأمر. السياحة في فلسطين مرفوضة والحجّ إلى فلسطين مرفوض. الدخول إلى فلسطين بتصريح من المحتل هو فعل سياسي من الدرجة الأولى، ولا يمكن لهذا أن يقتصر على فوائد ومتع فردية وشخصية. من غير المعقول أنه في حين ينزف الفلسطينيون وتزهق أرواحهم وتهدم بيوتهم يأتي آخرون للنقاهة والحجّ في البلد! السياحة والحجّ غير ملائمين في وضعنا هذا، ومرفوضان رفضاً قاطعاً، فمن نحتاج إليهم حقيقةً هم مناصرو القضية الذين سوف يحملونها معهم وهم عائدون إلى بيوتهم، وسيكونون رافعة لها في بلادهم وفي العالم. وهذا في الواقع ما قامت به آمال المثلوثي، ويمكن لكل فنان ملتزم وكل صحفي مناصر للقضية أن يقوم به. لهؤلاء نقول: "أهلاً وسهلاً"، أما للسياحة والحجّ فنقول: "لا أهلاً ولا سهلاً، خليكم في بيوتكم أحسن".

بالنسبة لجواز السفر، فهذا أمر مضحك ومبكٍ. أولاً، جوازات السفر آلية بيروقراطية تستخدمها الدول لضبط حركة الناس، الخارجين من البلد والوافدين إليه، لذلك لا يمكنني اعتبار معيار جواز السفر إلّا معياراً بيروقراطياً، والمقاطعة الناتجة عنه ما هي إلّا مقاطعة بيروقراطية سطحية.

بالإضافة إلى ذلك، هذا المعيار بالتحديد هو معيار لأنظمة سياسية غابرة، جرائمها بحق شعوبها لا تقلّ جرماً عن جرائم الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني. هذه المقاطعة البيروقراطية تخفّض من سقف الحوار إلى أدنى مستوى. لماذا يخاف العربي إلى هذه الدرجة من ختم الاحتلال على جواز سفره؟ وما هي قيمة هذا الختم أمام الأختام التي يضعها الاحتلال يومياً على أرواحنا وأجسادنا ونفوسنا، ويومياً نقاوم لنمحيها ونمحي كل أثر لها؟ ألا يستطيع العربي مقاومة ختم صغير على ورقة أصغر؟!

هذا المعيار البيروقراطي السطحي والسخيف يدفعنا إلى ادعاءات أكثر سطحية وسخافة للردّ عليه. مثلاً، الادعاء بأن مثلوثي تحمل جواز سفر أمريكياً لهذا لا ينطبق عليها تعريف تطبيع الشعوب العربية مع العدو، أي بالله؟! هل نعتمد الآن على جوازات السفر لتحديد هويتنا؟! أولا نتوقع من الأمريكي والأوروبي أن يلتزموا بذات معايير المقاطعة بل بأكثر منها؟! وهل نرغب حقاً في الاعتماد على امتيازات جواز السفر الأمريكي لتحديد من يستطيع الدخول إلى البلد ومن لا يستطيع؟! هل من المعقول أن تتدنّى معايير المقاطعة لهذا الحد؟! الخوف من الختم على جواز السفر هو خوف من السلطات ومن الأنظمة السياسية، فهل حملة المقاطعة تتولى حالياً مهام هذه الأنظمة وتعمل كوكيل لها وتنوب عنها؟! 

أما النقطة الأكثر أهمية والأكثر إثارة للجدل في زيارة آمال المثلوثي إلى فلسطين، هي زيارة المناطق المحتلة عام 1948. وهذا موضوع شائك جداً، ولكي نفهمه علينا أن نفهم الواقع الفلسطيني المختلف تماماً عما كان قبل عشرين أو خمسين أو سبعين سنة. الواقع الفلسطيني اليوم هو واقع "أبارتهايد" على كامل التراب الفلسطيني. ففلسطين في المِخيال الجماعي العربي والفلسطيني هي واحدة وحدودها واضحة. فلسطين المتخيّلة الموجودة في ذهن كل فلسطيني هي المساحة الجغرافية الممتدة على كامل التراب الفلسطيني، يحدّها من الشمال لبنان، ومن الشرق المملكة الأردنية الهاشمية، ومن الجنوب البحر الأحمر وصحراء سيناء ومن الغرب البحر الأبيض المتوسط.

ما قامت به أمال المثلوثي يمكن لكل فنان ملتزم وكل صحفي مناصر للقضية أن يقوم به. لهؤلاء نقول: "أهلاً وسهلاً"، أما للسياحة والحجّ فنقول: "لا أهلاً ولا سهلاً..."

وبالرغم من وحدة فلسطين الجغرافية في ذهن كل فلسطيني، إلا أن الواقع المفروض علينا جميعاً هو واقع "أبارتهايد" وتجزئة اجتماعية وجغرافية إلى "بانتوستانات"، ولكل بانتوستان واقع اجتماعي ونظم قانونية قد تختلف من مكان إلى آخر، وفقاً للظروف التاريخية والسياسية لتشكل البانتوستان.

وعلى الأقل يوجد لدينا في فلسطين الجغرافية خمس بانتوستانات: بانتوستان المناطق المحتلة عام 1948، بانتوستان القدس، بانتوستان الضفة، بانتوستان غزة، وبانتوستان المخيمات الفلسطينية في الأراضي الفلسطينية. وإن تحدثنا عن فلسطين الاجتماعية، فهذه البانتوستانات قد تتحوّل إلى سبعة على الأقل لتشمل: الأهل في الشتات وفي مخيمات اللاجئين في الدول العربية. وواقع التجزئة هذا بات حقيقة يفرضها علينا الأبارتهايد قسراً.

وبطبيعة الحال، فإن جوهر هذه البانتوستانات ليس بالتجزئة الجغرافية فحسب، بل بالتجزئة القانونية والقضائية وبالمكانة السياسية المختلفة لسكان كل بانتوستان، والتي ينشأ عنها بالضرورة أشكال اجتماعية مختلفة تتلاءم مع الظروف المفروضة على كل منها.

فالفلسطينيون سكان المناطق المحتلة عام 1948 هم مواطنون في دولة قامت على نكبة شعبهم، وعلى الرغم من المواطنة، إلا أنهم أقلية قومية مقموعة داخل الدولة. الفلسطينيون في القدس لديهم إقامة قانونية تسمح لهم بالتواجد في المدينة، لكن بشروط مجحفة ومقيّدة وبتهديد دائم بسحب الإقامة وإبعادهم عن المدينة. وعلى الرغم من تمتعهم بحرية الحركة والعمل تماماً كفلسطينيي المناطق المحتلة عام 1948، إلا أن مكانتهم السياسة تختلف.

أما سكان المناطق المحتلة عام 1967، فواقعهم متعلق إلى حد ما بالعلاقة التاريخية والقانونية مع الدول الحاضنة لهم قبل الاحتلال، المملكة الأردنية في الضفة ومصر في غزة، بالإضافة إلى الحصار المستمر على غزة منذ ما يقارب العشرين عاماً. أما سكان المخيمات فواقعهم متأثر بلجوئهم عام 1948 وبرعاية الأونروا لأحوالهم، وتختلف حياة الفلسطيني في مخيمات اللجوء عن حياة اللاجئ الذي توطن في إحدى الدول، وتختلف حياة اللاجئ مرّتين عن حياة اللاجئ مرّة واحدة وهكذا.

بالرغم من أننا جميعاً نخضع في نهاية المطاف لذات السلطة الاستعمارية الحاكمة، سواء كانت عسكرية أو مدنية، ولذات المنظومة الاقتصادية المفروضة قسرياً على الجميع، إلا أن طبيعة العلاقة القهرية مع المستعمر تختلف من مكان إلى آخر

وعلى الرغم من هذا، في النهاية، في أذهاننا جميعاً فلسطين واحدة، لكن حال الناصرة وحيفا وعكا يختلف عن حال القدس ورام الله وبيت لحم والخليل. ما ينطبق على القدس لا ينطبق على الضفة وما ينطبق على الضفة لا ينطبق على مناطق الـ 48، فعلاقة الفلسطيني بالمستعمر تختلف بحسب مكانته السياسة والقانونية. جذور هذه العلاقة قهرية للجميع، لكن في الواقع فقد تتفاوت أشكال العلاقة مع المستعمر وقد تتحول بحسب المكانة القانونية والسياسية للفلسطيني، فنجد على سبيل المثال أن العلاقة القهرية في حال فلسطينيي المناطق المحتلة عام 1948 تحولت إلى علاقة قهرية-عضوية، في حين لدى فلسطينيي الضفة، لا يمكن اعتبار هذه العلاقة القهرية كعلاقة عضوية. وهذا ما يميز حال فلسطيني المناطق المحتلة عام 1948 عن باقي المناطق.

وبالرغم من أننا جميعاً نخضع في نهاية المطاف لذات السلطة الاستعمارية الحاكمة، سواء كانت عسكرية أو مدنية، ولذات المنظومة الاقتصادية المفروضة قسرياً على الجميع، إلا أن طبيعة العلاقة القهرية مع المستعمر تختلف من مكان إلى آخر، وهذا أمر من المهم جداً أن نضعه أمام أعيننا عندما نتفحّص موضوع التطبيع والمقاطعة، حيث له تأثير كبير في القدرة على تطبيق المقاطعة، وفي الوقوف على الثغرات التي قد تورّط الفلسطيني الملتزم بالقضية توريطاً قهرياً رغماً عن إرادته وحسن نواياه.

بناءً على هذا، لا أتفق مع من يدّعي أن زيارة الفنانة آمال المثلوثي للقدس ورام الله وبيت لحم تعادل زيارتها لحيفا وعكا والناصرة، كذلك، لا أعتبر أن مجرّد عبور الحدود المسيطر عليها من قبل الاستعمار أو دخول القدس بتصريح من الاستعمار يعتبر تطبيعاً. بل أرى أن زيارة القدس ورام الله وغيرها من المدن في المناطق المحتلة عام 1967 هي أمر مُحبّذ، لكن هذا لا ينطبق على المناطق المحتلة عام 1948 بهذه البساطة.

أهلاً وسهلاً بكم في الواقع اليومي للاستعمار، هذه ليست زيارة نقاهة واستجمام. من شارك في المعركة سوف يخرج بملابس ملطخة، ومن جلس بعيداً وانتظر انتهاءها، سيبقى جواز سفره ناصعاً وملابسه نقية نظيفة

صحيح أن كافة المناطق في فلسطين تخضع للسلطة الاستعمارية ذاتها، سواء كانت عسكرية أو مدنية، وأنها جميعاً تخضع لذات النظام الاقتصادي والعلاقات الاقتصادية القسرية والقهرية المفروضة على الجميع، لكن المنظومة القانونية في الضفة وغزة تختلف عن المنظومة القانونية في مناطق الـ 48، كذلك النظام الاجتماعي الناتج عنها، وتحديداً طبيعة العلاقة القهرية مع المُستعمر.

العلاقة بين الفلسطينيين والمستعمر في مناطق الـ 48 تطوّرت خلال 75 عاماً من القهر لتتحوّل إلى علاقة عضوية، خاصة بعد أن تنازلت منظمة التحرير الفلسطينية في سنوات السبعين عن هذا الجزء من الشعب الفلسطيني وعن هذا الجزء من فلسطين، بينما لم يتنازل هؤلاء عن فلسطين، ولم يتنازلوا عن اللغة والثقافة والهوية وعن الانتماء للأرض وللناس.

وعلى الرغم من تحول العلاقة مع المستعمر من علاقة قهرية إلى علاقة قهرية عضوية، فإن الفلسطيني لم ينصهر من خلال المواطنة في دولة المستعمر، وحافظ على وجوده كأقلية قومية في دولة قامت على نكبة شعبه وأرضه. ورغم وجود "الأبارتهايد" البنيوي الجغرافي والاجتماعي الواضح في المناطق المحتلة عام 1948، إلا أن جزءاً كبيراً من الفلسطينيين يعيش ويعمل ويدرس بجوار المستعمر بشكل يومي، وهذه العلاقة ليست مماثلة في الضفة، فوجود المستعمر في رام الله، وغيرها من المدن الفلسطينية في الضفة، ليس بأمر عادي كما هو الحال في الناصرة وحيفا وعكا.

بناءً عليه يجب أن تختلف استراتيجيات ومعايير المقاطعة والتطبيع في كلا المكانين، بالإضافة إلى ضرورة ملائمة ظروف المكان وواقع الفلسطينيين في كل منها.

وعلى الرغم من أن مثلوثي قرّرت التخلّي عن فكرة إقامة حفل في مدينة حيفا بسبب الجدل والتباين في الآراء، إلا إنني أود الاستعانة بما حدث لإلقاء الضوء على معايير المقاطعة والتطبيع في الأراضي المحتلة عام 1948 وتطوير استراتيجياتها.

زيارة فنانين، مثل آمال المثلوثي، للفلسطينيين في الضفة وغزة أو في مناطق الـ 48، هي حق لكل فلسطيني نابع من كونه ابناً لهذه الثقافة التي ينبثق عنها هؤلاء الفنانون. ورغم تحفظي المُعلن على إقامة الحفل كما أعلن عنه في حيفا أو في أي مكان آخر في المناطق المحتلة عام 1948، إلا أنني أرى مخرجاً من هذه الورطة يكمن في عملية استرداد، ولو مؤقتة، للمكان من خلال تنظيم هذه الحفلات كحفلات خاصة. ربما لا ننجح بتطبيق هذا الأمر حالياً على هذا العرض، وللحقيقة فإن التاريخ أثبت اخفاقاً كبيراً في هذه التجربة في السابق، لكن قد تكون هذه آلية ناجعة يجب علينا تطويرها واعتمادها مستقبلاً.

وفي هذا السياق، أود التنويه إلى الأمور التالية:

أولاً، عرض فني ملتزم في حالنا يجب أن يتوفّر فيه شرطان: فنان ملتزم وجمهور ملتزم. في دعوة آمال المثلوثي إلى حيفا، للأسف الشديد، تم الإخفاق في ضبط الشرط الثاني، وتقع المسؤولية في ذلك على منظم الحدث. "فتوش"، المقهى والمطعم أولاً ولاحقاً "فتوش البار"، هو علامة ثقافية لامعة في سماء حيفا الفلسطينية، ومعقل ثقافي للشباب الفلسطيني في المناطق المحتلة عام 1948، لكن بطبيعة مكانته القانونية، فهو مكان تجاري خاضع للقانون الإسرائيلي الذي يفرض عليه عدم التمييز بين الوافدين إليه.

نتيجة لذلك، يفتقر فتوش القدرة على ضبط طبيعة الجمهور الوافد إليه. بهذا فسوف يكون من المؤسف جداً، بل من المزعج لدرجة لا تطاق، أن تحضر عرضاً لآمال مثلوثي في "فتوش" وبجوارك جندي مُسَرّح أو جندي متقاعد أو جندي احتياط بلباس مدني يحضرون العرض معك. باعتقادي هذا الإخفاق لا يُغتفر، وتقع كامل المسؤولية في توضيح الأمور لآمال المثلوثي على عاتق منظم الحدث، الذي انجرّ على ما يبدو وراء دوافع رومانسية وغفل عن الواقع السياسي القاهر الذي نعيشه.

ثانياً، من غفل عن هذا الموضوع في تنظيم الحفل في "فتوش"، لا بد أنه ما زال غافلاً عنه في تنظيم الحفل في أي مكان آخر. الحفل الخاص والمغلق والبديل، إن صحّ الخبر المتناقل عن صفحة الحملة التونسية لمقاطعة ومناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني، بقي مفتوحاً أمام كلّ من استطاع شراء التذكرة بدون أي علاقة بموقفه من القضية الفلسطينية أو بالجرائم السياسية والإنسانية التي ربما لطّخت يديه وتورّط بها. أنا واثقة تماماً بأن مثلوثي بذاتها لا تريد هذا، وتقع المسؤولية كاملةً في هذا الإخفاق على من راوغ ولم يشرح ولم يوضح للمثلولثي حقيقة الحال.

أعزائي، نحن نعيش تحت احتلال، لا يوجد لنا هذا القدر من الرفاهية، طبعاً سوف يهينك ويذلّك بكل وسيلة ممكنة، وجوازك الأجنبي لن يشفع لك: "ليش وين فكرتوا حالكوا جايين؟!"

ثالثاً، تنظيم الحفل بشكل "خاص ومغلق" هو أيضاً اشكالي في هذه الحالة، فهو يحوله إلى حدث طبقي نخبوي، إلى جانب أنه ما زال مُخفق في ضبط شرط الجمهور الملتزم. فلو كان الحفل خاصاً ومغلقاً بناءً على ضرورة توفير شرط الجمهور الملتزم، لكنت فهمت ذلك. لكن حالياً، إن صحّ خبر الحفل البديل، فهو بمثابة حفل خاص مُتاح أمام كل من استطاع شراء التذكرة عبر موقع التذاكر الإلكتروني، وهذا يضاعف من المشاكل المتعلّقة بهذا العرض، حيث يحوّله إلى عرض خاص لجمهور نخبوي، يتمتع أصلاً بامتيازات وأفضليات عديدة، ومن أراد منهم حقاً حضور العرض فقد توفر له ذلك من خلال العروض في القدس وبيت لحم ورام الله، أما أن تأتي مثلوثي إلى حيفا بهدف إقامة عرض خاص أمام فئة صغيرة ونخبوية، فهذا يحول العرض إلى عملية ترفيه لفئة محدّدة من الناس، ليست بالضرورة ملتزمة بأي شيء نعتقد أنه من الواجب عليها الالتزام به قبل أن تأتي مسرعة مهرولة إلى العرض.

رابعاً، حضور مثلوثي إلى أراضي الـ 48 هو موقف وتصريح سياسي من الدرجة الأولى، ولا يمكن القيام بهذا إذا لم نستطع المجاهرة به والدفاع عنه. المعركة في موضوع التطبيع، والمقاطعة في حال فلسطيني الـ 48، هي معركة إعلامية، فنحن طُعم سهل لآلة الدعاية الإسرائيلية، التي لن تتردّد في استعمال أي شكل من أشكال وجودنا لتعكس صورة إنسانية ومتنوّرة للاحتلال.

تنظيم الحفل البديل كـ "underground" يقلب الموازين بشكل غير معقول، ويتوافق مع مصالح الصهيونية والبروباغندا الإسرائيلية. فمِن مَن أنت هارب لتعقد حفلك في الخفاء؟ عرب يهربون من عرب وعرب يلاحقون عرباً وإسرائيل توفر لهم المساحة الآمنة للقاء؟! هذا الأمر مرفوض جملة وتفصيلاً.

خامساً، وجود آمال المثلوثي في البلاد قد يكون رافعة إعلامية لقضايانا، لذا يفضل لو تم تنظيم الموضوع بشكلٍ أفضل، وتم الاستعداد للمعركة الإعلامية التي ستُثار حول هذا الحدث، ففي هذا السياق، يسعى الاحتلال لاستغلال أي حدث بغض النظر عن طبيعته، للترويج لصورة إنسانية ومتنوّرة مُزيفة عن الاحتلال، وزيارة مثلوثي، أو غيرها من فنانين ملتزمين أو صحافيين مناصرين للقضية، قد يساعد في نقل الشهادة المباشرة لوسائل إعلام، ولسياسيين ولمجتمعات أخرى ينشطون فيها.

بالإضافة إلى ذلك، فإن حملة المقاطعة الفلسطينية أصبحت خبيرة بمسألة مناهضة التطبيع الوردي أو ما يُعرف بالغسيل الوردي (Pinkwashing)، فيا حبذا لو يتم تبني آليات المعركة الإعلامية التي استُعملت في هذا الموضوع، وتطويرها لمناهضة ما سوف تقوم إسرائيل بالترويج له على أنه تطبيع ثقافي.

وعودة إلى من يدعون بأن دخول فلسطين بحد ذاته هو تعدٍّ على مفهوم المقاطعة وتجاوز للخطوط الحمراء، أرغب في التأكيد بأن المقاطعة والتطبيع ليست مسألة بيروقراطية. ختم جواز السفر أو لم يختمه، اعطاك تصريح أو لم يعطك، سمح لك بأن تدخل البلد أو لم يسمح لك، عن طريق الجسر أو عن طريق المطار، بجوازك الأجنبي أو بجوازك العربي، أهانك وكسر عزّة نفسك لما دخلت البلد أو احترمك، أعزائي، نحن نعيش تحت احتلال، لا يوجد لنا هذا القدر من الرفاهية، طبعاً سوف يهينك ويذلّك بكل وسيلة ممكنة، وجوازك الأجنبي لن يشفع لك: "ليش وين فكرتوا حالكوا جايين؟!".

أهلاً وسهلاً بكم في الواقع اليومي للاستعمار، هذه ليست زيارة نقاهة واستجمام. دخولك لفلسطين هو جزء من مقاومة وصمود، هو تصريح بأن هذه الأرض لنا ونحن ننتمي إليها، لنا حق عليها ولها حق علينا، رغماً عن كل الإهانات التي سوف يضعها المستعمر أمامنا. أما من يعجز عن تحمل الإهانة ويعجز عن مواجهتها، فمن الأفضل ألا يأتي، "خليها علينا احنا منواجه لحالنا". من شارك في المعركة سوف يخرج بملابس ملطخة، ومن جلس بعيداً وانتظر انتهاءها، سيبقى جواز سفره ناصعاً وملابسه نقية نظيفة.

انتهيتُ من كتابة هذه الكلمات وقد انتشر خبر إلغاء عرض الفنانة آمال المثلوثي في مهرجان الحمامات الدولي في تونس المزمع تنظيمه يوم 9 آب/ أغسطس 2023. كلي أسف على هذا القرار، وعلى أمل أن يأخذ منظمو المهرجان بعض من هذه الملاحظات بالحسبان، وعلى أمل ألا تخسر تونس واحدة من أروع الفنانات التي ولدت من رحمها. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard