لا شيء يمكنه أن يكشف لنا خبايا التاريخ بكل تفاصيله الصغيرة والدقيقة بقدر ما تفعل الجثث.
هذا المبدأ يمكننا من خلاله قراءة اختيار المترجم مصطفى عبيد لمذكرات طبيب التشريح البريطاني سيدني سميث لترجمتها إلى العربية من اسمها الأصلى "غالباً، هذه جريمة قتل Mostly murder" إلى "قارئ الجثث… مذكرات طبيب تشريح بريطاني في مصر الملكية".
ربما تكون قد تعرفت على طرف بسيط من سيرة الطبيب البريطاني الذي ينظر إليه باعتباره مؤسساً لعلم "تشريح الجرائم" forensics من خلال قراءة رواية 1919 للكاتب أحمد مراد أو مشاهدة الفيلم الشهير المأخوذ عنها "كيرة والجن" فشخصية الضابط الإنجليزي الذي يشبه "شيرلوك هولمز" ما هو إلا الطبيب الإنجليزي صاحب المذكرات التي نستعرضها اليوم، وهو مؤسس قسم "الباثولوجي" الذي يتخرج فيه الاطباء الشرعيون في كلية الطب بجامعة القاهرة، المعروفة باسم "القصر العيني" وأكثر من ذلك، هو تلميذ مخلص للطبيب جوزيف بيل الجراح البريطاني، صاحب الشخصية الحقيقية التي بنى عليها السير آرثر كونان دويل شخصيته الأشهر "شيرلوك هولمز".
ربما تكون قد تعرفت على طرف بسيط من سيرة الطبيب البريطاني الذي ينظر إليه باعتباره مؤسساً لعلم "تشريح الجرائم" في مصر، من خلال قراءة رواية 1919 أو مشاهدة الفيلم المأخوذ عنها "كيرة والجن"، فصاحب شخصية الضابط الإنجليزي الذي يشبه "شيرلوك هولمز" ما هو إلا الطبيب الإنجليزي صاحب المذكرات التي نستعرضها اليوم
في مذكراته التي نقلها الروائي والمترجم مصطفى عبيد للعربية، يتتبع سيدني سميث العديد من القضايا الهامة، ويصف لنا كيف فك شفراتها ليعرف متى وكيف ولماذا وقعت هذه الجريمة أو تلك، ليقدم عبر تلك القضايا تشريحاً علمياً ليس للجثث فقط، وإنما لحالة المجتمع والسياسة والاقتصاد في مصر في عشرينييات القرن الفائت عبر استقراء الجرائم.
ريا وسكينة وكيرة والجن
الطبيب النيوزيلاندي الأصل الذي -إلى جانب قسم التشريح في الجامعة المصرية "جامعة فؤاد الأول وقتها"- أسس قسم التشريح في جامعة إدنبرة "إدنبرج" في اسكتلندا، جاء إلى مصر ليعمل طبيباً للنبلاء والعائلة المالكة، قبل أن يصعد نجمه سريعاً ويتولى التخصص في التشريح وتحليل الجرائم في فترة فاصلة من تاريخ مصر والعالم في أثناء الحرب العالمية الاولى وبعدها، إذ كان المجتمع المصري يغلي نتاج أزمة اقتصادية طاحنة وازمات سياسية متلاحقة نتيجة ارتفاع صوت رافضي الاحتلال الإنجليزي ممن لم يعودوا يخفون عداءهم الصريح للإنجليز والقصر معاً، ومن المعروف أن الظروف الاقتصادية والسياسية الشبيهة، تجعل المجتمع يفور بأعنف الجرائم وأكثرها غرابة، وكانت تلك الجرائم على طاولة طبيب التشريح البريطاني الذي أمسك بمبضعه وعدسته واصبح بطلاً لتحقيقات أكبر جريمتين هزتا مصر في ذلك التوقيت، وهما جريمة اغتيال السردار البريطاني السير "لي ستاك"، وجريمة القتل المتسلسل الأشهر في التاريخ المصري: ريا وسكينة.
لا شيء يمكنه أن يكشف لنا خبايا التاريخ بكل تفاصيله الصغيرة والدقيقة بقدر ما تفعل الجثث
ولكن إلى جانب هاتين القضيتين الشهيرتين يستعرض سميث في مذكراته قضايا أقل شهرة وأكثر تعقيداً وغرابة، يمكن من خلال قراءتها اكتشاف التغيرات العنيفة التي مر بها المجتمع خلال تلك الحقبة الفارقة في تاريخ مصر والتي صودف أن يكون مسؤولاً فيها عن تأسيس وإدارة مصلحة الطب الشرعي في مصر.
سيدني المولود في نيوزيلندا عام 1884 لأب وأم بريطانيين، عاش طفولة ثرية بالتفاصيل، وكانت نيوزيلندا وما زالت تخضع للتاج البريطاني، وهاجر والداه إلى هناك مثل كثيرين من المغامرين بحثاً عن الذهب وحلم الثراء السريع، إلا أن ابنه سيدني "علق في مهنة الطب" متأثراً بوصفات والدته في الطب الشعبي والعلاج بالأعشاب.
درس سيدني الطب في جامعة إدنبرة "إدنبرج" باسكتلندا، والمصنفة عالمياً حتى عام 2021 كأفضل كلية لدراسة الطب في العالم – وفق ما ذكره المترجم.
ويشير صاحب المذكرات إلى أنه عمل كمساعد لمسؤول الطب الشرعي في الكلية مقابل 50 جنيهاً استرلينياً في السنة، وهو الأمر الذي شجعه على التخصص في الطب الشرعي.
ويذكر العديد من المواقف اللافتة لأساتذة إدنبرة "إدنبرج" ومنهم الدكتور جوزيف بيل، الذي كان "بمجرد النظر إلى شخص يحدد مهنته وعاداته والكثير من أسراره". هذا الطبيب الملهم كان أستاذاً لسميث وطالب طب آخر، محب للمخدرات والسحر وعلوم التشريح وحل الألغاز، يدعى آرثر كونان دويل (1859 – 1930) مبتكر شخصية شيرلوك هولمز.
في مذكراته التي نقلها الروائي والمترجم مصطفى عبيد للعربية، يتتبع سيدني سميث العديد من القضايا الهامة، ويصف لنا كيف فك شفراتها ليعرف متى وكيف ولماذا وقعت هذه الجريمة أو تلك، ليقدم عبر تلك القضايا تشريحاً علمياً ليس للجثث فقط، وإنما لحالة المجتمع والسياسة والاقتصاد في مصر في عشرينييات القرن الفائت
ثلاث عظام صغيرة
يبدأ الكاتب رحلته في تتبع الجرائم في مصر بقصة ثلاث عظام صغيرة وجدت في بئر مهجورة، وأرسلت إلى معمله. وحين فحصها عرف أنها لفتاة في الرابعة أو الخامسة والعشرين من العمر، ولديها عرج في ساقها اليسرى وأنها حملت مرة على الأقل، وأصيبت بطلقة خرطوش محلية الصنع، وبناء على هذه التفاصيل تمكنت الشرطة من اكتشاف جريمة قتل رجل لابنته عن طريق الخطأ ودفنها في البئر، قبل أن يحمل جثتها ويرمي بها في النيل تاركاً وراءه هذه العظام الثلاث التي حدد من خلالها الطبيب الشرعي أوصاف الضحية وما تعرضت له.
ذهب سيدني سميث إلى مصر عام 1917 ليعمل مستشاراً طبياً للقصر، وتولى منصب مسؤول الطب الشرعي في الحكومة المصرية التي كانت خاضعة للاحتلال البريطاني آنذاك، وكانت علاقته قوية بحكمدار القاهرة "توماس راسل"، الذي سبق لمصطفى عبيد - مترجم هذا الكتاب- ترجمة مذكراته، واتخذ منها خطوة أولى للتعرف على سيدني سميث ليسعى بعدها إلى ترجمة كتابه الفريد.
وهو ما يشرحه عبيد لرصيف22: "بدأت فكرة ترجمة الكتاب من إشارة صغيرة وجدتها أثناء ترجمتي مذكرات توماس راسل حكمدار القاهرة. ففي أحد السطور، كان يتحدث عن جرائم القتل في مصر، وقال إن مصر كانت مسرحاً ومختبراً حقيقياً لكبار الأطباء الشرعيين، نظراً لعدد سكانها الكبير وجرائم القتل الكثيرة. وقال إن هؤلاء الأطباء مثل مستر نولان وسيدني سميث… إلخ"، ويضيف : "ولأنني مهتم بأخذ إشارات من الكتب، فكتبت هذين الاسمين على الهامش، مستر نولان كان طبيباً مهماً لكنه لم يترك أثراً مكتوبا يعتد به. أما سيدني سميث؛ فوجدت أن له إسهامات مكتوبة كثيرة منها كتاب بعنوان "غالباً جريمة قتل" فبحثت عنه، وتحدثت إلى أصدقاء في الولايات المتحدة فاشتروا لي الكتاب وأحضره لي أحد الأصدقاء القادمين من أمريكا فقمت بترجمته".
في مقدمته للكتاب يقول عبيد: "سمحت لنفسي أن أستبعد عنوان المذكرات الأصلي لأضع عنواناً أقرب لما استشعرته خلال ترجمتي للحكايات وهو (قارئ الجثث) إذ يبدو الراوي هنا أشبه بقارئ للجثث، مهمته استجلاء الحقيقة، بغرض وحيد هو مقاربة العدالة خِدمةً للبشرية".
حقق سميث في قضية مأمور سجن متهم بتعذيب المواطنين، ورغم وجود ميل لتبرئته، أصر سميث على تحليله وتمت إدانة المأمور، ما يشير إلى تمتع الموظفين العموميين في مصر وقتها بالاستقلالية وعدم مجاملة الموظفين الآخرين في السلك الحكومي، وهي سمة كانت شائعة وقت الانتداب البريطاني
بحثاً عن النزاهة
من القضايا اللافتة التي يذكرها سميث في كتابه قضية مأمور السجن المتهم بتعذيب أحد المسجونين، وكانت آثار السوط واضحة، وكتبها زميله أحمد عامر في تقريره. لكن المحكمة طلبت شهادته هو؛ وبعد فحص المجني عليه أقر شهادة زميله أحمد عامر. وكان مأمور السجن لديه ستة محامين من بريطانيا وسوريا واليونان ومصر. واضطر سميث أن يمسك بسوط في المحكمة ليقنعهم بما حدث، وخاف المحامون واعتقدوا أنه سيهوي عليهم بالسوط، لكنه نزل به على ذراعه هو ليشكل علامات مطابقة للعلامات الموجودة على جسد السجين، واقتنع المحاميان البريطانيان واليوناني ولم يقتنع المحاميان المصري والسوري، وفي النهاية تمت إدانة المأمور، ما يشير إلى تمتع الموظفين العموميين في مصر وقتها بالاستقلالية وعدم مجاملة الموظفين الآخرين في السلك الحكومي، وهي سمة كانت شائعة وقت الانتداب البريطاني.
ويتحدث سميث عن تلك السمة: "لقد وجدت الموظفين البريطانيين الكبار مبهرين في أدائهم، ليس فقط من حيث الذكاء ولكن أيضاً من حيث النزاهة والعدل. ولم يكونوا فاسدين وكانوا يستحقون كل احترام، واعتاد الناس في مصر القسم بكلمة الرجل الإنجليزي".
وفي هذا الصدد يذكر سميث واقعة لأحد الأثرياء البريطانيين الذي سأله يوماً هل تعرف القاضي فلان – وهو قاض بريطاني – فرد سميث نعم أعرفه جيداً، فقال له الثري البريطاني إن لدي قضية مهمة عنده وأريد أن أرسل له صندوقاً من الشمبانيا، فحذره سميث من ذلك وقال له إنني أعرفه جيداً وهو رجل نزيه؛ ولو فعلت ذلك حتى لو كان الحق معك سيحكم ضدك. فذهب الرجل متفكراً، وبعد فترة قابله سميث وسأله ماذا جرى في قضيتك فرد الرجل: "لقد كسبتها بفضل صندوق الشمبانيا"، فسأله سميث: "كيف ذلك؟" فرد: "لقد أرسلت صندوق الشمبانيا إلى القاضي باسم الطرف الثاني في القضية".
يلفت المترجم إلى أن أهم ظاهرة رصدها سميث، تتصل بالريف المصري في الربع الأول من القرن العشرين، وهي صورة مزرية قاتمة شديدة البؤس، حين يتحدث عن الفلاح الذي يعيش ويأكل ويشرب وينام في المكان نفسه مع بهائمه، لا يوجد في القرية سوى حمام واحد هو حمام المسجد
تطرق الكتاب للعديد من القضايا في مصر وخارجها ومنها قضايا كشف العذرية التي كانت شائعة في ذلك الوقت (عشرينيات القرن الماضي) وقضايا القتل بالزرنيخ التي كانت منتشرة جداً خاصة في ريف مصر، والقضايا التي تتم بسبب تعدد الزوجات.
ويلفت المترجم مصطفى عبيد إلى أن أهم ظاهرة اجتماعية رصدها سميث هو ما قدمه عن الريف المصري في الربع الأول من القرن العشرين، وهي صورة مزرية قاتمة شديدة البؤس، حين يتحدث عن هذا الفلاح الذي يعيش ويأكل ويشرب وينام في المكان نفسه مع بهائمه، لا يوجد في القرية سوى حمام واحد هو حمام المسجد، وحين تناول تعدد الزوجات تناولها بتوازن من خلال الصورة الشائعة لدى الأوربيين بأن الشرقيين يتزوجون كثيراً وأن دينهم يحضهم على هذا الأمر، في حين بيّن سميث ارتباط هذا السلوك بالميسورين، وهو عينه ما ظهر في كتاب "نصوص وقراءات من تاريخ القبط" الذي استعرضه رصيف22 في تقرير سابق، يمكنك قراءته عبر هذا الرابط.
كما أشار سميث في مذكراته إلى استشراء الوساطة، وذكر واقعة أحد الكتبة في الطب الشرعي، الذي طلب منه التوسط لنقله مذكراً إياه بأنهم أبناء دين واحد "مسيحيين"، فكان رد سميث أن أرسل هذا الخطاب إلى النائب العام ليحقق فيه.
عودة إلى ريا وسكينة
قلت بيقين: "إنه عظم بشري، ربما جزء من ساق، لكنني لم أستطع معرفة عمر صاحب العظم أو نوعه، ربما مر أكثر من عام على دفنه".
كانت تلك الجملة بداية اكتشاف أكثر القضايا الشهيرة بشاعة في مصر خلال القرن العشرين وهي قضية ريا سكينة. ففي صيف عام 1920، فوجئ سيدني سميث بعظمة جاءت له من الأسكندرية لفحصها، وعرف أن أحد العمال وجد العظمة أثناء حفر مصرف، فانهار جانب من تحت أحد المنازل وظهرت تلك العظمة، وذهبت الشرطة لتقصي الأمر، وتوجه سيدني إلى الإسكندرية وعاين المنزل الذي يعتقدون أن العظمة ظهرت من تحته، وقرر حفر أرضية المنزل على مسؤوليته الشخصية ليكتشف العديد من الجثث المرصوصة والمدفونة بجوار بعضها البعض، وفي طبقتين فوق بعضهما تحت الأرض، ويقول: "كأننا عثرنا على مقبرة جماعية"، ضمت تلك المقبرة الجماعية "14 جثة مدفونة تحت أرضية غرفة واحدة وممددة مثل السردين".
بالطبع تم اكتشاف التفاصيل لاحقاً، وهو أن الاختين ريا وسكينة ومعاونيهما كانوا يستدرجون العاملات بالجنس التجاري والنساء الميسورات بعد إيهامهن بأن لديهما زبوناً سيدفع الكثير، وكانت النساء يأتين بكامل زينتهن وحليهن كنوع من التفاخر والأمان، خوفاً من سرقة تلك الحلي إذا تركوها في بيوتهن، وبذلك أصبحن صيداً ثميناً لريا وسكينة اللتين حكم عليهما وعلى زوجيهما بالإعدام في واحدة من أكبر القضايا التي شهدتها مصر.
السياسة والطب الشرعي
شهد سميث فترة عصيبة في تاريخ مصر وهي فترة ثورة 1919، وتداخل بشكل كبير مع أحداث تلك الثورة وتحدث عنها كثيراً في مذكراته، مشيراً إلى أنه اقترح على سكرتير أول المندوب البريطاني، منح مصر قدراً من الاستقلالية كما حدث مع نيوزيلندا، وتعيين سعد زغلول رئيسا للحكومة، لكن كان مسؤولي الاحتلال: "هل أفرطت في الشراب اليوم؟".
وأشار إلى استهداف الموظفين البريطانيين من 1919 إلى 1922 كان مؤكداً، مع وجود بضع وثلاثين قضية اغتيال أو محاولة اغتيال لكبار الموظفين البريطانيين، وكان هو نفسه من ضمن المستهدفين لمجرد أنه بريطاني.
وأشار إلى حادثة شهيرة، حين سافر سعد زغلول إلى الصعيد ونظم محبوه مظاهرة لاستقباله والاحتفاء به، وجرى إطلاق النار على المتظاهرين، وأرادت الحكومة أن تنسب إطلاق النار لرجال حزب الوفد، لكن الطلقات التي عاينها سميث وزملاؤه في مصلحة الطب الشرعي أكد التحليل أنها تابعة للشرطة، فقد تركت آثاراً مربعة الشكل، ما يعني أنها لم تخرج من مسدسات، وإنما من بنادق محلية الصنع يستخدمها الخفر النظامي الذين يعملون مع الشرطة. ورغم محاولة ثنيه عن رأيه إلا أنه أصر عليه وأكد أن هذا الحادث من تدبير الحكومة وجهاز الشرطة الذي كان يديره فعياً الإنجليز ومصريين مخلصين للتاجين المصري والبريطاني.
في هذا الصدد، أشار سميث في كتابه إلى ظاهرة مهمة، وهي الاستعانة بمجرمين سابقين وقطاع طرق وتعيينهم كخفر نظامي، فالسجل الإجرامي كان مهماً لمن يتولى هذه الوظيفة، عملاً بمبدأ "الاستعانة بلِصّ للإمساك بِلصّ".
وهي سمة غريبة في بناء نظام الخفر في ظل الاحتلال البريطاني، لأن الوظائف الحكومية والعامة تشترط النزاهة وحسن السلوك.
سيدني سميث أكد أن الشرطي المصري الذي أصيب في حادث اغتيال السير لي ستاك، أصيب في ظهره، بمعنى أنه كان يحاول الهروب من موقع الحادث، ورغم ذلك تم تكريمه واعتباره بطلاً حاول مواجهة المجرمين، إلا أن حكمدار القاهرة طلب منه ألا يعلن هذا الأمر، "فمن المصلحة أن نصنع بطلاً مصرياً في هذا الحادث"
ويوضح المترجم لرصيف22 أن سيدني سميث عاصر الكثير من الأحداث المهمة في التاريخ المصري، وأهمها ثورة 1919 التي كانت ذروتها الحقيقية في عامي 1921 و1922، وحسب عبيد: "ينظر [سميث] إليها بتوازن وموضوعية تعبر عن شخص مدني غير مسيس، ربما يتفق مع الطرح البريطاني بأن إنجلترا احتلت مصر لتحديثها وحمايتها وحضرنتها… يمكن أكثر ما عبر عن تلك الرؤية مذكرات اللورد كرومر. لكن بالنسبة لسميث فالرجل ينتصر للقيمة العلمية، لا يبطل حقاً ولا يحق باطلاً، لذلك حين قال إن هؤلاء الناس ماتوا برصاص الشرطة لم يغير رأيه، وفي قضية الرجل الذي تم تعذيبه بالكرباج انتصر للمسجون، وهو في الحقيقة انتصر للقيمة المهنية والعلمية ولضميره، ومن هنا كانت شهادته قوية ومهمة وغير مسيسية".
ويعترف المترجم مصطفى عبيد أن الكتاب متخم، ومزدحم بالمصطلحات المعقدة التي لو قرأها الجمهور العام "سيضج منها مللاً"، لكنني شعرت أن الحكاية قد توازن ذلك الأمر، لما فيها من تشويق ودعوة حقيقية للقارئ لمشاركة سيدني في حل القضية: هل فلان مجرم أم لا؟ وفي بعض الأحيان يؤكد سميث نفسه أنه في حيرة، ليس لديه يقين إن كان هذا الشخص مجرم أم لا، فكانت الفكرة أن أقدم سردية مكتوبة بطريقة تحمل قدراً من التشويق والإثارة والسلاسة والبساطة، وفي الوقت نفسه لا أخون النص، كانت هذه إشكالية كبيرة جداً، ما جعلني أراجع الكتاب مرتين مرة مع صديق متخصص في الأدب ومرة مع صديقة متخصصة في الباثولوجي والطب الشرعي وهي الدكتورة سمر عبد العظيم التي قامت بضبط المصطلحات، ووضحت لي معاني بعض المصطلحات مثل التلون الرمي والتخشب، هذه الأشياء كان يجب أن أفهمها لكي أحكيها بطريقة يفهمها القارىء".
أما عن طريقة الإعداد والترجمة فيشرح عبيد "أثناء الترجمة لا أترجم حرفياً، وإنما أقرأ من الفقرة ثلاثة أو أربعة أسطر وأفهمها جيداً، وأغلق النص وأعيد كتابته من البداية، طبعاً دون تغيير الحقائق".
الأبطال الحقيقيون لاغتيال السير لي ستاك
من القضايا المهمة التي تناولها سيدني سميث في مصر قضية مقتل السير لي ستاك، حاكم السودان الخاضعة لسلطتي التاجين المصري والبريطاني في ذلك الوقت، والذي كان عائداً من وزارة الحربية في مصر إلى بيته حين هاجمته فرقة اغتيالات وأطلقت عليه وعلى مساعده النار، وأصيب شرطي مصري كان بالصدفة في المكان، وقد توصل سميث ومكتب الطب الشرعي من خلال معاينة موقع الحادث وإصابات وجثث الضحايا إلى نوعية الأسلحة والرصاص المستخدمين في الاغتيال، حيث توفي السردار في اليوم التالي 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 1924، ومن خلال تتبع الأدلة في تلك القضية توصلت الشرطة إلى تنظيم سري للاغتيالات، يتزعمه محام يدعي شفيق منصور وهو نائب برلماني، واعترف بعد التحقيقات أن أحمد ماهر وزير التعليم ومحمود النقراشي وكيل وزارة الداخلية، هما عضوان في التنظيم الذي تخصص في الاغتيالات السياسية واستهدف كبار الموظفين الإنجليز، لكن المحكمة برأت الاثنين واستقال بسبب هذا القرار قاض بريطاني اعتراضاً على قرار القاضيين المصريين.
اللفتة الطريفة في هذه القضية أن سيدني سميث أكد أن الشرطي المصري الذي أصيب في حادث اغتيال السير لي ستاك، أصيب في ظهره، بمعنى أنه كان يحاول الهروب من موقع الحادث، ورغم ذلك تم تكريمه واعتباره بطلاً حاول مواجهة المجرمين، وحين قال سميث هذا الكلام لحكمدار القاهرة توماس راسل طلب منه الأخير ألا يعلن هذا الأمر، فمن المصلحة أن نصنع بطلاً مصرياً في هذا الحادث.
أصدر سيدني سميث أول كتاب باللغة العربية عن الطب الشرعي في مصر عام 1924 بالتعاون مع زميله في مصلحة الطب الشرعي الدكتور عبد الحميد بك عامر، كما أسس مصلحة الطب الشرعي في مصر وزودها بالصور الفوتوغرافية وصور أشعة روتنجتن "إكس"، بل وكان هو صاحب اقتراح تطبيق نظام حفظ البصمات لكل شخص، بحيث يصبح بعد مرور أعوام هناك قاعدة بيانات كبيرة تحمل بصمات كل المصريين.
ويشير عبيد إلى أن ما حوته مذكرات قارئ الجثث البريطاني غائب تماماً عن المحتوى العربي والمصري الحديث، إذ توجد لدينا مذكرات محامين أو سياسيين أو فنانين، لكن لم نقرأ من قبل مذكرات طبيب شرعي، "فوجدت أن هذا الكتاب يمكن أن يقدم شيئاً جديداً. إضافة إلى أن المذكرات نفسها حين قرأتها وجدت فيها أشياء مهمة جداً تخص التاريخ المصري ورؤية الأجانب للقضايا المصرية، كل هذا عضد ضرورة ترجمة هذا النص وتقديمه للقاريء العربي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...