لا يعرف الكثيرون هذه القصة عن عبد الحفيظ طايل، الشاعر والمناضل الحقوقي المصري، الذي توفي بالقاهرة هذا الأسبوع، لكني عرفتها حين التقيته منتصف تسعينيات القرن الماضي، وأخبرني أن وزارة التعليم قد أوقفته عن العمل على ذمة التحقيق؛ كانت "التهمة" الموجهة إلى طايل هي "توزيع كتب خطيرة وهدّامة على التلميذات" حيث كان يعمل مدرساً للغة الإنجليزية في مدرسة إعدادية (متوسطة) بمنطقة المرج شمال القاهرة.
في الواقع، لم "يوزّع" عبد الحفيظ الكتب على التلميذات، وإنما اقترح عليهن شراءها من مصروفهن: "ثمن الكتاب خمسون قرشاً (نصف جنيه)، يمكن لكل خمس تلميذات منكن أن يتعاونّ لشراء كتاب"، لكن المفارقة كانت في ماهية الكتب "الخطيرة" التي اقترح المعلم الشاب على تلميذاته قراءتها، إذ إنه لم يقترح عليهن سوى قراءة كتب "سلسلة المواجهة"، وهي كتب أصدرتها وزارة الثقافة آنذاك بأسعار رمزية ضمن خطة رسمية لمواجهة الأفكار الدينية المتطرّفة في العقد الأخير من القرن الماضي، كتب كان معظمها لروّاد التنوير المصريين في القرنين التاسع عشر والعشرين، مثل قاسم أمين ورفاعة الطهطاوي والشيخ محمد عبده.
التطرّف الديني ليس الوجه الوحيد لـ "خسارة الحرب" في ساحة الأفكار، إذ ثمة وجه آخر، وجه الجهل الصافي، وجه الخرافات والخوف من الماسونية وعبادة الشيطان والتغذّي الدائم على نظرية المؤامرة. إنه الوجه الذي "هزم" أخيراً حفل مغني الراب العالمي ترافيس سكوت
كانت كتب "العقلانية والتنوير" تلك، والتي أصدرتها الدولة بنفسها، هي ما تسبّب في إيقاف عبد الحفيظ عن التدريس وتحويله إلى التحقيق لمجرد أن اقترحها على تلميذاته. هل كان ذلك سوءاً في التنسيق بين وزارتي الثقافة والتعليم؟ عدم تفاهم بين كلتا الوزارتين والسلطات الأمنية، مجرّد خطأ من موظف؟ عدم فهم من مسؤول؟ عدم جدية من الدولة؟ أم كانت الواقعة تجسّد ببساطة ما قاله قبل ذلك بعدة أعوام، عميد الرواية العربية، نجيب محفوظ، بعد نجاته بصعوبة من عملية الاغتيال: "لقد كسبت الشرطة المعركة الراهنة ضد الإرهاب، لكني أخشى أن يكون المجتمع كله قد خسر الحرب".
يمكن فهم عبارة محفوظ أكثر إذا وسّعنا الرؤية، فالتطرّف الديني ليس الوجه الوحيد لـ "خسارة الحرب" في ساحة الأفكار، إذ ثمة وجه آخر، وجه الجهل الصافي، التخلّف النقي الذي لا يصل حتى إلى مستوى الأدلجة، وجه الخرافات والخوف من الماسونية وعبادة الشيطان والتغذّي الدائم على نظرية المؤامرة. إنه الوجه الذي "هزم" أخيراً حفل مغني الراب العالمي ترافيس سكوت، الذي كان مقرّراً هذا الأسبوع نفسه في منطقة الأهرامات، لإطلاق الألبوم الجديد للفنان الذي يتابعه عشرات الملايين من العشاق.
لكن حفله، بعد أن بيعت تذاكره، وقع مصيره في يد مصطفى كامل، نقيب المهن الموسيقية المصرية، الذي بدأ حياته شاعراً غنائياً، ثم ملحناً ومغنياً أحياناً، وإن عبّرت إنتاجاته الفنية في مختلف مساراتها عن مستوى متواضع، لرجل يجلس الآن على مقعد جلس عليه في زمن سابق أم كلثوم وعبد الوهاب، وعلى الرغم من أن كامل ناجح -تجارياً- بلا شك، أو كان كذلك، خصوصاً على مستوى كتابة الأغنيات لجيلي التسعينيات وبداية الألفية، لكن نجاح كلماته كان تجسيداً شاملاً للـ "مديوكرية"، متجسّداً ربما في أشهر أغنياته "قشطة يابا".
هكذا، عبّر النقيب فوراً عن متابعته "انزعاج" بعض جمهور السوشال ميديا و"المواقع الصحفية" بخصوص "أفعال شيطانية غامضة" يجريها المطرب ترافيس سكوت في حفلاته، و"طقوس إلحادية تتنافى مع مجتمعنا وقيمنا وتقاليدنا الأصيلة"، وأبدت نقابة الموسيقيين التي يرأسها كامل "رفضها العبث بالقيم المجتمعية والتقاليد المصرية والعربية"، ومن ثم رفض إصدار تصاريح "لهذا النوع من الحفلات".
من مدخل الإنصاف، ورغم أهمية قرارات النقابة، فإنها لم تكن وحيدة "في المعركة"، ثمة دعوى قضائية أقامها محام في القضاء الإداري لرفض الحفل، وانتعشت نظريات المؤامرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي نظريات لم تتوقف عن "تحليل" طقوس المغني الأميركي، بل أبدت اندهاشاً من إصراره على المجيء إلى مصر (قال ترافيس إنه من عائلة مسيحية متديّنة في هيوستن، تحترم الأسرة وتصلي في الكنيسة، وطلب من الجمهور في مصر تجاهل الشائعات حول أي طقوس)، غير أن هذه التوضيحات وهذا الإصرار زادا من انتعاش "المؤامرة"، وزاد أصحاب نظريتها إصراراً على التصدّي لخبث الشيطان.
لننتبه لمقدار الأذى الذي يسبّبه لنا التفكير الخرافي، الذي ينتقل اليوم من عالم نظريات المؤامرة وقراءة الفنجان إلى قرارات رسمية تؤثر على الاقتصاد والسياحة، فلا غرابة أن نرى عالمنا العربي اليوم يتحلّل حرفياً، بينما نواصل الانتصار في معارك لا نهزم فيها سوى أنفسنا
في النهاية لم يقم الحفل، وأعلنت الشركة الراعية ردّ التذاكر للجمهور، واكتفى سكوت بتغريدة دبلوماسية، قال فيها إن الحفل سوف يقام يوماً ما بعد استيفاء المتطلبات اللوجستية. واحتفل نقيب الموسيقيين قائلاً: "تحيا بلادي بالقيم والمبادئ، قمت بأداء واجبي تجاه أبناء وطني".
بالطبع، بسبب شهرة ترافيس وشهرة الأهرامات نفسها، كان لإلغاء الحفل صدى واسعاً في الصحافة العالمية. هل نحتاج إلى القول إن هذا يحدث في وقت يحتاج فيه الاقتصاد المصري، أكثر من أي وقت مضى ربما في تاريخه الحديث، إلى السمعة السياحية الحسنة والعملة الصعبة؟ إن هذا ليس سرّاً، لكن الخوف من "الماسونية والشيطان" كان أكبر من الرغبة في إنقاذ اقتصاد يعاني، تماماً كما كان خوف موظف أو مسؤول ما، قبل ثلاثين عاماً، من مدرّس ينصح طالباته بالقراءة، أكبر أهمية من الالتفات إلى حقيقة أن تلك الكتب أصدرتها الدولة بنفسها لمكافحة التطرّف. ومن يدري، ربما كان ذلك الموظف، يخشى أيضا على التقاليد من كتب التنوير، تماماً كما خشى النقيب على العادات من الحفل الأجنبي.
قبل إعلانها أخذ إجازة قصيرة هذا الأسبوع، دأبت الصفحة العلمية "ربنا يطوّرنا كلنا" على موقع فيسبوك، على تكرار عبارة "التفكير العلمي ضرورة بقاء"، وربما ليس هناك أفضل من تلك الحالات، التي – بالتعبير الغربي – "نطلق فيها النار على أقدامنا"، لننتبه لمقدار الأذى الذاتي الذي يسبّبه لنا التفكير الخرافي، الذي ينتقل اليوم من عالم نظريات المؤامرة وقراءة الفنجان إلى قرارات رسمية تؤثر على الاقتصاد والسياحة، فلا غرابة أن نرى عالمنا العربي اليوم وهو يتحلّل حرفياً، بينما نواصل الانتصار في معارك لا نهزم فيها سوى أنفسنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع