شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
في أسى صحبة السرير

في أسى صحبة السرير

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 5 أغسطس 202312:17 م


متى غادرت سريرك في الصباح؟ وماذا فعلت طوال اليوم؟ ومتى عدت للدخول إليه؟ هل نمت مباشرة أم تقلبت قلقاً؟ هل أعددت نفسك لكي تحلم؟ هل أغمضت عينيك وتخيلت ما حدث معك على مدار اليوم؟ هل انتبهت إلى تلك الدورة المُملّة الممتدّة مدى حياتك، والتي تبدأ بالاستيقاظ صباحاً ثم مفارقة السرير ثم... ثم... ثم الرجوع إليه مع موعد النوم؟ هل انتبهت أيضاً إلى أن الفعل الآلي الوحيد في حياتك هو ذلك المتمثل في الخروج من السرير ومن ثم العودة إليه؟

الاستيقاظ فالنوم، فالاستيقاظ فالنوم، في وقت الصحو الثقيل الممتد ربما تتكرّر الأحداث ولكنها لا تستنسخ، وفي زمن النوم اللحظي ربما تتكرّر الأحلام ولكنها أيضاً لا تستنسخ، فقط لحظتا الصحو-النوم، البعث-الموت، يتكرّران باستنساخ مدهش.

ولدنا جميعاً، أو معظمنا، على سرير، حُملنا برفق بعد قطع الحبل السري لنوضع بجوار أمهاتنا، لنأخذ فرصتنا ووقتنا الذي لا ينازعنا حقنا فيه أحد، وهو الوقت الذي يسقط من الذاكرة بعد ذلك، وقت لا يحسب من عمر أي منا، لقد مُنحنا ذلك الوقت السري الممتدّ لعدة سنوات حتى تنمو بداخلنا الطمأنينة أولاً، والطمأنينة تتطلّب أقصى درجات السرية التي تمتنع حتى على ذاكرة صاحبها، وهي ضرورية كي نستطيع مواجهة ما سنقابله لاحقاً. هي أشبه بلقاح تمهيدي لأمراض وأوبئة وعلل ستلاحقنا طوال حياتنا.

ومُنحنا فوق كل ذلك ثدي الأم وحضنها، ومُنحنا مكاناً مميزاً للنوم بجوارها في السرير، أو سريراً خاصاً، مهداً تهدهدنا فيه الأم، وحتى عندما لا يتوافر هذا المهد عند الفقراء، تصنع الأم من تشابك قدميها وهي جالسة ما يشبه المهد، في الحالتين يُصنع سرير الرضيع لكي يهتز وكأنه على ماء شبيه برحمها الذي طردنا –هبطنا-خرجنا-سقطنا منه.

 في أعقاب الطرد عشنا عدة مآس، فبعد فترة نحرم من ذلك الثدي، ولم يعد حضن الأم متاحاً لنا طوال الوقت، وبعد أن اشتدّ عودنا، سقطت سنواتنا السرية من أرشيف الدماغ، لم يعد هناك من طمأنينة ولم يبق لنا في النهاية من كل تلك المنح إلا السرير... مجاز

في أعقاب الطرد عشنا عدة مآس، فبعد فترة نحرم من ذلك الثدي، ولم يعد حضن الأم متاحاً لنا طوال الوقت، فقط في لحظات الغياب أو الحزن أو الفرح، وبعد أن اشتدّ عودنا، سقطت سنواتنا السرية من أرشيف الدماغ، لم يعد هناك من طمأنينة ولم يبق لنا في النهاية من كل تلك المنح إلا السرير.

على السرير نقضي حياتنا بأكملها في محاولة يائسة لاستعادة أثر تلك الهبات أو المنح.

قبس من حكاية

السرير مكان الطفل، في داخله وعلى حافة النوم، ربما تحكي الأم له حدوتة، فتقرّ عيناه ويتخدّر جسده ويهدأ ويطارد قبساً من حكايتها في نومه. السرير مكان هذا الطفل الغاضب الذي يغمض عينيه ويتمنى إحراق العالم العدائي أو غير المفهوم، أو ذاك الطفل الانطوائي الذي ينام ليمارس أشد أحلامه غرابة، يطير في الفضاء أو يغوص في أعماق البحار، يتحوّل إلى دمية متكلمة أو ذات قوة سحرية، يجمع بين أشخاص لا يربطهم زمان أو مكان، يمزج بين ألوان أو يخلط بين أحداث أو يخترع كائنات: يرى الله، الأنبياء. هو عالم حُلمي متكامل، لا مكان له إلا سرير الطفل.

السرير مكان الطفل الآمن، مخبأه، الذي إذا غادره ليلاً ربما تتخطفه العفاريت، أو يشاهد أباه وهو يختطف أمه منه، فيتفتح وعيه الجنسي أو تُجتزّ براءته أو يطارده المشهد بضراوة في مراهقته. أسفل السرير هو كون آخر ملئ بكل ما هو مدهش وخلاب، موضع مثالي للهرب من عقاب الأم أو مشاكسات الأخوة أو إخفاء كل ما هو خاص وصغير بعيداً عن الأعين والمتطفلين، وهو مكان مثالي للطفل لكي يتلصّص على حوارات الكبار عندما يخرجونه قسراً من الغرفة، فيغافلهم ويتسلل إلى أسفل السرير ويشد الشرشف إلى أسفل حتى يكتمل الاختباء.

السرير مكان الطفل بامتياز. الغطاء أشبه بلعبة الاستغماية، والوسادة أم غائبة أو دمية متخيلة، والحشوة للعب والتقافز فرحاً.

سنوات سرية

أسفل السرير مكان للتنصّت، كانت شهرزاد تشتري حياتها يومياً بالحكي لشهريار أعلى السرير، بينما تستمع إليها دنيا زاد وهي قابعة أسفل السرير. أعلى السرير مكان للتورّط في الحكاية والتجوال في عوالم سحرية تتمثلها المخيلة. أعلى السرير في "الليالي" استعادة لحكايات الأم، حيث تقذف بنا شهرزاد جميعاً إلى سنواتنا السرية الضائعة، تهبنا جرعة من الطمأنينة، حيث نرتشف الحكاية على مهل ونستمتع بها.

أسفل السرير مدار القلق، تطفل على الحكاية الأصلية، هامش لا متن، استعارة لا حقيقة، أسفل السرير مكان للتنصّت وكأننا عفاريت أو شياطين طُردنا من الجنة ونحاول التسلّل إليها. أسفل السرير مكان لإخفاء العاشق عندما تنتقم المرأة من زوجها وتقرّر خيانته، وحين يحضر الزوج فجأة. لا ملاذ للعاشق إلا هناك، ولكنه ملاذ دالّ، فالعاشق يتشارك ملكية الزوجة ولكنها ليست ملكية شرعية واضحة ظاهرة، هي ملكية مخفية غائمة باطنة. أسفل السرير مكان أثير للصوص عندما يعود أصحاب المنزل فجأة، وتنقلب الخطط رأساً على عقب.

أسفل السرير ثقيل الوطأة، أرضي، طفولي، مدار لكل ما هو غامض أو ينطوي على أسرار أو مفارقات.

سرير الشيخ مصنوع من الخسارة، ولذلك نومه متقطع، مع كل صحوة قصيرة هناك ما أخذته منا الحياة، صحوات صغيرة تخلو من بكاء الرضيع، أو احتلام المراهق أو انتصاب الشاب أو قلق الرجل

خيارات هوائية

عندما نستلقى على ظهرنا وننظر إلى الأعلى يواجهنا السقف، سماؤنا الصغرى، أفق للنظر والتأمل حتى ولو كنا لا نفكر في أي شيء. ونحن لا نتطلع إلى السقف إلا في هذه الوضعية.

السقف ملك المراهق، ولذلك فالسقف هوائي متقلب بين أكثر الأمور تناقضاً، وبرغم تغير خياراتنا بحدة في المراهقة، إلا أننا في كل خيار نكون أشبه بالعاصفة في قوّتها واندفاعها، ويكون سقفنا بالنسبة إلينا، وفي تلك اللحظة، مرئياً وواضحاً جداً، لوحة نرسم فيها، ونحن نخرج من مرحلة الطفولة، أحلامنا الرومانسية والفارغة والمخادعة، خريطة أبعادها تتمثل في زوايانا الحادة ورؤيتنا المتشنّجة للأمور آنذاك.

سقف ملون بالأسود والأبيض ولا توجد أية ألوان أخرى، فهذا العالم بالتباساته لا يزال غير مفهوم بالنسبة للمراهق. عالم ملتو، متعرّج، لا يمكن الهرب منه إلا إلى التحديق في السقف المنبسط والذي يرتفع فوق الجميع. هو أعلى منهم و يظلهم كلهم ويمنحهم خصوصية وأمناً، وبالتالي يكتسب فرادته من استقامته وعلوه، وأهميته تنبع من ذات المراهق نفسه.

سرير المراهق عاصف في جوهره أيضاً، جريء في أحلامه التي يداريها بخجله خلال النهار، سرير المراهق شهوة لا حدود لها أو كابح لخيالاتها، لا يمكن إدراك ما يثير المراهق، ربما صوت أو نظرة أو طيف عابر لامرأة، أما افتتانه بالثدي فحنين جارف إلى سنوات قليلة ماضية، عندما كان هذا الثدي يساوي العالم بأكمله.

هو أيضاً افتتان بالظاهر والواضح والبارز، هو لم يتعلّم بعد مراوغة الحياة حتى تحركه الانحناءات والانثناءات، لم يعرف الغموض أو التحكم في المشاعر، تلك التي يتطلّبها فعل الإيلاج، هو نضر، بكر، يقف على الحد الفاصل بين عالمين، لم يلج الحياة ولذلك سريره قلق مطلق وتوتر، هوائي يبحث عما يلصقه بالأرض.

سرير الرجل-المرأة عصي على الإحاطة، هو الحياة نفسها، سرير الرجل يكتسب فرادته من اللغة نفسها، فالسرير هو كرسي الملك، وعندما نقول "زال عنه سريره" فنحن نعني "زال عنه ملكه"، والسرير أيضاً هو العيش المرفّه، وهناك السريرة أي الباطن، وتسرّى أي تزوج أو اشترى جارية، وسرّ وسرور ومسرّة وسرّة... الخ، حيث كانت اللغة كريمة في تعاطيها مع السرير، وكانت الذكورة-الأنوثة مرحلة جمعت بين مائية سرير الرضيع وأرضية سرير الطفل وهوائية سرير المراهق.

أسفل السرير مدار القلق، تطفّل على الحكاية الأصلية، هامش لا متن، استعارة لا حقيقة، أسفل السرير مكان للتنصّت وكأننا عفاريت أو شياطين طُردنا من الجنة ونحاول التسلّل إليها. أسفل السرير مكان لإخفاء العاشق عندما تنتقم المرأة من زوجها وتقرّر خيانته، وحين يحضر الزوج فجأة... مجاز

سرير الرجل-المرأة خصوصية، ولذلك هناك قداسة ما لغرفة النوم في الكثير من المجتمعات. ويجمع السرير لدى كل رجل-امرأة بين وظيفتين أساسيتين: النوم و ممارسة الجنس، والنوم لا يستهدف الأحلام بالدرجة الأولى، ولكنه يسعى إلى الراحة الجسدية أولاً. والجنس مع الوقت يتحول إلى فعل تكراري ممل، وتتحول الشهوة اللامتناهية والخيالات الجامحة إلى مناسبة دورية لاستمرار إحساسنا بأننا على قيد الحياة.

في مرحلة عمرية أكبر يُصنع سريرنا من القلق، لا تحاسبنا الحياة أو لا تحلو له مسائلتنا إلا عند لحظة الاستلقاء، ويصيبنا القلق والتوتر، لذلك يتفاعل الجسد بالتقلب على الجانبين، والروح مشحونة بألف سؤال وسؤال. لم يعد القلق هو قلق الرضيع البكّاء أو قلق الطفل المستعد لدخول عالم الأحلام، أو قلق المراهق الذي يملك الوقت بأكمله، وقت يسمح بهدم وبناء عوالم بأكملها، ولكن قلق النضج. مؤلم، خشن، جلف، ثقيل الوطأة، ومع تغير طبيعة القلق يختلف إحساسنا بالسرير.

عالم موحش

سرير الشيخ مصنوع من الخسارة، ولذلك نومه متقطع، مع كل صحوة قصيرة هناك ما أخذته منا الحياة، صحوات صغيرة تخلو من بكاء الرضيع، أو احتلام المراهق أو انتصاب الشاب أو قلق الرجل، تغيّر شكل الوقت واختلف الشعور بالزمن، وليس إلا الضجر من كل شيء، ولم يعد هناك ما يبهج أو يحرّك القلب. أما إذا رافق المرض الشيخوخة، فالسرير هو العالم بأكمله، ولكنه عالم يخلو من كل شيء إلا عملياتنا الحيوية الأساسية.

وكما نولد على سرير، يتمنى معظمنا الموت عليه. كان دعاء العجائز والصالحين دائماً أن يمنحهم الله تلك النهاية، والمرويات التي تقول "اللهم أمتني على فراشي" عديدة، هل هي الرغبة في الموت في هدوء، وسط الأهل، في مكان معروف، أو ربما أمنية كامنة في أماكن لا نستطيع الوصول إليها باستعادة لحظة من سنواتنا السرية التي تكونت في البداية على السرير، لحظة تساوي حياة بأكملها ربما يمن الله بها علينا قبل إغماضة عين أخيرة؟

واصلت اللغة لعبتها مع السرير، فهو أيضاً النعش الذي يحمل فيه الميت، أما وضعية الدفن فهي الاستلقاء على الأرض، على سريرنا الأكبر والأبقى.

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard
Popup Image