ما إن تُذكر الأندلس، حتى تنبعث في النفس ذكريات الحضارة الإسلامية هُناك، تلك الحضارة التي دامت ثمانية قرون، وما زالت معالمها قائمةً في مدن عدّة كإشبيلية وغرناطة وطليطلة.
تلك المآثر التي تشهد على حضارة راقية، تشهدُ في الآن ذاته على جانب مُظلم، جانب "محاكم التفتيش" وإكراه من تبقّى من المسلمين على الانصهار في المجتمع الجديد ديناً وثقافةً أو الإذلال والترحيل وأحياناً التقتيل. لم يكُن سقوط آخر الممالك الإسلامية إلّا إيذاناً بالتشتت والتشظي الذي سيعرفه الأندلسيّون في هذه البلاد.
بدأت صيحة "الثورة" في الأول من كانون الثاني/يناير عام 1569، وهو اليوم الموافق لسقوط غرناطة، وتم تنصيب محمد بن أمية ملكاً عليهم
واجه من بَقي منهم بعد سقوط غرناطة مصيراً مأساوياً، ظهرت بوادره الأولى سنة 1499م، حين بدأ الإسبان في إدماج المسلمين قسراً في المجتمع المسيحي، وتمييزهم باسم "الموريسكيّين".
مـحنـة الموريسكيين بعد سقـوط غرنـاطة
إبان سقوط غرناطة، أبرم أبو عبد الله محمد الثاني عشر (آخر ملوك غرناطة)، مع الملكين إيزابيل وفرناندو ما يعرف تاريخيا بـ"معاهدة تسليم غرناطة"، أنهت بذلك آخر حكم سياسي للمسلمين في الأندلس. لكنّ هذه الاتفاقية لم تمنع من بقي من المسلمين من مُمارسة شعائرهم الدينية والاحتفاظ بعاداتهم وتقاليدهم.
إلا أن نقطة التحول، التي أظهرت بداية نقض الاتفاق، يُشير إليها خوسي مونيوث إي غفيريا في كتابه "تاريخ ثورة الموريكسيين" قائلاً "إلا أنه منذ يوم 5 كانون الثاني/يناير الذي شهد الدخول الرسمي للملكَين الكاثوليكيّين إلى غرناطة، شُرع في نقض الاتفاق وخرقه، فقد ابتعد أحد النبلاء ويدعى دون بدرو غرسا دي آفيلا عن الموكب الملكي وتوغل داخل المدينة وأفرط في ظلم المغلوبين البؤساء الذين اشتكوا من شططه، فأصدر الملك فرناندو حكماً ضده بعقوبة الموت إلا أن الحُكم لم ينفذ وبقي المذنب في خدمة الملكة متمتعاً بحظوته".
بعد تسليم غرناطة رسمياً بدأ الإسبان مُحاولة طمس أي وجود إسلامي في الأندلس، وتشكل ذلك على مراحل مُنذ بداية القرن السادس عشر للميلاد.
تمسّك العديد من "الموريسكيين" بإسلامهم سراً، ومزجوا بين ظاهر مسيحي وخفيّ إسلامي، فعمدوا مثلاً إلى إقامة الشعائر الدينية في البيوت، والتواصل بالأسماء العربية
لقد كان هذا الطمس مركّباً بين السياسّي والاجتماعي والاقتصادي وما هو مرتبط بالهوية، حوصر خلاله المسلمون في كل المناطق التي يوجدون فيها، فبدأت عملية "التنصير القسري"، ومنع كل ما يتصل بالهوية الإسلامية والدينية، سواء ممارسة الشعائر أو اللباس وحتى اللغة، وتم تحويل الأسماء العربية إلى أسماء أعجمية وحُوّلت المساجد إلى كنائس، كما هو حال المسجد الكبير في غرناطة الذي أصبح كنيسة سان سالفادور.
بعدها أصدرَ فيليب الثاني (1527-1598) مرسوماً حثّ فيه جميع موريسكيِّي بلنسيّة على الحضور إلى المواعظ المسيحية، وعدم الاحتفال بالأعياد المسلمة، وزادت مراقبة الموريسكيين بإحكام حتى لا يُظهروا أي مؤشّر يمكن تفسيره على أنه دليل على إسلامهم.
في الجانب الاقتصادي يشير مونيوث إلى أن الموريسكيين عانوا من ثقل الضرائب الفاحش وجشع محصِّليها، كما حُرّم عليهم استخدام "العبيد" من طرف فليب الثاني، وكذا المتاجرة في الذهب والفضة وسبيكة المعادن.
غير أنه ورُغم كل هذه الإجراءات الصارمة، تمسّك العديد من "الموريسكيين" بإسلامهم سراً، ومزجوا بين ظاهر مسيحي وخفيّ إسلامي، فعمدوا مثلاً إلى إقامة الشعائر الدينية في البيوت، والتواصل بالأسماء العربية فيها أيضاً.
مـن المحـنة إلى الثـورة
جراء القرارات التعسفية التي نهجها الإسبان تجاه الموريسكيين طيلة سبعين عاماً أعقبت سقوط غرناطة، كان لابدّ أن تقوم عدة حركات احتجاجية مُناهضة لها، إذ سجلت المصادر قيامهم بحركات في حي البيّازين، وانتفاضة البشرات الجبلية جنوب غرناطة، ثم انتفاضة بلنسية، وصولاً إلى ثورة البشرات الكبرى آخر ثورات الموريسكيين عموماً وكانت بين عامي 1568- 1570.
بيد أن النقطة التي أفاضت ثورة البشرات الكُبرى، كانت عدداً من القرارت والمراسيم التي استهدفت الموريسكيين من بينها قرار فليب الثاني في 14 من أيار/مايو 1563 إلى القائد العام يُلزم فيه الموريسكيّين بتقديم أسلحتهم، ثُم محاولة المحكمة العُليا إحياء قضايا كانت طي النسيان ضد الموريسكيين، كلُّ ذلك أدّى بالكثيرين إلى الخروج للعيش في الجبال مع من سبقهم من المنفيّين، وهُناك بدأ التفكير مليّاً في الثورة.
يُشير خوسي مونيوث إي غفيريا في كتابه إلى أن السلطات اتخذت تدابير صارمة لقمع المنفيّين لكنها غير فعالة، بل بلغت شجاعتهم حد التغلغل داخل غرناطة، وكانوا يدخلونها ليلاً يخطفون نساءً وأطفالاً مسيحيين ويقتلون الرجال، ووصلت الحال إلى أن السكان لم يجرؤوا على الخروج ليلاً إلا إذا كان عددهم كبيراً.
لم تَكن هذه العمليات سوى إيذاناً ببداية حرب مسلحة أكثر تنظيماً وتكتيكاً.
كانت قوانين الأول من كانون الثاني/يناير 1568، القطرة التي أفاضت كأس غضب الموريسكيين، إذ توجب من خلالها على النساء الموريسكيات ترك ملابسهن الحريريّة وزينتهن، وأصدرت الأوامر للقساوسة بتسجيل الأطفال والبنات من سنّ الثالثة إلى الخامسة عشرة في مدارس تعلمهم اللغة "الإسبانية" والعقيدة المسيحية، إضافة إلى هدم حمامات الموريسكيين.
هُنا بدأ التفكير الفعلي بالثورة المُسلحة، بتخطيط من فرج بن فرج من عائلة السرّاج الغرناطية، إذ بدأ التخطيط للثورة من حي البيازين في غرناطة، حيث كانت تجتمع نخبة من الموريسكيين إلى جانب ممثلين عن الأرياف.
نداء السّلاح...
لقد كان قادة الثورة أكثر حنكة، إذ بدأت الاستعدادات بمُحاولة النظر إلى قابلية سكان البشرات لتلبية "نداء السلاح" وسبر أغوار إرادتهم، بذلك بعثوا ثلاثة رجال إلى المدن والقرى جنوب الأندلس بحجة القيام بجمع تبرّعات عامة لتشييد مستشفى خارج المدينة لفائدة المرضى المسحيين، إلاّ أن الغرض كان الاطلاع بشكل دقيق على استعداد السكان، والعتاد العسكري الذي يمتلكونه، وخبروا كذلك الأماكن الشاطئية التي يسهل من خلالها إنزال المساعدات القادمة من السواحل المغاربية والعثمانية.
كان كل هذا يقعُ سراً وخفية، إلى أن جاء الإعلان الرسمي عن الثورة يوم الرابع عشر من نيسان/أبريل 1568. بيد أن شرارات التمرد وصل خبرها إلى السلطات، وبذلك تم تأجيل موعد إشعال الثورة، بل وحاول "المتآمرون" في البيازين تهدئة الوضع وإبعاد شبهة التآمر عنهم بإرسال الشخصيات النافذة والثرية من الموريسكيين، للجهر بمسيحيتهم "الصادقة" و"المخلصة" للمملكة.
نهجت ثورة الموريسكيّين استراتيجية حرب العصابات، نظرا لقلة عدد المقاتلين
بدأت صيحة "الثورة" في الأول من كانون الثاني/يناير عام 1569، وهو اليوم الموافق لسقوط غرناطة، وتم تنصيب محمد بن أمية ملكاً عليهم، عقب ذلك بدأ حاكم غرناطة "منديخار" استعداداته لقمع الثورة منذ ساعاتها الأولى، فخرج من غرناطة بقواته يوماً بعد اندلاعها، ونشبت هناك في أعماق البشرات أول معركة بين الفريقين، هُزم خلالها الثوار.
لم تكُن هذه المعركة إلّا بداية معارك عديدة وأشدّ فتكاً وقوة، رُجّحت فيها كفة القشتاليين، غير أنه جرت مذبحة في سجن غرناطة، وقُتل فيها أكثر من مائة وخمسين من أعيان المسلمين. كانت هذه الواقعة سبباً في إذكاء روح الثورة من جديد، إلى أن قُتل محمد بن أمية عام 1569.
نهجت ثورة الموريسكيّين استراتيجية حرب العصابات، نظرا لقلة عدد المقاتلين، الذين بلغ عددهم حسب العديد من الروايات ستة آلاف مقاتل، وانتهجت في بدايتها سياسة الانتقام، كنوع من أنواع الرد المباشر على محاكم التفتيش.
إلا أن الثورة استمرت بقيادة ابن عبو، ورغم بعض الانتصارات التي حققها هذا الأخير، إّلا أن الإسبان وفي الفترة ما بين كانون الأول/ديسمبر 1569 إلى نيسان/أبريل 1570، سيطروا على معظم القرى والقلاع، وتحوّل من خلالها الموريسكيّون إلى فرق صغيرة، وبذلك نهج بعضهم طريق الاستسلام فيما نزح البقيّة منهم نحو سواحل شمال إفريقيا.
كانت لثورة البشرات الأخيرة نتائج حاسمة في حضور المسلمين في الأندلس. إذ قرّر الملك فيليب الثاني بحلول 28 من تشرين الأول/أكتوبر 1570، تهجير من تبقى من الموريسكيين إلى مدن الشمال والغرب، وشمل هذا القرار من حملوا السّلاح والمسالمين كذلك، وبهذا الإجراء وأد الثورة الأخيرة لمسلمي الأندلس.
بعدها بأربعين عاماً وبالضبط عام 1609، طرد المسلمون نهائياً من الأندلس ووجدوا في بلدان عربية كثيرة، خاصة المغاربية ملجأ، حافظوا فيه على عاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم الخاصة التي ما تزال قائمة إلى اليوم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.