قد يكون قبر "أبي عبد الله الصغير"، أو "أبي عبد الله محمد الثاني عشر"، آخر ملوك غرناطة في الفترة ما بين 1486 و1492، في إحدى زوايا مدينة فاس وسط المغرب، من دون أن يثير انتباه المارّة من أبناء المدينة أو السياح المغاربة والأجانب المهتمين بالتاريخ والحضارة!
استطاعت هذه الشخصية التاريخية، أن تحدث سجالاً بين المغاربة المهتمين بالتاريخ والآثار وبعض الباحثين الإسبان، بعدما عرض مؤخراً معهد "ثيربانتس" في فاس (تابع للسفارة الإسبانية)، الفيلم الوثائقي LA TUMBA DE BOABDILأو "قبر أبي عبد الله"، الذي أنتجه ألونسو نافارو، عام 2019، بدعم من محطة الإذاعة والتلفزيون الإسبانية (RTVE).
يحكي الفيلم الوثائقي، من خلال شهادات ووثائق لمؤرخين عرب ومسلمين، قصة رحيل آخر الملوك المسلمين في الأندلس إلى فاس، بعد أن سلّم مفاتيح غرناطة للإسبان، ليقضي بقيّة حياته مغموراً، ويموت مجهولاً من دون أن يُعرف مكان قبره اليوم.
اقترح المنتج، بمناسبة عرض شريطه الوثائقي المذكور، القيام ببحث أركيولوجي للتأكد مما إذا كان الضريح الموجود الذي يقع في المكان المعروف بـ"المصلّى" في العاصمة الروحية للمغرب، يعود فعلاً إلى آخر ملوك غرناطة أم لا، كما تحكي الروايات الشفهية.
"أستبعد أن يكون قبر الصغير"
لكن لا بأس من التساؤل من جديد حول مكان دفن آخر ملوك غرناطة بعد وفاته في المغرب؟
يشير أستاذ الآثار والتاريخ في الكلية المتعددة التخصصات في تازة، منير أقصبي، في البداية، إلى أنه "لا يجب الحكم في أشياء من الخيال، من قبيل سوء معاملة أهل المغرب للملك المهجر من دون سند وثائقي".
وقال أقصبي، في اتصال مع رصيف22: "وارد أن يكون القبر لشخصية عاشت في القرن الثامن عشر، وليس لشخصية الملك أبي عبيد الله الصغير، كون هذا الأخير توفي في بداية القرن السادس عشر، والفضاء الذي يوجد فيه القبر لم يكن مخصصاً للدفن في أثناء وفاته".
فيلم "قبر أبو عبد الله الصغير"
يثير الفيلم الوثائقي الإسباني"قبر أبو عبد الله الصغير" الجدل حول مدفن آخر ملوك الأندلس. مؤرخون مغاربة يشككون في رواية الفيلم الإسباني. فما السبب؟
لذلك، "نحن الآن أمام إشارات تاريخية قليلة تفيد بدفن الملك في المصلى في المرينية التي كانت توجد بعيداً عن الفضاء الذي يوجد فيه القبر، وهو الذي يطلَق عليه حيّ المصلى حالياً. والاسم يتعلق بمصلى علوي متأخر"، يوضح المصدر نفسه.
يستبعد مُؤلّف كتاب "العمارة العسكرية بفاس عبر التاريخ"، أن يكون القبر المثير للجدل يعود حقاً إلى الملك الطريد من الأندلس، "كونه غير مؤرَخ بنقيشة أو إشارة نصية واضحة. كما أن موقعه لا ينتمي إلى المقابر التي خُصصت للدفن إبّان عهد المرينيين والوطاسيين، فضلاً عن كونه يتوفّر على قبّة، والأخيرة توضع على قبور العلماء والفقهاء والصالحين".
في اتجاه يؤكد هذا الاستبعاد، يسجل أستاذ التاريخ في جامعة سيدي محمد بن عبد الله في فاس، الحاج موسى عوني، أن "المعلومات شحيحة للغاية حول ما يتعلق بمكان دفن آخر ملوك غرناطة محمد بن علي بن الأحمر، وتحتاج إلى بحث موسّع في مختلف المصادر والوثائق التاريخية، في حين أن المعلومات المتوفرة فضفاضة وعامة وتحتاج إلى تدقيق وتمحيص".
أشار عوني، في إفادته لرصيف22، أن "أهم من تحدث عن وفاة هذا السلطان المخلوع ومكان دفنه، هو المؤرخ المقري في كتابه ‘نفح الطيب’، إذ دوّن بالحرف ما يلي: توفي رحمه الله تعالى بفاس عام 940ه، ودُفن بإزاء المصلى خارج باب الشريعة، وهي المعلومة التي أعاد استعمالها علّامة مدينة فاس الكتاني، في كتابه المعروف ‘السّلوة’ ".
في المُصلّى الموحدي أم السعدي؟
هنا تساءل، المتخصص في الآثار الإسلامية: "ما المقصود بالمصلى خارج باب الشريعة حيث دُفن السلطان المخلوع خلال القرن العاشر الهجري؟ وما مكان وجوده بالتحديد؟ وإلى أي مدى يُقصد به المصلى الذي تزعم بعض الجهات التي اشتغلت على الموضوع أنه يقع بجوار حي بن دباب الحالي؟".
وأضاف: "نشير في هذا الباب، إلى أن الخليفة المُوَحّدي محمد الناصر، شيّد عام 604ه (نحو 1211م)، مصلى عدوة القرويين خارج باب الشريعة (أو باب المحروق)، وجاء هذا المصلّى ليُضاف إلى مصلّى عدوة الأندلس الذي يقع خارج باب الفتوح؛ وهو مصلّى في موضع "بستيون باب الجيسة" (أو البرج الشمالي)، القريب من مقبرة القلة، وقد استُعمل أيضاً زمن المرينيين حسب إشارة الكتاني صاحب كتاب السلوة، الذي نبّه أيضاً إلى المصلّى الحالي حديث العهد"، يشرح المتحدث ذاته.
#FEZ
— Mohammed Hamdouni (@Mohamdouni) July 20, 2022
Actually this is the tomb of the last Muslim rulers in Andalucia buried anonymously in the old city of Fez.#History pic.twitter.com/sgxYaGLfEX
قبر في فاس يعتقد أنه لـ"أبو عبد الله الصغير "
يستخلص المؤرخ نفسه، "أن هناك مصلّى قديماً خارج باب الشريعة شيّده المُوَحّدون وتواصل استخدامه زمن المرينيين؛ وهو المصلّى الذي كان موجوداً في موضع البرج الشمالي الحالي، وبجوار المصلّى تمتد مقبرة القلة الشهيرة التي دُفن فيها بعض السلاطين المرينيين، والوزراء الوطاسيين، وكذلك السلطان السعدي شهيد غزوة أو معركة وادي المخازن الشهيرة عبد الملك السعدي".
"أهم من تحدث عن وفاة هذا السلطان المخلوع ومكان دفنه، هو المؤرخ المقري في كتابه 'نفح الطيب'، إذ دوّن بالحرف ما يلي: توفي رحمه الله تعالى بفاس عام 940ه، ودُفن بإزاء المصلى خارج باب الشريعة"
وبهذا، "فأغلب الظن أن آخر ملوك غرناطة دُفن إزاء مصلّى عدوة القرويين الموحدية، بحكم أن المجال المجاور له كان مخصصاً لدفن السلاطين والوزراء من بني مرين والوطاسيين، علماً أنه توفي عام 940، يوم كان الوطاسيون هم حكام مدينة فاس. أما المصلّى الكائن بجوار بن دباب، الذي يُزعم أن آخر سلاطين دولة بني الأحمر دفينها، فهو مستحدث ولم يظهر إلا في عهد السعديين بعد عقود عديدة من وفاته"، يردف المتخصص في الآثار الإسلامية.
"جدل لا يجب أن ينسينا أمر طرده"
بعيداً عن القبر، فإن الفيلم الوثائقي عنه أثار غضب بعض المؤرخين المغاربة الذين يرون فيه إعادة إنتاج للرؤية الاستشراقية ذاتها عن المغرب. إذ يرى مخرج الفيلم أن المغاربة بدورهم رفضوا أبا عبد الله الصغير، وأن إهمال قبره مسؤولية المغاربة.
يرى أستاذ التاريخ في جامعة مولاي إسماعيل في مكناس، محمد البركة، أن هذا الاقتراح "هراء"، لأنه "صدر عن منتج يبحث عمّا يرمز إليه كمخرج، وما يعطي لفيلمه الوثائقي شهرةً خارج بلاده، وكأنه بتصريحه يرغب في إعلاء ‘سومة’ شريطه، لأننا ببساطة لسنا مستعدين لاستئجار أمثال هؤلاء للدفاع عن تاريخنا".
أوضح البركة، في تصريحه لرصيف22، أنه "لا يلزم أن تعيش ساحتنا الثقافية على إيقاع تصريحات متناثرة من هنا وهناك، لها سياقها الخاص الذي يلزمنا فهمه، لا الانسياق وراءه، لأنه يفترض وجود رؤية ثقافية تخدم تاريخنا بمعالمه وأحداثه وأعلامه؛ أي أن فعلنا لا يعيش على إيقاع أصداء الآخر".
"لا يلزم أن تعيش ساحتنا الثقافية على إيقاع تصريحات متناثرة من هنا وهناك، لها سياقها الخاص الذي يلزمنا فهمه، لا الانسياق وراءه، لأنه يفترض وجود رؤية ثقافية تخدم تاريخنا بمعالمه وأحداثه وأعلامه"
لهذا "فالجسم الثقافي في المغرب عبر وزارة الثقافة الوصية، يلزمه بكل وسائله المقروءة أو المسموعة أو البصرية ألا يكون صدى لعدد من المفرقعات الهوائية التي تأتي من خارج سياقنا الوطني، بل في سياق الآخر وفق أجندة ما، أكان على وعي بها أم لا، لكنها لا تهمنا من حيث التشكيك لبناء أمجاد شخصية، بل من حيث الحثّ في البحث والتنقيب"، يردف المتحدث نفسه.
أضاف بركة: "مهما كانت حالة قبر هذا الأمير اليوم، لا يلزم أن ينسينا هذا أمر طرده وخروجه من قصره، وفراره إلى المغرب، وسرقة أمواله وخيراته من قبل من تهجموا عليه فسلّمهم مفاتيح غرناطة"، متسائلاً: "من نصّب هذا المنتج ناطقاً باسم المغاربة للقول إن الأمير صار غير مرغوب فيه في المغرب كما في الأندلس"؟
مسؤولية إسبانية أيضاً
في إجابته عن هذا السؤال، يعتقد رئيس مؤسسة ذاكرة الأندلسيين (غير حكومية)، محمد نجيب لبريس، أن "المغرب لا علاقة له بالمكان الذي يقال إنه مدفن آخر ملوك غرناطة، على عكس ما ذهب إليه البعض من مسؤولية المملكة في الاعتناء به".
ما يعني أن "أبا عبد الله هو السلطان الثاني والعشرون في مملكة غرناطة، ولزام على الدولة الإسبانية أن تبحث عن قبره في فاس بعد لجوئه إلى المغرب، وأن تعيده إلى مملكة غرناطة؛ لأن ارتباطه بإسبانيا هو الحقيقي والواقعي والمضبوط تاريخياً"، يؤكد لبريس لرصيف22.
ونبّه المتحدث ذاته، إلى أنه "من غير اللائق القول بسقوط مملكة غرناطة، إذ في عهد أبي عبد الله كانت هناك حرب أهلية بين مجموعة من ممالك إسبانيا، وانهزمت في الأخير أمام مملكة قشتالة التي وحّدت البلد، ومن ثم لا يليق بهذا السلطان لقب الصغير الذي لا مبرّر له في تاريخ مملكة غرناطة".
ومهما اختلفت الآراء، يظل البحث التاريخي عبر التنقيب العلمي في أركان فاس الزاخرة بالتاريخ، هو الطريق للعثور على قبر أمير ضاع ملكه في خضم تغيرات تاريخية جذرية، وأصبح مضرب أمثال عبر التاريخ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...