نشعر كأننا دخلنا إلى منزلهم، منذ اللحظة الأولى. نفتح الباب فنجلس على الأرائك وسط الفناء بعد أن نحظى بترحيب من ربّ المنزل، ثم تبدأ الدردشة بلهجتهم الجميلة حول كل ما من الضروري أن نسمعه ونعرفه في بيتهم. ربّة المنزل كالعادة في المطبخ تعدّ ما هو ضروري لإكرام الضيوف، والأولاد يجلبون لنا ما تيسّر من هذا الكرم. نتحدث عن "خانه كابُل" (بيت كابُل)، وهو مقهى أفغاني في قلب العاصمة الإيرانية طهران.
لا يشبه هذا المقهى سائر المقاهي التي تفضّل عادةً، أجواء الهدوء والسكينة في فضائها، فهنا أنغام وأكلات وكلمات وصور وإكسسوارات أفغانية بامتياز، تختلط بعضها ببعض لتخلق لك ضجةً محببةً من الترحيب، فيشتدّ فينا عطش المعرفة عن أفغانستان.
نتحدث عن "خانه كابُل" (بيت كابُل)، وهو مقهى أفغاني في قلب العاصمة الإيرانية طهران، لا يشبه سائر المقاهي، فهنا أنغام وأكلات وكلمات وصور وإكسسوارات أفغانية بامتياز
ما طُبع في مخيلة الإيرانيين عن جيرانهم الأفغانيين، مع 950 كلم من الحدود المشترك والثقافة المشتركة، هو الإرهاب والمخدرات والجريمة. ومنذ احتلال الاتحاد السوفياتي لأفغانستان في نهاية سبعينيات القرن الماضي، بدأت موجات اللجوء تتدفق نحو إيران مع كل نظام حكم حل في كابُل، وهي الموجات التي لم تتوقف حتى اليوم.
تقول الإحصاءات الرسمية إن إيران تستضيف 5 ملايين لاجئ أفغاني، أما بعض التقديرات غير الرسمية فتشير إلى نحو 10 ملايين نسمة.
صاحب مقهى ومطعم "خانه كابُل"، هو من الوافدين خلال الموجة الأولى للهجرة. وصل إلى إيران من العاصمة كابُل في أثناء سنوات الغزو الروسي. هو محمد موسى أكبري، مصوّر ومصمم غرافيك أفغاني شهير بين الأوساط الفنية الإيرانية. كان موسى طالباً في كلية الفنون في جامعة كابُل، إلا أن معارضته للاحتلال عرّضت حياته للخطر، فسلك طريق طهران، حتى دخل جامعتها لاستكمال دراسته.
انتبه موسى في تلك الأثناء إلى أن الإيرانيين لا يعرفون الكثير عن بلاده التي أنهكتها الحروب والطائفية والقبلية، أفغانستان التي لها تاريخ مشترك مع بلاد فارس. عاد موسى إلى مسقط رأسه ليصوّر جمال وطنه الضائع بين صور الدمار التي تبثها شاشات التلفاز للعالم، فلاقى ترحيباً من الأوساط المثقفة والفنية الإيرانية. جدد زيارته كمصوّر مهاجر إلى مسقط رأسه، ليقيم بعدها عشرات المعارض التي تتحدث عن شعب أفغانستان وحياته، في إيران والهند وتركيا والدول الأخرى.
حذت بناته حذوه، فواحدة مصوّرة وأخرى فنانة منمنمات، ثم قررت الأسرة المكونة من خمسة أفراد؛ هم الأب والأم، وشاب وفتاتان وُلدوا وترعرعوا هنا، أن يطلقوا مشروعهم الأكبر في سبيل ذلك الهدف الكبير الذي سعى إليه ربّ العائلة على مدى ما يزيد من 3 عقود في طهران.
المبطخ الأفغاني يعمل المعجزات
قيل إن الطعام، تغذية وتواصل وحنان، وهو جزء من ثقافة الشعوب والبلدان، لذا قررت العائلة فتح مقهى ومطعم يظهر البصمة الأفغانية الخاصة في الوصفات المقدّمة، حتى وصل الحال بالفنان موسى إلى أن قال في ما بعد، إن عاماً من النشاط في مجال الطعام للتعريف بهويتي، قد ساوى عقوداً من نشاطي في مجال الفن.
اقترضت الوالدة رقية أكبري، 15 ألف يورو من أختها التي تعيش في الغربة، ثم بدأت بإجراءات اختيار المحل وتحويله إلى تحفة فنية تقليدية. ساهمت العائلة في الإنشاء ثم زينت المقهى بالزهور وأصبح جاهزاً لفتح بابه أمام الضيوف.
تزامن فتح باب المقهى مع دخول جائحة كورونا إلى إيران، وسرعان ما انتشر الفيروس في عموم البلاد وتحول إلى أزمة كبيرة ومعقدة لا يتّسع المجال لذكرها، وللمهتمين أن يقرأوا ما كُتب سابقاً عن كورونا في إيران على موقع رصيف22.
أخذت العائلة شيئاً فشيئاً تتأقلم مع الوضع السائد، وقام كل فرد بتأدية دوره الحقيقي في المنزل هنا، أي في المقهى؛ محمد موسى صاحب المقهى يرحب بالضيوف ويجالسهم ويبتاع مستلزمات المقهى، الوالدة رقية هي الشيف الأصلي وذات الأنامل الفنية في الطهي الشهي الأفغاني، أما الشاب علي أكبر فيأخذ على عاتقه إدارة حسابات المقهى على السوشيال ميديا ويجلب الطلبات للزبائن، والشقيقتان فاطمة وبتول بدورهما تساعدان في تحضير المأكولات والمشروبات.
قوام الأكلات الأفغانية اللحوم الحمراء؛ كابلي بولو (Qabli Pulao)، مَنْتو (Mantu)... وغيرهما، إلا أن النباتيين (vegetarians)، بإمكانهم زيارة المقهى والتذوق من المطبخ الأفغاني النباتي أكلات مثل بولاني (Bulanni)، وغيرها.
أصبح الإيرانيون يترددون على "خانه كابُل" رويداً رويداً، قبل أن يصبح المقهى دار الجالية الأفغانية أولاً، وفي ما بعد باتت طواقم السفارات الأجنبية لدى طهران، من ضمن زبائنه الدائمين.
ماذا غير الطعام؟
للطاولات في المطعم هوية خاصة، فلكل واحدة منها اسم من أسماء الأحياء في العاصمة الأفغانية، والكتب التي تتحدث عن تاريخ أفغانستان وحضارتها وثقافتها وحاضرها وماضيها، موجودة للبيع أو القراءة، وثمة ملابس ومصنوعات يدوية أفغانية للبيع أيضاً. أما الجدران فهي حصراً لصاحب المقهى حيث حولها إلى gallery، إذ يعرض عليها صوراً من جماليات وطنه الأم.
يسمي الأفغانيون الجلوس بين الأحباب بـ"گردك" (gardak)، وقد حرصت الأسرة على إقامة تلك الاجتماعات للتعريف بالثقافة والفن الأفغانيين.
أول ما يوضع على الطاولة ليست قائمة المأكولات، بل ألبوم صور مع شرح لكل صورة التقطها موسى في زياراته طوال السنوات الماضية. وما أن ننشغل برؤيتها، حتى نتفاجأ بحفاوة الاستقبال وكأننا حقاً قد دخلنا منزلاً أفغانياً وليس مقهى في شارع فريمان وسط العاصمة طهران.
هكذا شعر أصدقائي العرب الذي اصطحبتهم معي إلى هناك، وطلبنا قيماق شاي، وهو شاي أخضر مع الحليب وماء الكرز والسكر والهيل والقيمر (Kaymak)، لتدردش معنا الطاهية رقية قبل أن تعدّه لنا، ثم تجلبه لنا فاطمة وتشرح المزيد حول هذا المشروب الساخن المذهل بطعمه.
"قلة النفايات عادة جلبناها من مسقط رأسنا"
أثنى الناشط البيئي الشهير محمد درويش، على المقهى من وجهة نظره البيئية، وعدّ له ميزتَين؛ الأولى أنه يهتم بالخضار والأزهار، والثانية أنه لا يستخدم الأطباق البلاستيكية.
يُرمى نحو 35 مليون طن من الطعام في نفايات البلد سنوياً، ويشكل ذلك هاجساً لدى الكثير من هواة البيئة، إلا أن بعض الأسر والمطاعم تركز على عدم إهدار الطعام، ومن هذه العوائل والمطاعم "بيت كابُل".
تشرح الطاهية رقية للناشط درويش: "نهتم بفرز النفايات في المطبخ، كما نحاول ألا نهدر بقايا وجبات الطعام، وقلة النفايات عادة جلبناها معنا من كابُل، فإما أن نؤكد على الزبون أن يأخذ ما تبقى من وجبته في حاويات ألومنيوم نسلمها له، وإما أن نضعه نحن في تلك الحاويات ونوزعها على المعوزين".
"هذا المقهى عبارة عن حلقة تواصل ثقافية بين إيران وأفغانستان"؛ يقول مؤسس المقهى الفنان محمد موسى، الذي نجح في أن يمزج بين الطعام والفن من أجل إبراز ثقافته رداً على السمعة السيئة التي تشاع عن وطنه وأبناء جلدته
وجّه الناشط مقترحه البيئي إلى هذا المقهى البيئي؛ تقديم بعض المطاعم والمقاهي تخفيضات بنسبة معيّنة إلى الزبائن الذين يرتادونها عبر الدراجات الهوائية في العاصمة الملوثة والمزدحمة دائماً طهران، وقد رحّب صاحب المقهى بالمقترح وأعلن عن تخفيض بنسبة 10 في المئة لهؤلاء.
"هذا المقهى عبارة عن حلقة تواصل ثقافية بين إيران وأفغانستان"؛ يقول مؤسس المقهى الفنان محمد موسى، الذي نجح في أن يمزج بين الطعام والفن من أجل إبراز ثقافته رداً على السمعة السيئة التي تشاع عن وطنه وأبناء جلدته، وكأنه شارك منزله وأحداثه مع الجميع، فأخرج هويته وفنه وطعامه وموسيقاه المفضلة من البيت إلى الشارع، وهذا ما شعرنا به حين زيارة "خانه كابُل".
كل هذا النشاط في موقع لا تتجاوز مساحته 20 متراً مربعاً. محل صغير بأفكار كبيرة وأسرة حميمة. ولربما لو لم تكن هذه الأسرة تحمل روحاً فنيةً لما تمكنت من النجاح في انعكاس ثقافة وطن، بمساحة عشرين متراً فقط من جغرافيا العاصمة الإيرانية.
وفي النهاية ليس "خانه كابُل"، المقهى الأفغاني الوحيد في طهران، بل هناك مقهى "عمارت بَلُخ" الثقافي، ومقاهٍ أخرى تدار من قبل الجالية الأفغانية، لكنه الرائد في الفكرة والنشاط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...