رغم أنه أصبحَ مشهداً معتاداً "أن نرى أمّاً تُزغرد في وداع ابنها الشهيد"، إلا أن هذا المشهد ربما يجب ألا يكون كذلك، فالفقد قاس على الأمهات على اختلاف أسبابه. لذلك، إذا تأمّلنا هذا المشهد الذي يتكرّر كلّ ساعة في فلسطين المُحتلّة بعينٍ "غريزة الأمومة"، سيبدو مشهداً من فيلم سينمائي فنتازي، تكون فيه الأمّ غير الأمّ، والابن غير الابن، والحياة غير الحياة، أما إذا تأمّلناه بعين "فلسطينية" سنجدهُ منطقياً للغاية، فالشعوب المقهورة إن لم تستطع هزيمة عدوّها بالسلاح، تهزمه بالزغاريد.
ويُمكن القول إن هذا المشهد -على منطقيته وعدم منطقيته- يفتحُ أبواباً متواصلة من الأسئلة: كيف يحدث ذلك؟ من أين تأتي الأمهات بهذه الشجاعة، وبماذا يفكرن في اللحظة التي يطلقنَ فيها الزغاريد وهنّ يودّعن أبناءهن للمرة الأخيرة؟ وهل يعكس هذا المشهد وغيره من المشاهد المتكرّرة في اليوم الفلسطيني، واقعاً يتّصل فيه الفرح بالحُزن اتصالاً وثيقاً؟ ربما هذا ما يفكّر فيه الكثيرون، مع كلّ زغرودة تُنذِر بشهيدٍ جديد يودّع البلاد رافعاً دمه.
احتمال الموت أعلى من احتمال النجاة!
الأمّ التي تزغرد في وداع ابنها، ليست شُجَاعة، ولكنها غالباً تُدرك أنّ احتمال الموت في فلسطين أعلى من احتمال النجاة دائماً، فــ "هذه المرأة تلد الأولاد فيصيروا فدائيين، هي تخلّف وفلسطين تأخذ"، كما يقول غسان كنفاني في روايته "أم سعد"، وإذا قمنا بتأمّل ما تقوله الأمهات في الوداع الأخير، سنجد جملة "فدا فلسطين" تتكرّر كثيراً في اللقاءات الصحفية والمقابلات وغيرها، وهذا ليس دليلاً على الشجاعة، بل دليل على الإدراك، إدراك أنهنّ "يخلّفنَ وفلسطين تأخذ".
يُمكن القول إن هذا المشهد -على منطقيته وعدم منطقيته- يفتحُ أبواباً متواصلة من الأسئلة: كيف يحدث ذلك؟ من أين تأتي الأمهات بهذه الشجاعة، وبماذا يفكرن في اللحظة التي يطلقنَ فيها الزغاريد وهنّ يودّعن أبناءهن للمرة الأخيرة؟
وعلى سبيل المثال: إن زغاريد أم الشهيد الأسير فادي الدربي، بعد استشهاد ابنها -جراء الإهمال الطبي- وسط الجنود الإسرائيليين الذين كانوا حولها في المستشفى، ربما لم تكن شجاعة بقدر ما كانت مُقاومَة، فقد كانت تزغرد والدموع تنهمر من عينيها، في مشهد تراجيدي نقلته الصحفية الشهيدة شيرين أبو عاقلة، في مقالها الذي جاء بعنوان: "لا تطلبوا من أم الشهيد أن تزغرد"، وربما يجب أن نستجيب لمطلب شيرين، فالأمهات عندما يزغردن يقطعن من لحمهنّ الحي لمقارعة العدوّ الذي يبتسم.
قهر الأعداء بالفرح في اللحظات الحزينة
في رواية "أعراس آمنة"، يقدّم الكاتب الفلسطيني إبراهيم نصر الله، تفسيراً مهماً يُمكن الاعتماد عليه لفهم دوافع الزغاريد في جنازات الشهداء، حيث يقول: "الذي يجبرنا على أن نزغرد في جنازات شهدائنا هو ذلك الذي قتلهم، نزغرد حتى لا نجعله يحس لحظة أنه هزمنا، وإن عشنا سأذكّرك أننا سنبكي كثيراً بعد أن نتحرّر!"، ويُمكن البناء على هذا التفسير من أجل فهم حالة التّشابك التي يعيشها المُجتمع الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال، كما يُمكن تعميمها على الكثير من المشاهد الأخرى، التي يُبرِز فيها الفلسطيني قدرته على المضيّ قدماً في الحياة، وإمكانيته الدائمة على منع العدوّ من شعور الانتصار.
فرغم التضييقات اليومية في القدس، ما يزال الفلسطينيون يتواجدون يومياً في البلدة القديمة، ورغم وقوفهم على الحواجز لساعات طويلة إلا أنهم يتنقلون من مكانٍ إلى آخر في كلّ يومٍ وكلّ ساعة، ورغم يقينهم أنّ الحجارة لن تؤثر في ناقلات الجند والدبابات، إلا أنهم يلقونها حتى لا يشعر العدو بأنه استطاع هزيمتنا، وهكذا في الزغاريد أثناء توديع الشهداء، حيث باتت الزغاريد رسالة تُوجّه كلّ يوم، مفادها: "تسقط الأجساد، لا الفكرة".
تحويل الزغاريد إلى سمة اجتماعية
لم يعد هناك خيار آخر أمام أمّ الشهيد غير أن تُزغرد، ومع كلّ جنازةٍ جديدة تزغرد أمّ جديدة، وهنا يُمكن الإشارة إلى أن حثّ الناس الأمّ على الزغاريد هو وسيلة دعم، فهُم بذلك يجعلون ألم الفراق أقلّ ثقلاً، رغم أن لا شيء يجعل الموت أخفّ، حتى أن مشاركة نساء العائلة والصديقات والناس في الزغاريد تُعدّ مواساة جماعية للفقد، ومع اعتياد هذا المشهد مع كلّ شهيدٍ يرتقي، وفي كلّ مدينة وكلّ مخيم وحارة وزقاق؛ تحوّل الأمر ليصبحَ سمة اجتماعية خاصّة بالمجتمع الفلسطيني، وربما لم يعد مدهشاً بالنسبة للكثيرين.
لم يعد مستغرباً أن يسمع أيّ عابر سبيل زغاريد فرحٍ وحزن في الحارة نفسها، فبينما تزفّ أمٌ ابنها إلى عروسه، تزفّ أمٌ أخرى ابنها إلى مثواه الأخير
حتى أن هذه السمة يتمّ دعمها في كلّ مرة والتأكيد عليها، سواء في الأغاني أو الأفعال أو الأقوال، فنجدُ فرقة جذور العاشقين تغني قائلة: "زغردي يام الجدايل زغردي، وزيني فخر الأصايل بالودع، وازرعي الحنة على الصدر الندي، واربطي عصبة على كل الوجع". ونجد أمّ الشهيد سامر الشافعي تزغرد على الهواء المباشر لابنها الشهيد، ليس ذلك فقط، بل تحمل نعشه لتودعه إلى مثواه الأخير، ونجد أيضاً شقيق الشهيد محمد حرز الله، يقف في مستشفى رفيديا بنابلس ليقول للجميع: "يلي جاي يعزيني يروح، واللي جاي يهنيني فيه أهلاً وسهلاً".
التشابك في الواقع الفلسطيني
إنّ اجتماع الحُزن مع الفرح في الواقع الفلسطيني، يشكّل تناقضاً غريباً، ويحمل دلالات كثيرة يمكن الاتكاء عليها لمعرفة من أين جاء وصف "شعب الجبّارين". فمع الارتقاء اليومي للشهداء، وعدم وجود فاصل بين الحزن والفرح، لم يعد مستغرباً أن يسمع أيّ عابر سبيل زغاريد فرحٍ وحزن في الحارة نفسها، فبينما تزفّ أمٌ ابنها إلى عروسه، تزفّ أمٌ أخرى ابنها إلى مثواه الأخير، وبات مشهداً متكرّراً أن يمرّ موكب شهيد في الطرف الأيمن للشارع، وموكب عريس في الطرف الأيسر للشارع، في مشهدٍ سينمائي تماماً، يدلّ على حجم التشابك والاتصال بين مفردتي الحزن والفرح والأمل واليأس في فلسطين، ويمكن الاتكاء عليه لمحاولة فهم هذا الشعب الذي لا يتوقّف عن الموت، ولا يتوقّف عن الحياة، في آنٍ واحد، فلا اختيار لديه إلا أن يُسيّر الحياة كما تسير، فيفرح في النصف الأول من الساعة ويحزن في النصف الثاني منها.
خاتمة
ما بين المواساة والتحدّي وعدم الانهزام والشجاعة ومواجهة العدوّ، تظلّ زغاريد الأم الفلسطينية في وداع أبنائها؛ حالة تستحقّ التأمل من أجل فهم تركيبة الإنسان الفلسطيني الجديد، التي يتشابك فيها الحزن مع الفرح والأمل مع اليأس، في تناقضٍ لا يكون منطقياً حتى في الأفلام السينمائية، ولكنه بات منطقياً جداً في واقعٍ فلسطيني لا منطقي، تطغى فيه لغة "الفقد" على لغة "الحياة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Emad Abu Esamen -
منذ 7 ساعاتلقد أبدعت يا رؤى فقد قرأت للتو نصاً يمثل حالة ابداع وصفي وتحليل موضوعي عميق , يلامس القلب برفق ممزوج بسلاسة في الطرح , و ربما يراه اخرون كل من زاويته و ربما كان احساسي بالنص مرتبط بكوني عشت تجربة زواج فاشل , برغم وجود حب يصعب وصفه كماً ونوعاً, بإختصار ...... ابدعت يا رؤى حد إذهالي
تامر شاهين -
منذ يومهذا الابحار الحذر في الذاكرة عميق وأكثر من نستالجيا خفيفة؟
هذه المشاهد غزيرة لكن لا تروي ولا تغلق الباب . ممتع وممتنع هذا النص لكن احتاج كقارئ ان اعرف من أنت واين أنت وهل هذه المشاهد مجاز فعلا؟ ام حصلت؟ او مختلطة؟
مستخدم مجهول -
منذ يوممن المعيب نشر هذه الماده التي استطاعت فيها زيزي تزوير عدد كبير من اقتباسات الكتاب والسخرية من الشرف ،
كان عيسى يذهب إلى أي عمل "شريف"،
"أن عيسى الذي حصل على ليسانس الحقوق بمساعدة أخيه"
وبذلك قلبت معلومات وردت واضحة بالكتاب ان الشقيق الاصغر هو الذي تكفل بمساعدة اهله ومساعدة اخيه الذي اسكنه معه في غرفه مستأجره في دمشق وتكفل بمساعد ته .
.يدل ذلك ان زيزي لم تقرأ الكتاب وجاءتها المقاله جاهزه لترسلها لكم
غباءا منها أو جهات دفعتها لذلك
واذا افترضنا انها قرأت الكتاب فعدم فهمها ال لا محدود جعلها تنساق وراء تأويلات اغرقتها في مستنقع الثقافة التي تربت عليها ثقافة التهم والتوقيع على الاعترافات المنزوعه بالقوة والتعذيب
وهذه بالتأكيد مسؤولية الناشر موقع (رصيف 22) الذي عودنا على مهنية مشهودة
Kinan Ali -
منذ يومجميل جدا... كمية التفاصيل مرعبة...
Mazen Marraj -
منذ يومينإبدااااع?شرح دقيق وحلول لكل المشاكل الزوجية?ياريت لو الكل يفكر بنفس الطريقة..
بالتوفيق ان شاء الله في حياتكما الزوجية ?
Nawar Almaghout -
منذ يومينرداً على ما ورد من الصحفية زيزي شوشة في موقعكم
الذي أوقع محمد الماغوط وشقيقه عيسى بين براثن الآنسة زيزي وأشباهها
يبدو أن الصحفية ثقافتها لم تسمح لها بالغوص أعمق، و يدل عن بعدها كل البعد عن فهم ما يجري. وهي بسلوكها هذا، على أقل تقدير، تمثل المستنقع الفكري الضحل الذي تعيش فيه
رابط ردي في موقع العربي القديم
https://alarabialqadeem.com/mohmaghbor