عقود طويلة من الاستبداد والديماغوجيا في سورية، وتعميم العلاقات الشخصانية، وانتشار الفساد واللصوصية في المجتمع، أدت إلى تعميق اغتراب المواطنين عن وطنهم وزادت في سلبيتهم، وفي المحصلة، أعاقت كثيراً مبادراتهم وإبداعاتهم.
إن النقص الشديد في الحرية، وشدّة القمع واستمراريته، وتزييف إرادة الناس، وتحويل تنظيماتهم المختلفة إلى أطر للتوصيل الديماغوجي وأدوات للسيطرة، كل ذلك زرع في نفس كل مواطن رقيباً أمنياً يشلّ حركته، ويمنعه من المبادرة والتفاعل البناء مع قضاياه الوطنية والإنسانية.
في مرحلة الاستعمار، وخلال الخمسينيات من القرن العشرين، كانت الروح الوطنية عالية ومتيقظة، وكان للحرية الفردية طعم مستساغ، وكانت المنظمات المدنية فاعلة، وكان للقانون هيبة. غير أنه في العقود التالية، وبسبب الاستبداد وضغط السلطة على المجتمع، وتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، والقضاء على الحريات، وتخريب القضاء، كل ذلك أنعش، موضوعياً، الأطر العائلية والطائفية والمذهبية والعشائرية والجهوية، باعتبارها ملاذاً للمواطن، يؤكد من خلالها شخصيته وحضوره، ويحقّق أمنه.
في سورية، حال النظام الاستبدادي دون تشكل هوية وطنية جامعة، وحافظ على الهويات الفرعية ما دون الوطنية، من عشائرية وقبلية ودينية وغيرها، نشيطة وفاعلة، يلجأ إليها المواطن متوهّماً أنه من خلالها يمكنه تأكيد شخصيته وحضوره، ويحقّق أمنه
إن سياسة تعميم الفساد كأسلوب في الإدارة وضبط المجتمع، بالإضافة إلى تعميم العلاقات الشخصانية، وإنعاش جميع البنى الاجتماعية الأهلية في الحقل السياسي، كوّن شخصية المواطن السوري لتكون غريبة عن وطنها، وجعلت الكثير من السوريين يحنّون إلى مرحلة الاستعمار، ولا يشعرون بالحرج من إبداء رغباتهم بقدوم أمريكا، أو غيرها، لتخلّصهم من النظام الحاكم في بلدهم.
يعد النظام الاستبدادي السوري ذو طبيعة خاصة، لكونه جاء من رحم ما سُمّي بالشرعية "الثورية "، يندمج في سلطته الأشخاص الطبيعيون بمؤسسات الحكم، فتفقد بذلك طابعها المؤسّساتي لتصير مجرّد أجهزة لتوصيل الأوامر والسيطرة. أضف إلى ذلك ضيق المستوى التعاقدي فيها، إذ يؤدي أشخاص السلطة الدور الرئيس بحسب مصالحهم، وفي القلب منها مصلحتهم في استمرار السلطة ذاتها، واستمرار بيئتها المحافظة على طابعها كسلطة استبدادية.
إن سلطة الاستبداد السوري ذات طبيعة طغموية، فهي تحالف أمنى مالي تجاري بصورة رئيسة، تنتمي بمجملها إلى الشرائح البيروقراطية والكمبرادورية والطفيلية من البرجوازية، وهي، كما بينت التجربة، زادت الأوضاع تعقيداً على تعقيد، من خلال تعميمها للفساد في جميع مجالات الحياة الاجتماعية، وبناء نظام في المصالح يقوم أساسا على العلاقات الشخصانية، فسادت قيم اللصوصية وأخلاقها.
لقد أصبحت المناصب العامة في الدولة وأجهزتها المختلفة امتيازاً، فضاعت المسؤولية وغابت المحاسبة، وفي المحصلة زاد بؤس الناس ونمى التخلف. وما زاد في الطين بلة، إدخال البلد في صراع دام، استمر لأكثر من اثنتي عشرة سنة، تم خلالها تدمير البلد وتمزيق وحدة شعبه.
تفيد بعض المؤشرات الدالة على عمق تأثير الأزمة الراهنة على حياة السورين، فهي تشغل المراتب الأولى عالمياً في تدني مستوى المعيشة (نحو 90% من المواطنين يعيشون تحت خط الفقر)، وفي انخفاض نصيب الفرد من الدخل القومي، وفي مستوى الأجور (نحو10 دولار في الشهر)، وفي تدني مستوى التعليم (خرج التعليم في سورية من التصنيف الدولي)، وفي الفساد، وفي غياب الحرية السياسية والإعلامية وغيرها كثير.
في الأنظمة الاستبدادية من هذا الطراز يصعب كثيراً تحولها بصورة جذرية وشاملة باتجاه النظام الديمقراطي، وكما تبين التجربة التاريخية، إن هذه الأنظمة تقبل الكسر وليس الإصلاح. ويجري الكسر غالباً بتدخّل خارجي، كما حصل في العراق وليبيا، لكنه قد يحصل عن طريق انتفاضة شعبية مدعومة من العسكر، كما حصل في تونس ومصر. وإذ ينكسر فقد ينفتح ليس فقط على احتمال التحوّل الديمقراطي، بل على احتمال الحرب الأهلية، كما حصل في اليمن وليبيا. هذه بعض الأمثلة من عالمنا العربي، مع أن أمريكا الجنوبية، وإفريقيا وجنوب آسيا، تقدم خيارات أخرى منها التحوّل مباشرة نحو الديمقراطية.
إن مصير حزب البعث، وغيره من الأحزاب السياسية الأخرى في سورية في جبهة السلطة أو في المعارضة، سوف يقرّره الناس أنفسهم، في ظروف الديمقراطية عبر صناديق الاقتراع، وليس من خلال ردود الفعل أو الأحكام المسبقة
في سورية، حال النظام الاستبدادي دون تشكل هوية وطنية جامعة، وحافظ على الهويات الفرعية ما دون الوطنية، من عشائرية وقبلية ودينية وغيرها، نشيطة وفاعلة، يلجأ إليها المواطن متوهّماً أنه من خلالها يمكنه تأكيد شخصيته وحضوره، ويحقّق أمنه.
الاستبداد من الطراز السوري، إذا صحّت التسمية، لا يؤمن بالحياة السياسية الطبيعية، وما هو مسموح منها مكرّس لخدمة الزعيم القائد، أو المهيب، أو ملك الملوك، أو أمير المؤمنين، ما يلحق الضرر بالأحزاب السياسية، بما في ذلك أحزاب السلطة ذاتها.
على سبيل المثال، فإن حزب البعث العربي الاشتراكي هو الأكثر تضرّراً من سياسات السلطة التي تحكم باسمه، إذ تحول إلى مجرّد جهاز من أجهزتها، يقوم بوظائف الرقابة على المجتمع وتوصيل الأوامر ونقل المعلومات. وعلى العموم، إن مصير حزب البعث، وغيره من الأحزاب السياسية الأخرى في سورية في جبهة السلطة أو في المعارضة، سوف يقرّره الناس أنفسهم، في ظروف الديمقراطية عبر صناديق الاقتراع، وليس من خلال ردود الفعل أو الأحكام المسبقة.
في ضوء هذا المسح المكثف لواقع الحياة الاجتماعية والسياسية في سورية، وهو واقع يدعو بمجمله للإحباط والتشاؤم، صار واضحاً أن المسؤول الأول والأخير عنه هو الاستبداد، وإن المخرج من كل ذلك هو في نقيض الاستبداد، إنه في نظام يعمم مناخات الحرية والديمقراطية والعدالة والقانون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...