أتذكرُ كلام خالتي في كل مرة ازداد بها وزني: "لازم تعملي رياضة... قومي امسحي البيت... لحتى تنزلي وزنك".
كانت الرياضة الوحيدة المسموحة لنا أنا وبنات عائلتي، باستنثاء الأعمال المنزلية طبعاً، هي المشي في طرقات دمشق. وهنا، أؤكد أنّ الرياضة المسموحة لنا كانت المشي وليس الجري، إذ كان من المعيب أن تركض أي فتاة في الطريق.
وأمّا بالنسبة للمدرسة، التي تشدّد على أهمية التربية البدنية والرياضية، فاقتصرت الحصة الرياضية فيها على مرة واحدة في الأسبوع، وفقط عندما يكون الطقس ملائماً. وخلال مرحلة التعليم الابتدائي، كانوا الفتيان يلعبون كرة القدم أحياناً، بينما نجلس نحن، الفتيات، في زوايا الباحة نشاهدهم يلعبون من بعيد في معظم الأوقات.
عندما كنتُ في الصف الثاني ابتدائي، جاءت مدرّبة رياضة إلى المدرسة واقترحت تفعيل رياضة الجمباز للأطفال. حينها، منع معظم الأهالي طفلاتهن من ممارسة الرياضة بحجة "فقدان العذرية"، إذ كان من الشائع لدى العديد من العائلات السورية أنه في حالة ممارسة الفتاة لرياضة الجمباز وغيرها من الممارسات الرياضية، كركوب الدراجة، فإن ذلك سيؤدي إلى تمزق غشاء البكارة لديها.
أدّت سيطرة البعث - الحزب الحاكم في سوريا منذ عام 1963 - إلى تجريد الرياضة من قيمتها وتسييسها والسيطرة عليها
وعلى الرغم من عدم اهتمام معظم الأسر في الثقافة الرياضية، لاعتبارها وسيلة للترفيه، إلّا أن ذلك لم يأتِ من فراغ، إذ أدّت سيطرة البعث - الحزب الحاكم في سوريا منذ عام 1963 - إلى تجريد الرياضة من قيمتها وتسييسها والسيطرة عليها، ما جعل العديد من المجتمعات المحلية ترفض إدخال أولادهم/ن للنوادي الرياضية.
في عام 1970، تم إصدار المرسوم التشريعي رقم 38، مؤسساً لما عُرف بالاتحاد الرياضي العام، وهو أعلى سلطة رياضية في سوريا، والتي تتبع بشكل مباشر قيادة حزب البعث.
وفي هذا السياق، تقول ريا السيد، مدربة "أيروبيك وزومبا" ورقص شرقي، وتبلغ من العمر أربعين عاماً: "لما كنت بالمدرسة بحلب كان في مدربة رياضة بدها تاخد طلاب للانضمام للجمباز، ولكن للأسف، واجهت صعوبة أنو أهلي ما سمحولي بهاد الشي... أهلي بهداك الوقت رفضوا لأنهم مالهم حابين جو التدريب بصالات متل صالة الأسد... يعني كلشي بسوريا كان تحت رعاية حزب البعث، وما كان مريح، والسمعة كانت سيئة لما استلموا الرياضة".
في ظل المشهد الرياضي القاتم، كانت الفروسية هي الرياضة الوحيدة التي اهتمّ بها النظام السوري، وسخّرها في مجال تحصيل مجد شخصي لبيت الأسد.
افتخر العديد من السوريين حين فازت غادة شعاع بميدالية ذهبية في أولمبياد "أتلانتا" عام 1996، ولكنّها أيضاً كانت مناسبة لغالبية للتشكيك في ميولها الجندرية، والتهامس: "هل هي رجل أو امرأة؟"
بعد عام 2011، تمكّنت بعض المناطق من زعزعة سيطرة النظام عليها، إلا أنّ الواقع الرياضي كان صعباً، خاصة في ظل تدمير البنية التحتية للمرافق الرياضية، كالملاعب والصالات، وفقدان الأمن المطلوب لممارسة العديد من الرياضات. كما تمّ اعتقال وقتل العديد من لاعبي/ات الرياضة السورية، وهروب الكثير منهم/ن بحسب عروة قنواتي، رئيس الهيئة السورية للرياضة والشباب.
يقول قنواتي لرصيف22: "وسط مشهد الحرب والحصار الذي شهدته بعض المناطق السورية، كانت هناك محاولات عديدة لإحياء الرياضة، حيث أطلقت الهيئة السورية للرياضة والشباب فعاليات المهرجان الرياضي في الوعر والغوطة الشرقية في عام 2016، علماً بأنّ هاتين البلدتين كانتا محاصرتان في ذلك الوقت… جاءت الفكرة كضرورة ملحّة لإحياء الرياضة والنشاط المدني وسط الخراب والحصار".
تنميط مستمر
أتذكرُ اللحظة التي فازت فيها غادة شعاع بميدالية ذهبية في أولمبياد "أتلانتا" عام 1996 في الولايات المتحدة الأمريكية. حينها، افتخر العديد بها، ولكنّها أيضاً شكّلت حالة جديدة لتهامس الناس خلف الأبواب وفي الجلسات العائلية والمسائية، من خلال التشكيك في ميولها "الجندرية" والتهامس: "هل هي رجل أو امرأة؟"
في هذا الصدد، يقول قنواتي: "عيب وحرام على سوريا أن يكون لديها أربع ميداليات فقط بتاريخ الأولمبياد من تاريخ انطلاقه عام 1924 حتى اليوم، ومنها ميدالية ذهبية لغادة شعاع التي تمّ تنميطها بسبب شكلها، كان هناك فريق للنساء في كرة السلة وكان هناك نادي الوحدة للسيدات في دمشق وكانت غادة الراعي ورولا زرقة في حلب مع نادي الحرية لكرة السلّة".
ساهمت النظرة المجتمعية للرياضة بوجود تنميط مجتمعي وجندري بين النساء والرجال في معظم الأحيان
وساهمت النظرة المجتمعية للرياضة بوجود تنميط مجتمعي وجندري بين النساء والرجال في معظم الأحيان. كما أدّت إلى سيطرة الخرافات التي تزعم بأنّ النساء غير قادرات على رفع الأوزان الثقيلة. ورغم الإدراك التام لعدم تساوي البنية العضلية بين النساء والرجال، إلّا أنّه، عن طريق تدريب بنية العضلات، تصبح النساء قادرات على رفع الأوزان.
هذه المعتقدات دفعت بالعديد من النساء إلى ممارسة الرياضات الخفيفة، بينما يميل معظم الرجال منذ الصغر إلى لعب كرة القدم أو كمال الأجسام ورفع الأثقال. ونادراً ما يتم تشجيع الفرق النسائية الرياضية ضمن سياقاتنا المحلية إن صح التعبير، ككرة القدم التي لطالما اشتهر بها الرجال.
واليوم بدأنا نشهد في بعض المناطق كسراً لهذه النمطية، فشهدنا فعاليات نسائية في القامشلي، على سبيل المثال، ونادي عامودا للسيدات. وإبّان الحرب التي عاشتها سوريا لسنوات، بدأت الأندية الرياضة بفتح أبوابها من جديد لكلا الجنسين في المناطق السورية كافة. أما بالنسبة للمناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري، فيؤكد عروة على صعوبة تجاوز الأعراف هناك في أغلب الأوقات.
وكأيّ مجال آخر، تخاف النساء والفتيات من خوض مضمار الرياضة تجنّباً لسخرية المجتمع منهنّ، ويمتد التنميط ليشمل اللباس وأنواع الرياضة التي تمارسها النساء.
تستعرض ريا تجربتها كمدربة رقص شرقي في هذا الخصوص، وتقول: "بحلب، كنت دائماً درّب نساء وما كان في مشكلة... وما كان في هي النظرة على الأقل ضمن المحيط تبعي، بالعكس، كانوا المتدربات يظهرولي احترام وود وتقدير. لما إجيت على مدينة عنتاب (تركيا)، وقابلت سوريين، كان في استخفاف... يعني مرة كنت قاعدة مع مجموعة سوريين وواحد سألني: شو بتشتغلي؟ قلتله أنا بدرب رقص شرقي.. وهون في شخص أوحالي من حركاته أنو رقاصة بشيء من الاستخفاف والاستهزاء؟! النظرة الدونية مرفوضة... وغير لبقة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 14 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 21 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com