أحد الأصدقاء معلّقاً على إعلان لاعب الاسكواش المصري مروان الشوربجي، تجنيسه لصالح إنجلترا، بعد شهور قليلة من قرار شقيقه الأكبر المماثل، ومن ثم خوضهما المنافسات حاملين علماً أبيض وأحمر بعد نزع اللون الأسود "علم إنجلترا"، كتب أنه لا يعرف لماذا شعر بالسعادة والارتياح رغم أنه لا يتابع اللعبة من الأساس ولا يعرف اللاعب كذلك، هذا التعليق العفوي سيُقرّ عديد من الشباب المصريين بأنهم يتشاركونه وبهذا أُقرّ أنا أيضاً.
مولد الشعب العاق
بالعودة لما قبل 10 سنوات، وتحديداً في السنوات الأولى التي تلت رحيل الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، عن سدّة الحكم، متأثراً بشظايا ثورة 25 يناير، كنت أتلمّس مشاعر حب الوطن حولي في كل شيء، ومن منا لا يتذكر إقدام الشباب حينها على تنظيف الشوارع طواعية، وطلاء الجدران وتجميلها، وتكوين لجان تعمل على توعية وتثقيف الناس في شتى المجالات، سياسة كانت أو صحّة أو تعليم؟ لماذا فعلوا ذلك؟ الإجابة بسيطة: لأنهم شعروا بأن هذا الوطن مِلكهم للمرة الأولى تقريباً، وما حدث بعد ذلك هو قائمة من التنازلات غير الطوعية لأطراف أقوى وأفضل تنظيماً، فرضت الوصاية على الممتلكات الوطنية الجديدة، ولم تشرك الشعب في التصرف فيها، رأياً وفعلاً، ومنهم من قال بصراحة إن تلك الوصاية ممتدّة حتى يتعلم الناس الديمقراطية. هنا ولِد الشعب العاق.
شعر بعض المصريين تجاه مصر بخيانة مريرة، قابلوها برغبات الهجرة والشماتة في الخيبات مهما كانت نوعها، رياضية أو صناعية أو سياسية، خسارة منتخب أو فشل مشروع أو مجرّد هبوط أرضي في طريق حديث الإنشاء
مثلما يشعر بعض الأبناء بخيانة أمهم، لمقابلتها وفائهم الممتدّ لها بكتابة وصية ظالمة، شعر بعض المصريين تجاه مصر بخيانة مريرة، قابلوها برغبات الهجرة والشماتة في الخيبات مهما كانت نوعها، رياضية أو صناعية أو سياسية، خسارة منتخب أو فشل مشروع أو مجرّد هبوط أرضي في طريق حديث الإنشاء، وخطأ هندسي في كوبري كفيل بتغذية ذلك الشعور بالشماتة في كيان غير محدّد الملامح، وضع ثقته وكتب وصيته وأعطى حرية التصرّف في أملاكه لمن هم غير جديرين بالثقة، من وجهة نظر الأبناء الغاضبين على الأقل.
ما الذي شعرت به؟
أتعرفون ذلك المشهد الكلاسيكي لمساجين يتفاجئون أثناء قيامهم بأعمالهم الشاقة في الجبال بنجاح خطة هروب زميل لهم، وما إن يطمئنوا بأنه قد أفلت ركضاً بالفعل فيبدؤون بالاحتفال برمي المطارق وإظهار ألسنتهم للحراس، ورغم أن العمل الشاق مستمرّ وكذلك الحراس الذين قد يصبّون بعضاً من غضبهم على المحتفلين أنفسهم، إلا أن هذه اللذة برؤية الحراس يعانون ويخسرون، ولو لمرّة كل فترة، من الطبيعي أن تجلب للمساجين بعض العزاء، هذا بالضبط هو شعوري كلما قرأت خبر مغادرة أحدهم لمصر والنجاح في مسعى عالمي آخر.
أن تكون حبيساً لأشياء عدّة فتبحث عن أخبار الطلقاء السعيدة، ربما ذلك لأنك تُفكّر أنه قد يحين دورك أنت أيضاً، أو لاحتمالية أن يتملّك الهلع من بيدهم الأمر، فيبدؤون في تدارك خسائرهم التي تجاهلوها حتى اليوم باعتبارها خسائرنا وحدنا، الثابت أن الشعور بالسعادة والرضا هنا هو مجرّد شكل آخر للشعور بالغضب واليأس.
هل نستحق ذلك؟
المعتاد هو أن يُخبرك أحد المُنظّرين لصالح الحكومة الحالية أن إشراك الشباب في المشهد والقرار عبث، لأن المصريين، كما سبق الذكر، ليسوا جاهزين لمثل تلك الديمقراطية بعد، لكن السؤال أي شباب يقصد؟
على الذين أزعجهم تأييد الشباب لمواقف هروب الرياضيين من حمل العلم المصري، أن يعوا قدرة قتل الوطنية بالصمت وعدم التقدير، وإعطاء السلطة لأساتذة "تطفيش" الشباب
فلو أنه يتحدث عن الشباب من عمري، أي الجيل الصانع ليناير، وإن كنت أنا وأمثالي غير جاهزين للديمقراطية حقاً، فهذا ذنب من حرمنا منها لعقود لا ذنبنا، وإن قال المدافع عن موقف الحكومة الحالية إن هذا حدث وقت نظام بائد، فيجب أن يخبرنا وماذا فعل الحالي لتفادي تكرار ما حدث؟ لا شيء، على العكس، فالحرمان من "تعليم الديمقراطية" والتي يجب أن تُمكّننا من المشاركة في الحياة السياسية، ومن ثم الشعور بأننا نمتلك شيئاً ما في هذا الوطن أصبح أشد قوّة من أي وقت مضى، والحقوق باتت أبعد عن الألسنة حتى، وليست أبعد عن أرض الواقع فقط، ومعظم من يملكون بعضاً من أبجديات الديمقراطية – إذا أراد صديقنا المدافع وصفهم بذلك – الذين شاركوا في الثورتين، يناير ويونيو، تُقدَم لهم عروض المشاركة على هيئة موافقة وتأييد فقط، فما بالك بمن لم يعايشوها ولو يوماً واحداً منذ بدأ إدراكهم الحقيقي بواقعهم، أعني الشباب الأصغر سناً، جيل ما بعد ثورة يناير.
لا قرار، لا رأي، لا وطنية
على الذين أزعجهم تأييد الشباب لمواقف هروب الرياضيين من حمل العلم المصري، أن يعوا قدرة قتل الوطنية بالصمت وعدم التقدير، وإعطاء السلطة لأساتذة "تطفيش" الشباب، واختصاراً نقول إن الوطن هو حيث يكون لنا رأي وقيمة، عدا ذلك فسيظل داخل الكثير من المواطنين شعور بالغربة الشديدة، وبأنهم مجرّد بشر قام أحدهم بإحاطتهم بسياج وأجبرهم على استهلاك الأشياء بغرض استمرار دوران العجلة الاقتصادية التي تُلقي على رؤوسهم بالأحجار المتطايرة فقط، وسيحتفلون كل مرّة عندما يعرفون أن هناك من استطاع الهرب من السياج والعجلة، ويتخيلون أنفسهم رفقاء رحلته، تُخبرهم سعادته أن هناك شاباً مصرياً قد يكون سعيداً في مكان ما، ويخبرهم نجاحه أن العيب ليس فيهم، وأن الإرث الذي تركته الأم مصر، لو تبدّد بالكامل فربما يُمكنهم يوماً ما الهروب هم أيضاً نحو كنز آخر في وطن جديد لا يصبحون فيه شعباً عاقاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 17 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت