شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
شهادات البنك الأهلي المصري الدولارية، بين السؤال والمساءلة

شهادات البنك الأهلي المصري الدولارية، بين السؤال والمساءلة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!
Read in English:

Banking on US dollars: Will Egypt's high interest dollar deposits sell?

"لو معاك مليون دولار ادخل البنك واعمل الشهادة ومحدش هيقولك أنت جايب الفلوس منين"

هكذا صرح نائب رئيس البنك الأهلي المصري "يحيى أبو الفتوح" في مداخلة هاتفية مع برنامج "على مسؤوليتي" معلناً عن طرح الشهادتين الدولاريتين الجديدتين "الأهلي بلس" و"الأهلي فوراً" والأخيرة يتقاضى مودعوها عائداً فورياً يصل إلى 27%.

أثارت تأكيدات أبو الفتوح المتعلقة بعدم إلزام المودعين الإفصاح عن مصادر أموالهم، موجة هائلة من التساؤلات على صفحات التواصل الاجتماعي، وتباينت ردود الأفعال بين متشكك ومحذر وساخر. وفرضت ثلاثة أسئلة منطقية نفسها على المشهد:

١- هل هذا القرار هو إعلان ضمني عن فتح الباب على مصراعيه لعصابات غسيل الأموال؟ وما تبعات ذلك إن حدث؟

٢- من أين ستحصل الدولة على دولارات تسد بها فوائد الشهادات الدولارية الجديدة؟

٣- ما هي السيناريوهات المحتملة حال امتنع الناس عن شراء تلك الشهادات؟

التقرير التالي يحاول الإجابة عن تلك الأسئلة

خلفيات إصدار الشهادات الدولارية الجديدة

لا يمكن تجاهل أو إخفاء الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها مصر الآن، وهي الأزمة الناجمة بالأساس عن تراكم الديون التي توسعت الدولة في اقتراضها لتدشين مشاريعها التنموية العملاقة، حتى وصل الدين الخارجي بنهاية السنة المالية المنقضية (يونيو/ حزيران 2023) إلى 165 مليار دولار.

فضلاً عن وجود عجز دائم في الموازنة العامة (مصاريفنا أكتر من إيرادتنا) وهو العجز الذي أقر به وزير المالية محمد معيط في لقاء تلفزيوني قائلاً إن الحل الوحيد أمامه لتغطية ذلك العجز هو المزيد من الاقتراض. "هستلف تاني" على حد تعبيره.

زاد الأمر تعقيداً وجود احتقان مكتوم في العلاقات بين القاهرة والرياض (الداعم الأكبر لمصر) انعكس على حجم المساعدات المرتقبة.

وهو الاحتقان الذي طفا على السطح بوضوح مع تصريح وزير المالية السعودي محمد الجدعان في مؤتمر دافوس الاقتصادي يناير/ كانون الثاني الماضي، الذي قال فيه "لقد غيرنا الطريقة التي كنا نقدم بها المنح والمساعدات بدون شروط، الآن نريد أن نرى إصلاحات".

الرسالة: الخليج لن "يساعد" لكن سوف "يشتري" ما يراه رابحاً من الأصول.

وعلى ضفاف هذه التعقيدات، انخفضت تحويلات المصريين في الخارج، والتي تعد أحد أبرز مصادر الدخل الأجنبي للدولة، بمعدل كبير حيث أظهرت بيانات البنك المركزي المصري أن تحويلات المصريين بالخارج انخفضت من 23.6 مليار دولار خلال الشهور التسعة الأولى من العام الماضي، إلى 17.5 مليار دولار خلال نفس الفترة هذا العام.

هذا الانخفاض ناجم عن أن العامل في الخليج عوضاً عن أن يحول أمواله عبر البنوك، أصبح يفضل أن يعطيها لتاجر هناك، ويقوم التاجر بإعطاء أهله ما يقابلها بالجنيه هنا، وبهذا يكون الاقتصاد القومي خسر تلك الدولارات التي لم تدخل البلاد.

بالطبع لجوء العاملين بالخارج لهذا الاختيار لم يتم لنقص وطنية ولا لكرههم للنظام، وإنما تم لأن سعر صرف العملة الأجنبية لدى التاجر هناك أكبر بكثير من سعرها في البنوك المصرية هنا.


تصريحات السيسي ورسائله

تعقيدات الوضع الاقتصادي وصلت إلى نقطة دعت رئيس الجمهورية عبدالفتاح السيسي لإصدار تصريحين شديدي الدلالة؛ الأول كان في قمة "ميثاق التمويل العالمي الجديد" بباريس في مطلع يوليو/ تموز الجاري، حين طالب مؤسسات التمويل الدولية بـ"تفهُّم" وضع مصر التي تتعرض لضغوط اقتصادية، داعياً إلى "إصلاح الهيكل المالي العالمي" لتعزيز تمويل عمليات التنمية في البلدان الفقيرة.

التصريح الثاني محليّ، قال فيه إن سعر الصرف في مصر أصبح "أمناً قومياً" وأنه لا يمكن لحكومته الاقتراب منه إذا كان سيؤثر على حياة المصريين. في رسالة واضحة لصندوق النقد الدولي (وإن لم يسمّه) أن مصر لن تجرى تعويماً آخر للجنيه.

تفاصيل الشهادات الدولارية الجديدة

لم يكن البنك الأهلي هو البنك الوحيد الذي أصدر الشهادات الدولارية الجديدة، وإنما تزامن معه إصدار بنك مصر لشهادتين هو الآخر.

وبشكل عام يمكن القول إن الشهادتين متساويتين إلى حد بعيد، وإن اختلفت المسميات.

حيث أصدر البنك الأهلي شهادة "الأهلي بلس" والتي تبلغ مدتها 3 سنوات، وتقدم عائداً سنوياً 7% يصرف كل 3 أشهر بالدولار، ويجوز الاقتراض بضمان الشهادة حتى 50% من قيمتها بالجنيه المصري،

وشهادة "الأهلي فوراً"، وتبلغ مدتها 3 سنوات أيضاً، وتمنح عائداً سنوياً يبلغ 9%، يصرف مقدماً بـ"الجنيه المصري" عن الفترة كلها، لكن لا يجوز الاقتراض بضمانها.

أما بنك مصر، فأصدر شهادتين بنفس العرض تقريباً أطلق على أحدهما "شهادة إيليت" والأخرى اسم "شهادة القمة"

هل ستفتح مصر بابها للأموال المشبوهة؟

الشهادات الدولارية الجديدة وغسيل الأموال

فور الإعلان عن إصدار شهادات البنك الأهلي الدولارية الجديدة، اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي صرخات تحذيرية من كل صوب، ترى تصريح نائب رئيس البنك الأهلي الخاص "بعدم السؤال عن مصدر الأموال" دعوة لغسيل الأموال، محذرين من عواقب وخيمة لتلك الخطوة.

فما هي تلك العواقب الوخيمة التي يتحدث البعض عنها؟

هناك منظمة دولية تدعى الـ FATF مهمتها هي تقييم مدى التزام المؤسسات المالية بمعايير الحد من غسيل الأموال ومكافحة الإرهاب. ووفقاً لتلك المعايير المتعارف عليها، تقوم بتصنيف الدول المخالفة ووضعها إمّا على القوائم الرمادية أو السوداء.

وحال وضع دولة في القائمة السوداء، يصبح من العسير قيامها بأي تحويلات خارجية بالدولار، ولا يمكنها التعامل مع البنوك والمؤسسات المالية بالخارج، فضلاً عن تصنيف تلك الدولة كاقتصاد عالي المخاطر (خفض التصنيف الإئتماني للدولة وبنوكها إلى الحد الأدنى)، وهو ما سيزيد تكلفة الاقتراض ويبعد المستثمرين.

فهل حقاً نحن على مشارف ذلك المأزق أم أن ما يدور على صفات التواصل لا يعدو كونه مبالغات؟

الخبير الاقتصادي مدحت نافع يجيبنا عن ذلك السؤال ويقول: "مبدئياً دعنا نتفق أننا أمام قرار اضطراري. البلد محتاجة دولار وهذه وسيلة قد تكون مناسبة لتدبيره. فنياً قد لا يكون ذلك القرار مثالياً، لكنه كما أسلفت هو اضطراري".

أما عن الناحية القانونية - والحديث ما زال لنافع - فلا يمكن أن يصدر البنك المركزي المصري قراراً وهو يدرك أنه يخالف المواثيق الدولية، هذا تصرف غير وارد حدوثه. ويستلزم إصدار البنوك العاملة في الداخل المصري لأية منتجات جديدة موافقة من البنك المركزي المصري خاصة إذا اتصلت تلك المنتجات بالعملات الأجنبية.

لذا يعتقد نافع أن السلطة المالية والبنكية الأعلى، ممثلة في البنك المركزي، سوف تطبق آليات أخرى يمكن عن طريقها تلافي تلك النقطة، ففي النهاية "السؤال عن مصدر الأموال هو إحدى وسائل ضبط العملية، لكن هناك وسائل أخرى، من المؤكد أنه ستلجأ إليها البنوك لتأمين نفسها من التورط في هذا المأزق".

وفي هذا السياق، فلا بأس من اللجوء لتلك الشهادات لإخراج الدولارات من السوق السوداء وإدخالها في الاقتصاد الرسمي، فنحن في احتياج ماس إلى ما يقرب من 8 مليارات دولار في القريب العاجل. وإن كنت أشك أن تنجح هذه الشهادات الدولارية الجديدة في تدبير ذلك المبلغ.


كيف ستدبر البنوك الفوائد الدولارية؟

الدولارات التي سيودعها المصريون في الشهادات الدولارية الجديدة، ليست هبات، وإنما هي شهادات استثمارية، ينتظرون منها عائداً بالدولار يصل الى 9% فكيف ستدبر البنوك تلك العوائد؟

التقى رصيف22 بمدير أحد البنوك (طلب عدم ذكر اسمه) ليجيبنا على ذلك السؤال ويقول: "البنوك لن تقوم بتخزين هذة الدولارات، بل ستعيد تشغيلها عبر ربطها في شكل ودائع اليوم الواحد (يومي الجمعة والسبت) في أحد البنوك التجارية الدولية، أو تربطها في أذون خزانة، كالأمريكية مثلاً، قصيرة الأجل، وبذلك توفر هامش يمكنها من دفع الفوائد للمودعين".

يستطرد الرجل: "الحكومة تدرك جيداً أن حجم الدولارات الموجودة في البلد خارج الاقتصاد الرسمي أكثر من 20 ضعف ما هو داخل البنوك، وفي ظل أن الاحتياطي النقدي الأجنبي لديك أقل من 35 مليار دولار (ثلثهم تقريبا ودائع خليجية) وهذا رقم قليل على دولة بحجم مصر، فلا مناص من السعي لجمع الدولارات من الداخل، لذلك طُرحت الشهادات الدولارية".

يختتم مدير البنك حديثه ويقول: "ما أراه أننا أمام إجراء مؤقت سيحدث بعده تخفيض لقيمة الجنيه، وأتوقع أن يصل إلى 30% - من القيمة الحالية- لتسوية معدلات الفائدة العالية". المكسب هنا (حال إقبال المودعين على تلك الشهادات الدولارية) سيكون في نجاح الدولة في تدبير الدولارات التي تحتاجها على المدى القصير، فضلاً عن سحب أكبر كم ممكن من الأموال الموجودة خارج الاقتصاد الرسمي.

 كيف ستدبر مصر دولارات عوائد الشهادات في ظل أزمتها الاقتصادية؟

فرص نجاح الشهادات الدولارية

نظرياً نحن أمام عرض جيد، فبدلاً من أن تركن دولاراتك "تحت البلاطة"؛ ضعها في البنك، وتحصل على عوائد جيدة. لكن هل سيتحمس المواطنون لهذا الطرح؟

يمكن تقسيم حائزي الدولار إلى قسمين، قسم المستثمرين الذين يتعاملون في مبالغ كبيرة ومتوسطة من الدولارات، وأفراد يمتلكون مبالغ يمكن وصفها بالقليلة.

رجل الأعمال هشام عوف وصف لرصيف22 ما يحدث في السوق ويقول: "هناك حالة غضب حقيقي تعتري رجال الأعمال، فمن وجهة نظرهم ما يحدث عبث، إذ كيف تمنع الدولة المستورد من أن يدبر الدولارات اللازمة لتسيير عمله بنفسه، وتلزمه بالحصول عليها من البنوك وهو ما يعطل دورة رأس ماله (حال تدبير البنك المبالغ المطلوبة) وهو ما لا يحدث بسهولة، وفي الوقت نفسه ترحب بأموال مجهولة المصدر، إذا كانت موجهة لشراء تلك الشهادات الدولارية!"

أما القسم الثاني وهم الأفراد، فمن المنطقي أن يكونوا هم من تستهدفهم الدولة بتلك الشهادات، لكن لا يمكن التنبؤ باستجابة عموم المودعين لذلك العرض. في ظل خوف منتشر (يمكن رصده عبر وسائل التواصل الاجتماعي) من أن يضعوا دولاراتهم في البنوك، ثم يفاجأون بقرار جديد يمنع سحب تلك الدولارات.

لكن المصرفية نهاد جاد ترى أن قراراً مثل هذا من الصعب جداً اتخاذه، لأن "تبعاته ستكون كارثية"، على رأسها سيكون انسحاب جميع الشركات الأجنبية الكبرى من السوق المصري فوراً، فلا معنى لوجودهم إذا كانوا عاجزين عن إخراج أموالهم من البنوك.

بين أزمة اقتصادية طاحنة، وتقلبات إقليمية عنيفة، تقف مصر على حبل مشدود، ولا أحد يمكنه الجزم هل ستنجح الشهادات الدولارية الجديدة في أن تصبح جرعة منشطة، أم لا؟

لكن المؤكد أن الخلاص الحقيقي من تلك الأزمة لن يتم إلا بتعظيم مواردنا الدولارية، سواء عبر التصدير أو استقدام استثمارات أجنبية حقيقة، وهو ما يستوجب تغيّرات جمة، سواء في البنية التشريعية أو في فلسفة الدولة الاقتصادية… فهل سيحدث هذا؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image