الأجساد المتحاذية في الطرقات، والضحكات العالية الرنانة، والشجارات الصبيانية، والمؤازرة في أحرج اللحظات وأحلكها، كلها صور للصداقة حفرتها الأشرطة السينمائية في وجداننا. فغالبية حكايات الأفلام على تنوعها لا تخلو من صداقات بين شخوصها، بعضها عابر يلعب دوراً ثانوياً في الحبكة والبعض الآخر له وظيفة محورية.
يحفل تاريخ السينما المصرية بأعمال فنية كثيرة تأتي الصداقة في قلب سردياتها، سواء تلك المحملة بالذكريات أو غيرها التي تتشكل أمامنا على الشاشة، ففي الحالتين لا مفر من اختبارات الحياة وتقلباتها المفاجئة التي قد تحيل المحبة إلى عدواة مثل "الصعاليك" أو توطد أوصارها كـ"سلام يا صاحبي".
في يوم الصداقة العالمي، نتوقف عند مجموعة من الأفلام يحتمي أبطالها من الزمن بدفء الصحبة، حيث يُعرون مخاوفهم ويتشاركون الهموم والأحلام، ورغم الخلافات يبقى الرفاق هم دليل الرحلة وكنزها.
أيامنا الحلوة (1955): توليفة الأصدقاء المثالية
لم يكن فيلماً عادياً يضم مجموعة من الشباب، وإنما حالة سينمائية متكاملة حاول كثير من صناع الأفلام تكرارها فيما بعد. كان الفيلم الأول لمخرجه حلمي حليم، الذي تمكن من اختيار خماسي متناغم على الشاشة لتجسيد حكاية ميلودرامية تتسرب البهجة من بين ثناياها، ويغلب عليها التعاطف والتضحية.
في يوم الصداقة العالمي، نتوقف عند مجموعة من الأفلام يحتمي أبطالها من الزمن بدفء الصحبة، حيث يُعرون مخاوفهم ويتشاركون الهموم والأحلام، ورغم الخلافات يبقى الرفاق هم دليل الرحلة وكنزها
يمنحنا الفيلم في الدقائق الأولى تعريفاً سريعاً بشخصياته الرئيسية؛ طلاب الجامعة الثلاثة (عمر الشريف وعبد الحليم حافظ وأحمد رمزي) الذين يتشاركون السكن والظروف الاجتماعية الصعبة، والمستأجرة خفيفة الظل المتعاونة (زينات صدقي)، والفتاة اليتيمة (فاتن حمامة) التي قادتها الظروف للإقامة بجوارهم وصارت محور المنافسة والصراع بينهم.
قدم صناع الفيلم التوليفة المثالية لمجموعة أصدقاء في بدايات الشباب، حيث أحمد القائد الرزين وعلي المرح العاطفي ورمزي المُلاكم العابث، تجمعهم جلسات المذاكرة ومهام إعداد الطعام، وينخرطون في المناكفات والمقالب المضحكة، إلا أن الصداقة تختبر بحق حينما يظفر أحدهم بقلب الفتاة. لكن سرعان ما تزول الخلافات أمام مرضها، ويتحد الثلاثة لتدبير مصاريف علاجها الباهظة.
يقول أحمد رمزي في أحد الحوارات، إن الفيلم مقتبس من آخر أمريكي شاهده قبل إعداد النسخة المصرية بسنوات، قاصداً فيلم Three comrades إنتاج 1938 الذي تقع أحداثه بعد الحرب العالمية الأولى ويختلف في كثير من تفاصيله عن "أيامنا الحلوة"، وإن كان يتشارك العملان في إدانتهما للفقر وعوز الطبقات الكادحة.
حاول كاتب السيناريو علي الزرقاني إعادة تقديم الحكاية في فيلم "وداعاً للعذاب" إنتاج عام 1981، لكنه لم يستطع الاقتراب من النجاح المدوي الذي تحقق في منتصف الخمسينيات، وكان بداية انطلاق حليم ورمزي في السينما.
الأيدي الناعمة (1963): الصداقة في زمن ثورة تموز/يوليو
اقترنت سيرته باحتفالات عيد العمال وبات فيلمها الأيقوني على مدار العقود، لكن فيلم محمود ذو الفقار يقوم أساساً على علاقة صداقة بين رجلين ينتميان إلى عالمين مختلفين، ينشأ رابط بينهما من اللحظة التي يدركان فيها مدى تشابه حاليهما، فهما عاطلان عن العمل ومفلسان؛ أحدهما أمير جرد من ثروته ومكانته الاجتماعية (أحمد مظهر)، والثاني حاصل على دكتوراه في حرف الجر "حتى" ولا يجد مكانًا في الجامعة لتدريس تخصصه (صلاح ذو الفقار).
تبدأ أحداث مسرحية توفيق الحكيم، المقتبس عنها الفيلم، بلقاء الرجلين مباشرة وتجاذبهما أطراف الحديث الذي يكشف الكثير عن حياة كل منهما وعلاقته بالمجتمع من حوله، لكن تدريجياً يغوص النص الأدبي في تساؤلاته حول العلاقة بين العلم والعمل وأشكال الإنتاج في الدول الناهضة.
بينما يُفتتح الفيلم الكوميدي، الذي أنتجه القطاع العام السينمائي، بمجموعة مشاهد تستعرض ما آل إليه حال البرنس العاجز عن مواكبة تغييرات ثورة تموز/يوليو 1952، قبل تقاطع سبل الصديقين. حيث تركز غالبية أحداث النص السينمائي الذي كتبه يوسف جوهر على الصداقة وليدة تعاطف واحتياج كل منهما للآخر، فلا يهم الفوارق الاجتماعية واختلاف البيئات والطباع الحادة، فقد نشدا في بعضهما الرفقة والأنس.
يتشارك الرجلان في تعنتهما أمام متطلبات الحياة، وإن كان الدكتور أكثر واقعية بحكم نشأته من الأمير، يبحثان سوياً عن حل يوفر عليهما عناء العمل، لكن عندما يعرف الحب طريقه لقلبيهما يصبح التغيير حتمياً، ويبدآن رحلة البحث عن وظيفة. علاقة صداقة تتطور أمامنا، بكل ما فيها من مواقف مضحكة، وشد وجذب، وبالتأكيد دعم ومساندة.
أحلام هند وكاميليا (1988): العائلة التي نختارها
أوصاف عدة تطلق على سينما محمد خان، منها أن أفلامه تنحاز لمن يعيشون على هامش المجتمع، وتجيد تصوير حيوات النساء معبرة عنهن بصدق وحميمية، كذلك تلهث وراء الأحلام الهاربة من ضيق الواقع الذي شغله ورفاقه من مؤسسي تيار الواقعية الجديدة في ثمانينيات القرن الماضي. كل هذه الأوصاف تتجلى في فيلمه العذب "أحلام هند وكاميليا" الذي يدور حول صداقة خادمتين تبوح كل منهما للأخرى بحكايتها التعسة، وتتكآن على بعضهما في مواجهة القهر، وتختلسان سوياً من الحياة لحظات انتصار تتبخر سريعاً تاركة داخلهما رغبة في البقاء والمحاولة.
استلهم خان حكايته من خادمته ومربيته "هند" التي حفرت ملامحها وهيئتها في ذاكرته، حافظ على أصولها الريفية على الشاشة واختار لها "كاميليا" ابنة المدينة لتكون رفيقتها. تتشابه ظروفهما وإن تباينت التفاصيل، حيث تعيل كل واحدة أسرتها وتخضع لاستغلال رجل من ذويها يسرق قوتها ويمارس سلطته الذكورية لسلب حريتها.
تبدو هند (عايدة رياض) ساذجة وحالمة تبحث عن منقذ من مصيرها وعندما يأتي عيد (أحمد ذكي) في طريقها تراهن عليه رغم أن كل شيء يؤكد خسارتها للرهان، أما كاميليا (نجلاء فتحي) فلا تعلق آمالاً سوى على نفسها، تحلم بالاستقلال والعيش في غرفة صغيرة برفقة هند. تتقاذهما الحياة، تفترقان حيناً ويجمعهما القدر ثانية، فيزداد تمسكهما بهذه الصداقة.
تنجب هند، وتطلق كاميليا على الطفلة اسم"أحلام"، وتتشاركان في تربيتها بعد دخول أبيها السجن. يصبح الثلاث عائلة واحدة، صحيح لا تتوقف الحياة عن توجيه هجماتها لكنهما أيضاً لا تتوقفان عن الحلم أبداً.
ليه يا بنفسج؟ (1993): صحبة تنير عتمة الهامش
ثلاثة أصدقاء يعيشون في حارة على هامش المدينة الكبيرة، يناطحون الحياة العابسة بالبسمات الساخرة وبحفلات الغناء والسهر وبالصياح والغضب أيضاٌ، تتباين أحلامهم لكنها تقهر في بيئة خانقة تمارس سحرها على من يحاول تركها، فيعود إليها مهزوماً مهما طال الوقت، وكأن كتب على من ينتمون إليها الدوران في حلقة مفرغة.
يتماس الفيلم الأول لرضوان الكاشف مع أعمال سينمائية أخرى ظهرت في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي تغوص في عوالم البسطاء وتدين السلطة التي تغض الطرف عن معاناتهم. لكن الكاشف هنا يغلف واقعيته بأجواء مرحة تجعل عبثية الحياة محتملة، وتتماثل تماماً مع عنوان فيلمه المقتبس من أغنية "ليه يا بنفسج بتبهج وانت زهر حزين!" لبيرم التونسي.
يستدعي الكاشف في أحد المشاهد لقطة من فيلم "أيامنا الحلوة"، فيحيلنا للربط بين العملين لكن أبطال سرديته يعيشون واقعاً أكثر بؤساً من شباب الخمسينيات. نرى أحمد (فاروق الفيشاوي) في افتتاحية الفيلم عائداً بعد غياب إلى حارة محبطاً من فشله في الرحيل عنها، لكن ذلك لن يثنيه عن التمسك بالحلم وسيظل عالقاً بين العالمين؛ بين ما رآه خارج حدود حارته وما يعيشه في داخلها. أما صديقاه سيد (أشرف عبد الباقي) وعباس (نجاح الموجي) اللذان اعتادا الإقامة مع أحمد في غرفة عمته الطيبة، فأحلامهما تقتصر على متطلبات الحياة الأساسية أي يكون لهما سكن ومصدر رزق وشريكة حياة.
تمر صداقة الثلاثة باختبارات صعبة تلعب فيها النساء الدور الأساسي لكن يبقى الرابط الذي يجمع بينهم وثيقاً، لأن الحياة لم تمنحهم شيئاً سوى بعضهم بعضاً، أو كما يقول عباس: "دول هما اللي حيلتي في الدنيا".
أحلى الأوقات (2004): صداقة تلون حياة
كان "صعيدي في الجامعة الأمريكية"، الصادر عام 1998، علامة مهمة في تاريخ السينما المصرية تركت تأثيرها على الصناعة شكلاً ومضموناً، ومن بين الظواهر التي يمكن تلمسها في السنوات اللاحقة على إنتاجه، تقديم أعمال سينمائية عديدة تعتمد على تيمة الصداقة التي كانت أحد نقاط قوة حبكته مثل "أصحاب ولا بيزنس" و"صاحب صاحبه" و"شباب على الهوا" و"فيلم هندي" و"كلم ماما". لكن يظل "أحلى الأوقات، الذي يعد العمل الروائي الأول لهالة خليل مخرجة ووسام سليمان كاتبة للسيناريو، من أهم الأفلام المنتمية لهذا التصنيف وقد اكتسب مكانة خاصة بمرور الوقت.
تسرد هالة بحساسية شديدة علاقة صداقة تكونت في عمر الصبا، ودبت فيها الروح من جديد بعدما صار أطرافها نساء ناضجات تسير كل منهن في طريق. يحدث اللقاء بفضل صورة تضم ثلاثتهن بملابس الدراسة، وينطلقن معاً في رحلة بحث عن الشخص الذي يرسل لأحدهن صور وخطابات مجهولة، لكن المقابلات التالية تتخذ شكل مغامرات طائشة تلون حياة كل منهن وتنتشلها من رتابة حاضرها.
"فكرتوني بنفسي زمان، رجعت أحس بحاجات كنت نسيتها"، تقول يسرية (هند صبري) قرب نهاية الفيلم. تتأرجح الشابات الثلاث خلال الرحلة بين الحنين للصورة التي كن عليها ذات يوم بخفتها وبساطتها، والرغبة في اكتشاف الذات من جديد وإعادة ترتيب الحياة.
يحفل تاريخ السينما المصرية بأعمال فنية كثيرة تأتي الصداقة في قلب سردياتها، سواء تلك المحملة بالذكريات أو غيرها التي تتشكل أمامنا على الشاشة، ففي الحالتين لا مفر من اختبارات الحياة وتقلباتها المفاجئة التي قد تحيل المحبة إلى عدواة
فقد أدركت سلمى (حنان ترك) مدى انعزالها عن محيطها وحاجتها إلى فتح عينيها وروحها على العالم كما كانت في السابق. كذلك واجهت ضحى (منة شلبي) نفسها بحلم التمثيل القديم ولهثت ورائه بعد سنوات من محاولة التأقلم مع الواقع، صحيح أن النتيجة لم تكن كما تمنت لكنها على الأقل خاضت التجربة. أما يسرية المنهكة من مسؤوليات البيت والأطفال ومهام العمل أخذت تبحث عن مساحة للتنفس وشحذ الطاقة والوقوف عند احتياجاتها البسيطة من شريك حياتها.
يمنحنا الفيلم فرصة للتقرب من صداقة حقيقية بين ثلاث نساء يغرقن في حكايات النميمة، ويتجاذبن الحديث حول الرجال، ويسخرن من بعضهن، بل ويحدث أحياناً أن تغير أحدهن من الأخرى دون أن تتغير المحبة في القلوب.
علي معزة وإبراهيم (2016): التقبل شرط الصداقة
في فيلمه الروائي الأول، يختار المخرج شريف البنداري أن يسرد حكاية شابين من حي الدرب الأحمر العتيق، لكن تهميشهما يتجاوز الطبقة الاجتماعية البسيطة التي ينحدران منها، وينصب على معاناتهما مع المجتمع المحيط. حيث يرسم السيناريو، الذي كتبه أحمد عامر عن قصة لإبراهيم البطوط، ملامح شخصيتين منبوذتين تتكون بينهما صداقة تغير حياتهما وتحدث انقلاباً في عالمهما.
يبدو الاثنان وكأن بهما مسًاً من الجنون، وذلك لأن علي (علي صبحي) يرتبط عاطفياً بمعزة يدللها كما يفعل المحبين، أما إبراهيم (أحمد مجدي) يستمع إلى أصوات غريبة تصيبه بتشنجات حادة. تجمعهما رحلة بناءً على نصيحة معالج روحاني للخلاص من مأساتيهما، فيصبح الطريق فرصة لأن يكشف كل منهما عن خبايا نفسه، ويستشعر بأن هناك من يتقبله رغم ما هو عليه.
وحينما تتوطد الصداقة، يتمكنان من تخطي المخاوف ومواجهة ماضيهما المثقل بخسارة الأحباب؛ إذ فقد علي خطيبته في حادث واعتبر أن روحها سكنت المعزة، بينما حُرم إبراهيم من دفء الأسرة بعدما أنهت والدته حياتها بفعل الأصوات وهجره والده، وقد ألقى باللوم على آلة العود التي تزامن عزفه عليها مع وقوع أحداث أليمة.
يخلط الفيلم واقع قصته بالخيال، ويفتح مساحات مختلفة للتماهي مع غرائبيتها من خلال الصداقة الحافلة بمواقف عبثية تثير التأمل وترسم ابتسامات على الوجوه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون