شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
عن الصداقات التي نبنيها فتبنينا، أو نكسرها فتكسرنا

عن الصداقات التي نبنيها فتبنينا، أو نكسرها فتكسرنا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الجمعة 28 أبريل 202303:01 م

نتغنّى بأنّ في مجتمعاتنا الصغيرة المعلّبة والجميلة حياة وذكريات وحبّ وصداقات صدوقة لن يعرفها المجتمع الغربي ولن يدركها ولو عاش ناسه قرون. نفخر أن، في أحيائنا الرمادية بفعل المباني، مشاريع الحلم التي توّقف البناء فيها وبقيت جدرانها عارية بلا توّرق ولا دهان، تنتظر الفرج المؤجل صيفاً آخر، واعداً بالسياحة والازدهار، نفخر بأننا التقينا في تلك الأحياء أبناء وبنات أعمامنا وأخوالنا وعماتنا وخالاتنا الذين كانوا أصدقاءنا الأوائل، ولو صدّونا أمام أصدقائهم الآخرين، ولو عيّرونا بأسرارنا التي كشفتها لهم تلك الجدران الهزيلة نفسها، ولو تعاركنا وإياهم وشددنا خصل شعرنا بدل أن ندع كلماتنا المسننة تمّسهم، ما زالوا هم أصدقاؤنا وأخوتنا وأحبّتنا، وما زلنا نقيس الصداقة على مقياسهم ونقيّمها وخيالاتهم تلوح في أفق ذكرياتنا، يرسمون لنا الحواجز على ضرورتها ويذكّروننا بالفارق بين معرفة وزميل وصديق وأخ وعزيز وأنيس الروح.

في طفولتي، كان أخي وأختاي أفضل أصدقائي اللدودين، أضف إليهم أولاد العائلة والجيران، باختصار، لم تكن صداقات الطفولة بالنسبة لي عملة نادرة، وإن كان لديّ بالطبع أصدقاء فضّلتهم على غيرهم ومجموعة شعرت معها بالراحة من دون عبء أو جهد. في المدرسة الخاصة، ظلّت الصداقات محدودة في إطار المدرسة والرحلات القليلة السنويّة التي لم نكن من صلبها دائماً.

هناك من أتحيّن الفرصة لأسمعه لأني أتعلّم منه، وهناك من يغبطني فرحه فلا أعود أميّز ابتسامته عن ابتسامتي، وهناك من أشجعه أو أوقظه من سباته فأكلّمه كنفسي وتضيع الأنا من يدي وتلتحم معه لتصبح نحن

انعكس الحال في المدرسة الثانوية والتي كانت رسميّة، فهناك وسّعت من دائرة معارفي وأصدقائي، وتعرّضت لشتى أنواع الناس، وبدأت أفهم أساسيات استراتيجيات العلاقات التي يمارسها بعض الطلاب والطالبات من أجل النجاح بسهولة والحماية بالتستّر والهرب من مسؤولية الواجبات المدرسية، أو لرسم صور مغايرة لأمسياتهم التي يقع ضحيتها أهلهم الغافلون عن حقيقة أولادهم وأصدقاء أولادهم. بالطبع حصلت على صداقات قويّة لم تهزّ جماليتها السنوات، وإن انتهت مع انتهاء المدرسة وتفرّق الأصدقاء.

في سنوات الشهادة الجامعية الأولى والثانية، استمرت رحلة تعلّمي عن نفسي والناس والعالم في اتجاهها الأفقي، من خلال الكثير من الصداقات الغريبة العجيبة والتي كانت الأكثر تمايزاً حتى هجرتي إلى القارة الأميركية. كان لديّ زملاء أكبر سناً مني بعشر سنوات أو أكثر، وحبكت صداقات قويّة مع الجنس الآخر.

أحببت صداقاتي مع الشبان بسبب اختلاف ديناميكية العلاقة بيننا، ولأن الرجال، بحسب خبرتي، كانوا أبسط في التعاملات العاطفية والعملية، ولا يؤولون الحديث ولا يمطّون بالشرح ولا يسترسلون في التفاصيل.

كان من المهم بالنسبة لي ان أكسر الصورة النمطية للصداقات بين الجنسين، وأن يكون لديّ بالفعل صديق شاب أو أكثر ليسوا مهتمين بجسدي إنّما بعقلي. وجدت أنني أبذل الجهد للحفاظ على العلاقات التي كوّنتها ولريّها حتى تكبر وتستمر. هذا الجهد كان أحياناً من طرف واحد، وبالفعل لم تستمّر تلك الصداقات طويلاً حين رددتُ يدي عن ريّها. أيضاً أردت أن أمتحن واقعي وحاولت كسر قالب نمطي آخر، وهو أنّ الصداقات بين البنات غالباً لا تطول إذ تشوبها الغيرة والحسد.

لم أتيّقن ذلك في صداقاتي، فإن كان للغيرة والحسد مكان فقد كان عادة للبنيان وللحض على الحماسة والعمل، وإن كان حسداً بالمعنى السلبي فهو كان حالة مؤقتة عابرة لم تترك سموماً ساهية.

لم أعش الكثير من الدراما في صداقاتي، وهي صورة نمطية أخرى سائدة في الصداقات الأنثوية، فقد وجدت أنّ جلّ ما يريده الصديق هو تقبّله على سجيته من دون محاولات تغييره أو قولبته على شاكلتك، مع ضرورة النمو مع الصديق وتقبّله لو أراد أن يتغيّر أو لو تغيّر بفعل أي عامل. قليل من الاهتمام وكثير من الحب والإصغاء هو ما يتمّناه أي صديق، وبالفعل كانت تلك تجربتي. كان وما زال لدي ترتيب للصداقات، فهناك من أتحيّن الفرصة لأسمعه لأني أتعلّم منه، وهناك من يغبطني فرحه فلا أعود أميّز ابتسامته عن ابتسامتي، وهناك من أشجعه أو أوقظه من سباته فأكلّمه كنفسي وتضيع الأنا من يدي وتلتحم معه لتصبح نحن.

لاحظتُ بقاء شكل معين من الصداقات لدي، وهي ما أدعوها بصداقات الإنقاذ، ربما لأني كنت في محاولاتي لانتشال أصدقائي من بؤر مشاكلهم مهما تنّوعت أعبّر عن حاجتي الشخصية إلى إنقاذ نفسي مثلاً؟

لاحظتُ في تلك الفترة وحتى اليوم بقاء شكل معين من الصداقات لدي، وهي ما أدعوها بصداقات الإنقاذ، ربما لأني كنت في محاولاتي لانتشال أصدقائي من بؤر مشاكلهم مهما تنّوعت أعبّر عن حاجتي الشخصية إلى إنقاذ نفسي مثلاً؟

منذ بداية حياتي المهنية مع أول وظيفة لي في السابعة عشر من عمري، اختلفت موازين الأولويات وأصبحتُ أكثر انتقائية في صداقاتي، فكأنني أدركت حينها حدود وسعة الوقت والجهد الذي كنتُ راضية في استثماره في هذه الصداقات. استمّرت صداقاتي مع الكثير من الناس الذين عايشتهم في فترة ما في حياتي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأحسست بأن صداقتي مع أولئك أصبحت صورية، لا تخرج من حيز التعليقات المحدودة والاختزالات المشفرة عبر استخدامنا للرموز الانفعالية، كالوجوه المبتسمة والغاضبة والحزينة.

لم يشبهني ذلك العالم الافتراضي الحسي المقولب المحدود، فتخلّيت عنه، وبطريقة ما أيضاً عن تلك الصداقات التي ظلّت عالقة في ذلك الحيّز، وتلك اللغة وآلاف الصور التي رفضت الانصياع إليها.

بعدما واجهني الكثير من الناس المتعجّبين من قراري الشخصي بمزاولة حياتي الفعلية فقط والتخلي عن وسائل التواصل الاجتماعي، وبعد مطالباتهم بتفسيرات حيال التوقيت والأسباب الذي دفعتني إلى اتخاذ قراري، وجدتُ نفسي متّهمة بالتخلي عنهم ورفضهم الرفض القاطع. بذلت جهداً في شرح موقفي، ما أخذ مني المزيد من الوقت الذي كنت نويت أن أستخدمه لأمور بعيدة كل البعد عن هذا العالم الذي استنزفني أصلاً. تلك المحادثات والتي كان بنيانها العتب، أوضحت لي أنّ الكثير من الناس ما زالوا على الأغلب مهتمّين بصداقتي إنما يفضّلون أن أسهّل الأمور عليهم لا أن أعقّدها.

بعد هجرتي إلى الولايات المتحدة، أصبحت صداقاتي تُغربل أكثر من أي وقت مضى، وخصوصاً أنني أصبحت أسافر مرة واحدة في السنة إلى بلدي، لشهر أو لسبعة أسابيع، وتسافر معي لائحة طويلة ودقيقة بكل الأماكن التي أرغب بزيارتها، والناس الذين أتطلّع لتمضية الأوقات معهم، ونوعيّة الذكريات التي ألتمسها. هذا الوضع أجبرني على المزيد من الانتقائية وأحياناً كنتُ مكرهة على حصر نفسي بصداقات تعّد على اليد الواحدة وتترك نفسي الظمآنة توّاقة إلى المزيد من الأوقات الممتعة معهم.

لم أعش الكثير من الدراما في صداقاتي، وهي صورة نمطية أخرى سائدة في الصداقات الأنثوية، فقد وجدت أنّ جلّ ما يريده الصديق هو تقبّله على سجيته من دون محاولات تغييره أو قولبته على شاكلتك

الصداقات عبر الاختلافات الثقافية كان حالة خاصة ومميزة، فبين الأصدقاء العرب الجدد الذين يلتحمون معك في الكثير ويختلفون أيضاً في الكثير، وجدتُ شوقي إلى عادات وتقاليد وكلمات ومصطلحات وقيم كنتُ نسيت أهميتها عندي، وأخرى جديدة تبنّيتها بعد تفكير.

ثم جاءت الصداقات الأمومية، وهي الصداقات التي تجد الأم نفسها مضطرة على تشكيلها ليتسنّى لولدها الفرص في اللعب مع الأولاد الآخرين من نفس الفئة العمرية، تلك الفرص التي أصبحت أكثر قيمة وندرةً في المهجر، بسبب غياب العائلة الممتدة والصداقات الطبيعيّة (الأوتوماتيكية) مع الأولاد في العائلة والحي. سبّبت تلك الصداقات أرقاً حقيقياً لي، لأن قالب الصداقة ذاك لم يحظ بالأساس المتوّجب لتشكيل أي صداقة، وهو غياب المصلحة الشخصية، بالأخص بصورة مباشرة لا تقبل التأويل كتلك.

وجدت نفسي محتارةً، حبيسة الميزان الأخلاقي المتأرجح في رأسي. في نهاية المطاف لم تستمر أي من تلك العلاقات، وأرجّح السبب إلى كون الأساس ناقصاً من الأصل، وإلى واقع أني وتلك الأمهات لم نجد أنفسنا في تلك الصداقات الباهتة أصلاً، ولما انتهت المصلحة انتهت الصداقة.

ثم جاءت جائحة كورونا لتسرق المزيد من الفرص أمامي ولكي تعيد تحديد الأولويات من جديد. هذا بالإضافة إلى توّسع أسرتي النووية التي تتطلّب الكثير من العناية والصبر. هذان السببان ساهما في المزيد من الغربلة والانتقائية. مع مرور الوقت والعمر، يكتشف الإنسان ضرورة الأولويات وكيفية ترشيد الوقت والجهد وأصالة المعدن من لمعته. اليوم لي قلّة قليلة من الأصدقاء الأمريكيين، الذين أشعر بأنني نفسي كلياً في حضرتهم، ولديّ أصدقاء معظمهم من لبنان والبلاد العربية وأميركا اللاتينية لتشابه الثقافات والقيم بيننا، ولديّ الكثير من الأصدقاء الأصليين الذين قبعوا من أراضيهم وغرسوا كالبركة على وجه الأرض. أولئك أراهم قلّة قليلة من الوقت ولكن في كلّ مرّة نجتمع ولو مرّة في السنة نجد أنفسنا منتظرين استكمال الحديث حيث توّقف.

إلى أولئك الأصدقاء، وإلى أولاد وبنات أعمامي وعمّاتي وخالاتي وأخوالي، أصدقاء الروح الأوائل، نخبنا!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard