شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
حزب الله وانتفاضة 17 تشرين... نُذُر الأسبوع الأول

حزب الله وانتفاضة 17 تشرين... نُذُر الأسبوع الأول

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن وحرية التعبير

الأحد 16 أكتوبر 202212:04 م

في خطابه الأخير قبل يوم من سقوطه، قال زين العابدين بن علي كلمته الشهيرة: "فهمتكم"، كررها مرتين ثم، في الثالثة، أضاف: "فهمتُ الجميع". انتبه الرئيس التونسي الأسبق إلى ما كان يقوله المنتفضون وفهِمَه بعد 28 يوماً من اندلاع الاحتجاجات في بلده.

حسن نصر الله قالها بعد يومين فقط من انتفاضة 17 تشرين، في العام 2019. قال: "وَصَلت الرسالة"، واصفاً الحركة بأنها "عفوية وصادقة" واحتجاج على فرض رسوم جديدة على "الفئات الفقيرة". وأضاف أن "لا أحد يقف خلف المظاهرات ولا توجد سفارات" (19 تشرين الأول/أكتوبر). فقط قبل نهاية الخطاب حذّر من "حرف الحراك من مطلبي اجتماعي إلى سياسي".

واقع الحال أن الانتفاضة التي أشعلتها الضريبة على الواتساب، مساء الخميس في الـ17 من الشهر، لم تكن مطلبية اجتماعية، ولا حتى انتفاضة فقراء. "الفقراء" الذين نزلوا ذلك المساء وصباح اليوم التالي إلى الشارع من خندق الغميق قرب جسر "الرينغ"، ومن الضاحية والجنوب، جرى سحبهم أو قمعهم. وبقي في الشارع شبان الطبقة الوسطى.

من أصل 657 مادة توثيقية (صور وفيديوهات) جُمعت طوال يومي 20 و21 تشرين الأول/أكتوبرمن 12 منطقة احتجاج في لبنان، لم تكن في الشعارات والهتافات المطروحة المتكررة أي مطالب اجتماعية اقتصادية. حتى مصرف لبنان وحاكمه لم يظهرا إلا مرتين. ولم يكن بعد قد راج تعبير "الأوليغارشية". الشعارات كانت في 97% منها سياسية صرفة، عنوانها "كلن يعني كلن". أما التفاصيل فلا تُحصى، تشمل أهل الحكم بالجملة والمفرق، الحكومة والمجلس، بالاسم ومن دون أسماء. والتهم غزيرة: حرامية، زعران، فاسدون، منافقون، إلخ. والمطلب "ارحلوا".

كان نصر الله يعرف تماماً ماذا حصل مساء الخميس ويومي الجمعة والسبت، ويعلم أن شتم جبران باسيل على وقع لحن أغنية مصطفى يا مصطفى انتشر كالنار في الهشيم وأن هذه شتيمة سياسية، وأن الشعار الرئيسي "كلن يعني كلن/ فليرحلوا" هو شعار سياسي. الرسالة التي فهمها هي غير الرسالة التي أعلن أنه فهمها. لكنه لم يتمكن من متابعة كتم ما يريد أن يقول فأنهى خطابه برسالة سياسية قصيرة وعالية النبرة قائلاً: "العهد ما فيكن تسقطوه...لن نسمح بإحراق هذا البلد".

من أصل 657 مادة توثيقية  جُمعت طوال يومي 20 و21 تشرين الأول/أكتوبر، لم تكن في الشعارات والهتافات أي مطالب اجتماعية اقتصادية

الرواية والبلطجة

إبان انتفاضة 25 كانون الثاني/ يناير في مصر، اعتمد الحزب الوطني الحاكم الرواية المعروفة لدى الأنظمة الاستبدادية: مَن كان ضد الحكومة يكون ضد الوطن، ويكون خائناً (أو عميلاً) أو مجرماً. قيل عن خالد سعيد الذي قضى تحت عنف الشرطة إنه "عاطل الإسكندرية" و"شهيد البانجو" (مخدرات) واتُّهم بحيازة السلاح والتحرش بأنثى والهروب من الخدمة العسكرية. أما محمد البرادعي الذي كانت الحكومة المصرية قد أصدرت في العام 2005 طابعاً بريدياً باسمه احتفاء بمنحة جائزة نوبل للسلام، فقيل عنه بعد تأييده لثورة يناير إنه "عميل لأميركا وكان سبباً في حرب العراق". ووُصفت الدعوة إلى مظاهرة 25 يناير بـ"المؤامرة على مصر لتخريبها لتكون مثل لبنان والعراق". هذه الرواية كانت تبث في وسائل الإعلام الرسمية بطرق متعددة وبصورة منتظمة. وأنشأ الحزب الوطني الحاكم منصات إلكترونية مضادة. ونفخ إعلاميا في فكرة "إما أنا أو الفوضى" وفي فكرة أن الديمقراطية توصل الإخوان المسلمين إلى الحكم.

وكان لا بد من السيف إلى جانب القلم، بحسب تعابير ابن خلدون. وتعتبر "موقعة الجمل" أكثر المشاهد تمثيلاً للعنف الجسدي. فقد شن الموالون للحزب الوطني الحاكم هجوما في 2 شباط/ فبراير 2011 على المعتصمين في ميدان التحرير بقصد إرغامهم على إخلاء ميدان التحرير. تكوّن المهاجمون من قوى أمنية نظامية ومن مئات "البلطجية" المرتزقة الذين استأجرهم بعض المتمولين الموالين (قيل مقابل 400 جنيه لكل منهم) ومن مجرمين أطلقتهم قوى الأمن من السجون. واستعمل هؤلاء الرصاص وقنابل المولوتوف الحارقة ورموا المتظاهرين بالحجارة التي كانت تفرغها شاحنات لهم، وألقوا عليهم قطعاً من الإسمنت من سطوح البنايات، وكان بعضهم يركب الخيول والجمال والبغال ويحمل سيوفاً يردي بها مَن يطاله، على طريقة الحروب في القرون الوسطى وفي الأفلام.

في لبنان، لم تكن الحكومة هي التي ركّبت رواية المؤامرة على المحتجين، ولا قواها الأمنية هي التي شنت الغارات عليهم. بل أظهر المشهد اللبناني أن حراس النظام السياسي، البلطجية وصانعي الرواية، يوجدون في مكان آخر.

يوم الأحد في 20 تشرين الأول/ أكتوبر، نشرت جريدة الأخبار اليسارية المقربة من حزب الله الصورة التالية عما حدث في اليومين السابقين:

"مساء الجمعة... مسؤولون وعناصر حركيون مسلحون نزلوا إلى طريق الزهراني- صور وفتحوا الطرقات بالقوة، مطلقين النار في بعض الأماكن لتفريق المتجمعين. وفي النبطية، صدّوا بالقوة المتجمهرين أمام منزل النائب ياسين جابر ولاحقوا المتظاهرين في شوارع المدينة، ولا سيما أمام مبنى السرايا، حيث فرّقوا الحشد واعتدوا على البعض بالضرب... إلا أن الغليل الأخضر لم يشفَ من تجرؤ بعض أبناء الجنوب على التطاول على حامل الأمانة واتهامه بالفساد والسرقة. دعوا قبل ظهر أمس إلى تجمع استنكاري عند مستديرة الاستراحة في صور. منذ شيوع خبر التجمع، انسحب المئات من المتظاهرين من شوارع المدينة، منعاً للاحتكاك بمناصري أمل. في مشهد مهول تقدمه النائب علي خريس ومسؤولون ورؤساء بلديات. تجمّع المئات من الشبان والنساء والأطفال حاملين الأعلام اللبنانية ورايات أمل. من حولهم، التفّ عشرات المسلحين يرتدون بدلات عسكرية ويهتفون ‘لبيك يا نبيه’. خريس، الذي خطب بالمسيرة، وصف مَن تَطاول على بري بـ‘العملاء والخونة’. المسلحون ساروا في تظاهرة مرت من أمام مكتب خريس الذي شهد أول من أمس تجمعات احتجاجية... ولاحق بعضهم فلول المتظاهرين واعتدوا عليهم بالضرب بالعصيّ. اكتمل المشهد... بانتشار قناصة على أسطح بعض المباني وتنقُل سيارة رباعية الدفع ثُبت فوقها رشاش ‘بي كا سي’، بين العباسية وصور. مشهد كان كفيلاً بشل الحركة في المدينة وإقفال المحال واختفاء المتظاهرين".

كانت تلك طلائع البلطجة. أما الرواية فيجب جمع عناصرها من الجريدة نفسها ومن خطب حسن نصر الله.

الفصل الأول: الفقراء ضد أصحاب الثروات

المنتفضون، بحسب الجريدة، هم الفقراء. فالاحتجاجات قامت ضد "كل السياسيات الحكومية الممعنة في إفقار الفقراء". ونبش أحد كتابها في عدد الأحد في 20 تشرين الأول/أكتوبر هتافا يقول "هاي هيي وهاي هيي/ بدنا ثورة طبقيّة". وعيّن كاتب آخر المسؤول عن سياسة الإفقار بالاسم: "تكاد الجريمة السياسية والاقتصادية الحريرية المتمادية أن تصير كاملة"، "الموضوع الأصلي، كان ولا يزال، في جوهره، هو موضوع السياسات والخيارات الاجتماعية المنحازة لأصحاب الثروات على حساب الشريحة الأعرض من الناس. والمسؤولية عن هذه السياسات التي أوقعت بالبلد وأفقرت مواطنيه وأذلّتهم، تقع أول ما تقع على عاتق الحريري وتياره السياسي العريض ومن ضمنهم الشركاء من مقاولي السياسة ومحترفي السرقة". أما بخصوص الشركاء في منظومة النهب فيشير الكاتب إلى "وجهها الأقبح، وليد جنبلاط".

لا يصح النظر إلى الانتفاضة اللبنانية كأنها فيلم سينمائي له بداية ونهاية. هي أقرب إلى أن تكون حركة اجتماعية عميقة، تتجاوز حتى أبطالها وأبطال خصومها. فقد خلخلت في سيرورتها المجتمع السياسي... كأنها زلزال له ترددات لاحقة عديدة

لن نجد خلال الأسبوع الأول من الانتفاضة في الجريدة أي إشارة إلى الأحزاب الأخرى المشاركة في الحكومة والحليفة لحزب الله، لجهة المسؤولية عن السياسة الاقتصادية التي قامت على "النهب والسرقة". أما عن الواتساب، فكانت الجريدة قد نشرت في اليوم الأول من الانتفاضة أن الوزير شقير (المحسوب على الحريري) "اقترح (وضع رسوم على الواتساب) ووافقه مجلس الوزراء مجتمعاً" (17/10). أي أن حزب الله وافق على فرض الضريبة. لكن الجريدة ما لبثت أن "صححت" الخبر بما يتسق مع الرواية، فقالت في اليوم التالي "هذا الأمر نفاه نواب ووزراء حزب الله" ونقلت أن حسن فضل الله، أحد نواب الحزب، وصف القرار بأنه "تهريبة". بل ورد في الجريدة أن القرار اتُّخذ ضمن صفقة تمّت "من تحت الطاولة".

شعار "كلن يعني كلن" الذي ضجت به الاحتجاجات طوال ذلك الأسبوع من الانتفاضة لم يرد إلا مرتين في المقالات الـ97 التي نشرتها جريدة يسار السلطة عن الانتفاضة بين 18 و25 تشرين الأول. في الأولى جاءت بصيغة أن "الجماهير، مشحونة بالعدائية ضد الجميع". وفي الثانية، في نهاية الأسبوع، باعتبار أن: "التعميم الخبيث (كلن يعني كلن!) هو من أخطر ما يواجه الحراك ويتهدّده".

الفصل الثاني: القوات

استقال وزراء حزب القوات اللبنانية الأربعة من الحكومة مساء السبت في 19 تشرين الأول/ أكتوبر. في اليوم التالي ركّز مقال نشرته الجريدة بعنوان "محاولة فرض وصاية على الشارع المسيحي" على إظهار مسعى القوات إلى "اختراق التحركات الشعبية، ومحاولة توجيهها بما يخدم توجهاتها السياسية، لا سيما إذا كانت من دون قيادة... فتسعى لفرض نفسها قائدة الانتفاضة". مشاركة القوات (والكتائب) تستهدف "المقاومة اللبنانية وسلاحها لحرف الانتفاضة الشعبية عن معركتها الأصلية مع هذا النظام". قدمت القوات اللبنانية مادة دسمة للحزب والجريدة في كتابة الفصل الثاني من الرواية.

وفي هذا السياق، رسم النائب حسن فضل الله المشهد قائلاً إن الموجودين في الشارع ينتمون إلى حراكَين: حراك وطني عفوي نزل إلى الشارع للتعبير عن مطالبه، وحراك سياسي تقوده القوى التي تريد رأس العهد، وهذا تقوده القوات. وتوسع مقال نشر في 24 تشرين الأول/ أكتوبر في شرح هذا المشهد متهماً "القوى التي خرجت من الحكم بفعل ضعفها أو بفعل أخطائها السياسية أو تلك التي تخرج بحثاً عن موطئ قدم من أجل العودة بقوة إلى المعادلة، تتصرف الآن وكأن الشارع يعمل تحت إمرتها. وهو حال حزب الكتائب والقوات اللبنانية والحزب الاشتراكي ومجموعات تعمل بتمويل وأجندة سعودية كالتي يمثلها ريفي وبعض المجموعات في بيروت".

أما توفير التتابع بين الفصلين الأول والثاني من الرواية فأمْرُهُ كان سهلاً: حزبا "القوات والكتائب من أنصار السياسات النيوليبرالية وتحالفاتهما السياسية معروفة وعلنية".

الفصل الثالث: أنا أو الفوضى

في الـ25 من الشهر نفسه، أي بعد ستة أيام من اندلاع الانتفاضة، ألقى نصر الله خطاباً خصصه بالكامل لموضوع الانتفاضة (ساعة وعشرة دقائق)، تمحور حول نقطتين.

في النقطة الأولى دفاع عن الحكومة. فالورقة الإصلاحية التي وضعتها الحكومة هي "خطة جيدة على الطريق الصحيح"، وللمرة الأولى منذ عشرات السنين تم إقرار موازنة "خالية من الضرائب والرسوم" وبعجز "يساوي صفر فاصلة كذا". وحصلت هذه العجيبة نتيجة "التعاون والنقاش الجدي بين كل مكونات الحكومة"، التي وضعت أيضاً لائحة من مشاريع القوانين تتعلق باسترداد الأموال المنهوبة وغيرها.

لن نجد خلال الأسبوع الأول من الانتفاضة في الجريدة أي إشارة إلى الأحزاب الأخرى المشاركة في الحكومة والحليفة لحزب الله

لكن الانتفاضة مشبوهة، هذه هي النقطة الثانية. قال إن "تسخيف" الورقة الإصلاحية فيه "شبهة"، وإن شعار ارحلوا (كلكن) يُقصد به "الذهاب إلى الفراغ"، كذلك إجراء انتخابات نيابية مبكرة، موضحاً أن "تعطيل الانتخابات النيابية لمدة سنتين" الذي يعزوه الحزب لنفسه "ليس فراغاً". كذلك، قطع الطرقات الذي يقوم به المنتفضون هو تخريب، موضحاً أن "قطعنا للطرقات" سابقاً كان على العكس من ذلك "لتحقيق مطالب محقة". وفي ما يخص شعار "إسقاط النظام" فهو ليس تعبيراً عن الناس، بل عن "أحزاب وتجمعات وشخصيات وأطر معروفة" يسير خلفها المتظاهرون. ثم أضاف: "لم نعد أمام حراك، هناك قوى سياسية تركَب الحراك"، و"هناك إدارة وتنسيق وهناك جهات تموّل". وفي الدقيقة 46 من الخطاب لخص السيد الوضع وصنّف المحركين في خمس فئات، واحدة نظيفة والباقية متهمة: 1، وطنيون، 2، أحزاب سياسية مشاركة في السلطة ثم استقالت، 3، تجمعات مرتبطة بسفارات أجنبية، 4، شخصيات فاسدة، 5، باحثون عن تأثير سياسي تمهيداً للانتخابات". وحزب الله وحده يعلم ويميز الوطنيين عن غيرهم، قائلاً: "لدي أسماء حول كل هذه الفئات".

مع هذا القدر من الاتهامات، أصبح ممكناً القول إن هناك مؤامرة، وإن "وراء الأكمة ما وراءها". هكذا وضع نصر الله حزبَ الله في موقع يشبه موقع الحزب الحاكم، القوة المؤهلة للحفاظ على النظام السياسي. وبهذه الصفة قال: "الورقة الإصلاحية ليست وعوداً بل هي للتنفيذ"، و"لن نسمح بالتسويف"، و"لا نقبل باستهداف العهد... لا نقبل بإسقاط العهد وإسقاط الحكومة... نحن نحمي البلد.. من الحرب الأهلية...". انتقلت الانتفاضة في جلّها في الفصل الثالث من الرواية من منطقة الاحتمال (حراك الفقراء) إلى منطقة اليقين (المؤامرة والفوضى).

المفارقة

إقحام حزب القوات اللبنانية في الرواية أوقعها ظاهراً في مفارقة: بين خطاب حماية البلد من الحرب الأهلية وخطاب التحريض (ضد القوات) الذي يفتح الباب على الحرب الأهلية. ذلك أن حزب القوات هو حزب مسيحي بامتياز، وحزب الله حزب شيعي بامتياز. كل له جماهيره، وكل له سلاحه وأمواله. واقع الحال أن هذا الخطاب له وظيفة أخرى هي الأوْلى بالأهمية في السياق الذي نحن فيه: التعبئة داخل الطائفة. هو خطاب مفيد للطرفين سياسياً. وثمرة هذه التعبئة، في ما يعنينا هنا، الاستثمار السياسي في الانتفاضة، معها (القوات) وضدها (حزب الله). لذلك لم يحدث شيء في بيروت، على خطوط التماس بين ساحتيها، الشهداء ورياض الصلح، من جهة وساحة الصيفي، امتداداً نحو الزلقا والأوتوستراد الساحلي وصولاً إلى جونية، من جهة ثانية. ما حدث وما سيحدث لاحقاً يقع في عمق الساحات نفسها، وليس على حدودها.

في ساحات النبطية وصور، جرى القمع على طريقة البيت الداخلي، حيث الجميع يعرف الجميع. فيها تناولت التهديدات الشخصية للمشاركين أملاكهم وأرزاقهم ووظائفهم، والتخويف بالفضائح العائلية، إلخ. ومَن عصا اعتُمد معه أسلوب اليومين الأوّليْن. وتُركت فسحة ليسار السلطة للبقاء في الشارع مع الالتزام بالأدب: أدب عدم الشتم عامة، وعدم شتم "القامات" الشيعية أمثال نصر الله وبري وغيرهما من الأسماء.

مع الافتراق بين الخطاب المناهض للقوات والكتائب من جهة وتجنب التماس معهما في ساحات بيروت من جهة أخرى، كان من الضروري على حرس النظام أن يفتشوا عن حجة أخرى لقمع الانتفاضة. وظهرت علامات هذا البحث في الخطاب الثاني لنصر الله في الـ25 من الشهر. فيه كرر مطالبة المحتجين بتشكيل قيادة: "أما آن الأوان لقيادة الحراك أن تظهر؟ أين هذ القيادة؟ يجب أن يجدوا مَن يمثلهم. فلتعلن القيادة الحقيقية عن نفسها". المشكلة نفسها شغلت بال الحزب الحاكم في مصر والمخابرات. كانوا يريدون أن يقتنعوا أن الأمر من تدبير جهة ما، الإخوان المسلمين مثلاً، لكن الوقائع كانت تكذب هذا التصور. لذلك كان السؤال الذي يطرح على المعتقلين: مَن محرككم؟ مَن هو القائد؟

الغموض التنظيمي في الانتفاضة اللبنانية سبب قلقاً بالغاً لأحزاب السلطة في لبنان وغيره من البلدان، وجرى تفريغ القلق عن طريق تجاهل القضية الأصلية والإمعان في تغذية الطابع الأسطوري للرواية تسويغاً للعنف الجسدي 

كل تحرك جماهيري هو بنظر الأحزاب الحاكمة، كما بنظر المخابرات، وراءه جهة ما وتسيّره قيادة وهو منظم في هيكلية. لكن انتفاضة 17 تشرين 2019 مثلها مثل سائر الانتفاضات العربية والعالمية في العام 2011، لم تكن كذلك. كانت شبابية، قامت على شبكات افتراضية وتحركات على الأرض. كان سرها رفضها للهيكلية والقيادة وأساسها غضب عارم ونقمة على النظام والأحزاب السياسية الحاكمة، والرغبة الجامحة بالتغيير. قامت على نموذج "أفقي" في التنظيم، أو "رزامي" (Rhizomatic) بحسب نظرية جيل دولوز وفيليكس غاتاري، اللذين استعارا التعبير من بيولوجيا النباتات التي تتفرع وتترابط بين بعضها في أي نقطة وبأشكال لا تخضع للتوقع الهيكلي المسبق. هذا الغموض التنظيمي سبب قلقاً بالغاً لأحزاب السلطة في لبنان وغيره من البلدان، وجرى تفريغ القلق عن طريق تجاهل القضية الأصلية والإمعان في تغذية الطابع الأسطوري للرواية تسويغاً للعنف الجسدي.

تطور الرواية وتطور البلطجة

تطورت منتجات "صناعة العدو" بسرعة، منذ الأسبوع الأول، ونُشر اسم الماركة الجديدة. المحركون هم "تجمعات مرتبطة بالسفارات"، "المدنيون من جماعة زيحو لنجلس مكانكم"، "منظمات الارتزاق غير الحكومية"، "ناشطو المنظمات الممولة من الخارج" و"المجموعات التي تعيش على تمويل الخارج وتريد تسديد الفواتير له".

على هذا الأساس جرى التجديد في القمع، بثلاثة أساليب، بدأت في الظهور في الأسبوع نفسه وتوالت لاحقاً.

أضيف أولاً عنصر السفارات وجرى تعظيم العمالة. في ساحات النبطية وصور، نقلت جريدة "الأخبار" خبراً عن: "مشاركة ناشطين ممن يصنفون في خانة ‘شيعة السفارات’ وآخرين من حزب سبعة، فضلاً عن حضور سريع للعميل مروان فقيه، الأمر الذي أحدث بلبلة بين المشاركين حسمت سريعاً بطرد ‘الدخلاء’، وتوجت بإحراق العلمين الأميركي والإسرائيلي". وفي بيروت تمت مهاجمة عدد من الخيم، تحت راية الشعار نفسه. وكان ما حدث لاحقاً (مساء 11 كانون الأول/ ديسمبر) أحد المشاهد التطبيقية لهذا الأسلوب. فقد هاجمت مجموعة من حزب الله وحلفائه خيمة "الملتقى" (The Hub) في ساحة اللعازارية إثر ندوة عقدت فيها عن "حياد لبنان" بتهمة أن المتكلمين هم عملاء إسرائيل، وألقت عليها عبوة حارقة.

انتهت الانتفاضة مكانياً مع إزالة الخِيَم من ساحتي رياض الصلح والشهداء في 27 آذار/ مارس 2020 عنوة من قبل الأجهزة الأمنية

الأسلوب الثاني قام على الغارات العشوائية على الساحات، والاعتداء على المحتجين عموماً بغض النظر عن صفتهم. واستُعمل هذا الأسلوب في بيروت بكثافة. من تلك الغارات تلك التي ضمت مئات الشباب الآتين سيراً وعلى الدراجات النارية وهم يهتفون "شيعة شيعة". أتوا من جهة خندق الغميق وجسر الرينغ، في الـ24 من تشرين الثاني/ نوفمبر. كان ذلك بعد يومين من المسيرة المدنية الحافلة بمناسبة عيد الاستقلال وأربعة أيام على أكبر تجمع لشباب الاحتجاج ضم مئات الآلاف.

أما الأسلوب الثالث فتمثل باستهداف أشخاص معينين، "تجاوزوا الحدود" في ما يقولونه أو يفعلونه، فجرت ملاحقتهم والاعتداء الجسدي عليهم، في جميع ساحات الاحتجاج.

نهاية الانتفاضة؟

انتهت الانتفاضة مكانياً مع إزالة الخِيَم من ساحتي رياض الصلح والشهداء في 27 آذار/ مارس 2020 عنوة من قبل الأجهزة الأمنية، في ظروف وذريعة صحية مؤاتية (تدابير مكافحة الكورونا)، علماً بأن المعتصمين هناك في تلك الليلة كانوا قليلين جداً (حوالي 50 شخصاً).

وانتهت كحراك رفع شعار إسقاط النظام مع بقاء معظم أهل الحكم كل في موقعه، واستمرار النظام السياسي متمادياً في فساده وتعسفه وجماهيره المتضاربة.

لكن الانتفاضة استمرت خمسة أشهر ونيف، رغم كل أشكال العنف الرمزي والجسدي، عابرة للمناطق الجغرافية، متمتعة بحيوية لا مثيل لها، ظهرت بشائرها في الأسبوع الأول وقبله. لا يصح النظر إلى الانتفاضة كأنها فيلم سينمائي له بداية ونهاية. هي أقرب إلى أن تكون حركة اجتماعية عميقة، تتجاوز حتى أبطالها وأبطال خصومها. فقد خلخلت في سيرورتها المجتمع السياسي اللبناني، وأضعفت أحزاب السلطة، وكشفت عمق فساد النظام السياسي والكوارث التي يولّدها، وغيّرت في مزاج الشباب وفي معنى المشاركة السياسية، وولّدت قوى سياسية جديدة... كأنها زلزال له ترددات لاحقة عديدة. وهذا يستحق حديثاً آخر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image