شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
انتصارات تحدث بتوزيع الحبّ

انتصارات تحدث بتوزيع الحبّ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الجمعة 4 أغسطس 202310:40 ص

كل إنسان يستحق فرصة للحديث عن نفسه أو عن شيء يريد إخباره للعالم... قلت هذا لصديقتي بعد أن تعرّفنا خلال رحلة أبقتنا سوية لأيام، وأعطتنا مساحة لاكتشاف أعمق عن أنفسنا وعن بعضنا البعض .

اقترحت في نهاية رحلتنا أن نكشف ما عرفته كلانا عن الأخرى؛ ونصرح بانطباعاتنا الأولية نحو شخصياتنا. ضمن ما قالته لي، إنني أحرص على الجلوس مع الأشخاص غير الاجتماعيين أو الظاهرين في المجموعة كنوع من الالتزام الأدبي والإنساني تجاههم.

أثنيت على ملاحظتها، لأنني بالفعل خلال هذه الرحلة جالست، في أكثر من وقت، الهادئين وغير القادرين على إلقاء النكات، أو من تصيبهم لوثة التوتر والتعرق أمام جمع من الناس.

أخبرتها أنها قناعة تكونت لدي من الصغر. كنت أتطلّع بالطبع لمصادقة الناجحين والمميزين، ومع ذلك كان يدفعني التزام إنساني ما لإعطاء فرصة لتبادل الحديث مع غريبي الأطوار.

في مجتمع الكنيسة أحببت فتيات لازمتهن وصمات أخلاقية، واحدة عُرف عنها كثرة مغامراتها العاطفية وأحاطتها ملاسنات لا حصر لها، لا تلبث قصة لها أن تهدأ حتى تبدأ أخرى

في المرحلة الابتدائية جاورت صديقة ذكية وناجحة دراسياً، لكنها خجولة ولا تتحدّث إلا قليلاً على مدار اليوم، كانت تضع شروطاً أخلاقية قاسية على من يقترب منها، ورغم ذلك كانت تخبرني أنني الشقية التي أحبّتها، وظلت ترسل لي جوابات طفولية تكشف لي فيها كم أحبتني لجلوسي بجوارها ولعبي معها، في وقت يهرب الجميع منها، إما خوفاً من جديتها أو كراهيتهم لقواعدها المتشدّدة.

اعتبرت هذه الصديقة أولى انتصاراتي، اختبرت معها لذة الوصول إلى قلب ليّن مع وجه ومظاهر سلوكية على نقيضه تتسم بالجدية، شعرت أن فرصة للسعادة كانت ستضيع عليَ إن لم أصادقها كما الآخرين.

في مجتمع الكنيسة أحببت فتيات لازمتهن وصمات أخلاقية، واحدة عُرف عنها كثرة مغامراتها العاطفية وأحاطتها ملاسنات لا حصر لها، لا تلبث قصة لها أن تهدأ حتى تبدأ أخرى في الظهور للعلن، وفتاة أخرى كان يشار إليها بمدخنة الأرجيلة. سلوكيات تبدو عادية واختيارية، لكن ترديدها يكفل بوضع علامة "خطر" على فتيات في محيط يتسم بقدر كبير من التحفظ والانغلاق.

يبدو لي أن إحدى جينات أمي ضلّت طريقها إلي، هي أيضاً كانت تبحث عن المنبوذين كمن يبحث عن إبرة صدئة في كومة قش، لا تلتفت إلى الأثمان التي تدفعها من حرقة أعصابها أو فشل معظم علاقاتها مع من أسمتهم يوماً أصدقاء، ولا تكترث بأحكام الغير بغرابة مواقفها. ما كانت تنشده طوال الوقت لذة انتصار توزيع طاقات الحب لمن يستحق من وجهة نظرها هي، ضاربة بعرض الحائط مقاييس المجتمع وأحكامه، بداية من الجمال وأناقة الهندام أو حسن الأخلاق.

في جنازة أمي، فوجئت بشاب من أرباب السجون، معروف في الشوارع المجاورة لبيتنا بمشاجراته وممارساته العنيفة، رأيته بكامل أناقته يوم الصلاة على جثمانها في الكنيسة، كان شهماً كما لو كان آخر. حمل نعشها مع أقاربنا باكياً بصورة تخالف سيرته. سمعت لسان حاله يقول: "رحلت التي كانت تهتم بأمري وتسألني على حالي في وقت يخشى فيه أبناؤها قول صباح الخير. رحلت من كانت تقول لي حبيبي... ابني... في وقت ينفر فيه الجميع مني".

يبدو لي أنها كانت تحاكي نموذج المسيح وقدرته على التعامل مع أرباب السمعة السيئة والمنبوذين، أو ربما تأثرت بأفكار عن أدب المهمشين، رغم أنها لم تحدثني من قبل عن حبها ﻷدباء رصدوا حيوات تتجاوز المتعارف عليه، فتركوا لديها مشاعر إنسانية وقدراً من التعاطف أكثر مما مضى.

في جنازة أمي، فوجئت بشاب من أرباب السجون، معروف في الشوارع المجاورة لبيتنا بمشاجراته وممارساته العنيفة، رأيته بكامل أناقته يوم الصلاة على جثمانها في الكنيسة. حمل نعشها مع أقاربنا باكياً بصورة تخالف سيرته

ولم تخبرني عن تأثرها بروايات أغرقت عينيها بدموع وتركتها حائرة في أمر ما، ربما هي فطرة لديها ساقتها إلى تكوين تلك القناعات.

ربما اقتنعت أمي بغرابتنا جميعاً، وغرابة أبطال أي رواية أو قصة في الحياة، ومن ثم حاجتنا إلى ممارسة قدر من اللطف تجاه بعضنا البعض طالما نحمل كلنا الكثير من التناقضات، وربما سمعت لرأي الكاتب والروائي الإسباني خوان خوسيه مياس، حين سُئل عن غرابة روايته "المرأة المهووسة"، فقال: "كيف يمكن أن تكون الرواية رواية إن لم تكن غريبة؟".

لا أنكر أنها طريقة تكلّف الكثير، أقلها ابتعاد من يتبعها عن الأشخاص الأكثر ذكاء، ومع الوقت، قد يصبح الشخص نفسه مغناطيساً لجذب غير الجادين وضعيفي الموهبة ومحدودي القدرات.

لكن لا متعة تضاهي ابتسامة شاب خجول لا يكشف نفسه وسط كثيرين طالما لم يتم دفعه إلى الكلام دفعاً، ولا شيء أكثر متعة من امتنان فتاة كشفت لي عن جانب ودود يتوارى خلف ساعات الصمت بين التجمعات.

لا شيء يوازي حب شخص غريب الأطوار حين تقدم له القليل من الاهتمام، فيكشف عن جانبه الخفي، مثلما فعل كافكا كاشفاً عن طبائعه لميلانيا التي أحبها، وكتب لها في إحدى رسائله: "لن تستطيعي البقاء إلى جانبي يومين. أنا رخو أزحف على الأرض. صامت طول الوقت، انطوائي، كئيب، متذمر، أناني وسوداوي. هل ستتحملين حياة الرهبنة كما أحياها؟ أقضي معظم الوقت محتجزاً في غرفتي أو أطوي الأزقة وحدي، هل ستصبرين؟".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image