في طفولتنا، تنشأ بيننا وبين الموت علاقة طيبة، فالجميع يقولون إن من رحل يعيش في الجنة، ويتطلع إلينا من السماء ويحاوطنا دائماً بحبّه، وأحياناً يمنع عنا الأذى لأنه أقرب إلى الله، فيتدخّل فوراً وينقذنا من الأشرار، وكنت، كجميع الأطفال، أنظر إلى الموت هذه النظرة الرومانسية، وباقتناع تام أصدّق ما يقوله الكبار، حتى ماتت صابرين وعرّفتني على نوع آخر من الموت، لا جنة فيه ولا سماء.
صابرين الصابرة
لم تكن صابرين بالنسبة لي جارة عابرة، فهي إلى الآن تمثل في ذاكرتي يوماً كاملاً ساهم في تغييري إلى الأبد، وصديقة مستقبلية لم يمنحنا الموت الفرصة لتكوين صداقة حقيقية، لا أذكر أنني التقيت بها قبل المرّة الأخيرة التي رأيتها فيها، لكنها كانت تعرفني، وحين فتحت لها باب البيت ابتسمت في وجهي، وقالت بصوت أسمعه الآن: "أنتِ نسمة؟ كبرتي".
في ذلك اليوم البعيد، جاءتنا هاربة من منزل زوجها الذي يعيش في محافظة أخرى، ولم تذهب لبيت أسرتها. حاولت أن تحتمي بنا من الجميع. كانت في السابعة عشر حين تزوجته، فتاة جميلة يتيمة الأب والأم، تعيش بين شقق أشقائها الذكور وزوجاتهم الذين وافقوا على أوّل رجل تقدم لخطبتها ليتخلّصوا من عبء أنوثتها، فالمرأة في الوعي الشعبي، كما نعلم جميعاً، لا تمثّل سوى العار والعبء على أهلها حتى يأتي الزوج المنقذ للشرف.
اكتشفت المسكينة بعد الزواج أنه يعاني من اضطرابات نفسية تجعله يستيقظ فجأة ليضربها ويعنّفها، ويقيّدها في غرفة فارغة لأيام دون طعام، ثم يخرجها ويتعامل معها جيداً ثم ينقلب وهكذا. لم يكن يمنحها أي نقود، فقط القليل من الطعام الرخيص والكثير من الهلاوس والعنف. كلما كانت تتمكّن من جمع جنيهات قليلة، كانت تهاتف أسرتها من محل قرب منزلها وتتوسّل إليهم أن ينقذوها من ذلك المختل، فيكتفون بإرسال سيارة ممتلئة باللحوم والفاكهة وظرف ممتلئ بالأوراق المالية، أو يأتي أحد أشقائها ويواسيها ببعض الكلمات، مؤكداً أن لا طلاق لديهم لأنهم صعايدة.
كانت تهاتف أسرتها من محل قرب منزلها وتتوسّل إليهم أن ينقذوها من ذلك الزوج المختلّ، فيكتفون بإرسال سيارة ممتلئة باللحوم والفاكهة وظرف ممتلئ بالأوراق المالية
حاولت صابرين التحمّل، لكنها في النهاية قرّرت الهرب ولم تجد سوى بيتنا، بيت صديق والدها المقرب... جدي. جلست طوال ذلك اليوم جوارها ونمت قليلاً في حضنها، وحكت لي حكاية ورسمنا معاً سيارات ملونة. تناولنا الطعام والحلوى وحكت وبكت وضحكت. كان يوماً أشبه بحياة قصيرة، حتى وصل إخوتها في ساعة متأخرة.
كانت إشاعة هروبها في عائلة متشدّدة كعائلتها من الممكن أن تؤدي إلى قتلها، وكان من الضروري إخبار أهلها أنها في بيتنا. أقسموا لعائلتي أنهم سيطلقونها، فتجرّأت وقالت في وجوههم إنهم كاذبون ولن يفعلوا أي شيء ككل مرّة، لكنها في النهاية ذهبت معهم على أمل الوفاء بالقسم.
وعدتني بالعودة من أجلي مرة أخرى لنكمل الحكايات، لأنها بعد الطلاق ستستقر في الشارع المجاور، لأيام كنت أقف في الشرفة طوال النهار حتى أراها فور دخولها الشارع، لكنها لم تعد.
استيقظت ذات يوم على صوت جدتي تبكيها، وعلمت أنها حين عرفت أن زوجها آتٍ لأخذها ثانية، وأن أشقاءها للمرة الألف خذلوها، سكبت على جسدها، الذي لن يتم العشرين أبداً، الجاز وأشعلت فيه النار.
ثورة في الداخل
لقد استطاعت صابرين، التي لم تحصل على تعليم كافٍ ولم تعرف من الحياة سوى بيتين باردين لا يعرفان الحب والأمان، أن تشعل ثورة كمحمد البوعزيزي بموتها، لكنها ثورة صغيرة لم يشعر بها ربما سواي. لم تجد سوى أقسى الطرق لأن تصرخ في وجه العالم، أن تحرق جسدها الأنثوي الجميل مصدر تعاساتها الذي يخشى المجتمع حصوله على حريته.
في العزاء، قالت زوجة أخيها متأثرة إن موتها رحمة من الله بها، متسائلة كيف كانت ستعيش بتشوّه كامل؟ وبينما كان صوت المقرئ يكرّر خاشعاً آيات الرحمة والنعيم، تهامست النساء عن دخولها النار المحتوم، وأن الله لن يرحمها أبداً لأنها ماتت كافرة ويائسة من رحمته، وشرحت إحداهن كيف أن المنتحر يُعذّب بطريقة انتحاره حتى تقوم الساعة ويدخل النار، فمن ألقى نفسه من مرتفع يظل يلقي بنفسه من قمة جبل شاهق، فتتكسّر عظامه ويتألم أشد ألم حتى يموت ثم يبعث من جديد ليكرّر نفس الأمر.
خلال الشهر الماضي كانت الذكرى السنوية لرحيل سارة حجازي، وبينما يتذكرها الكثيرون بحزن وتعاطف، كان هناك حزب مقابل يسخر ويكتب الآراء المطوّلة عن مصير المنتحر
كان هذا التصور أكثر الأشياء رعباً في حياتي. لن أنسى أبداً خيالاتي الطفولية عن احتراق صابرين اللانهائي، وكنت أدعو الله أحياناً أن يتوقف عن تعذيبها لمدة يوم واحد فقط.
لقد قضت أحاديث النسوة في ذلك اليوم على نظرتي الحالمة حول الحياة الأخرى، وخلقت بداخلي خوفاً كبيراً من الله وعقابه العنيف، كثيراً ما كنت أفتح النافذة وأنظر إلى السماء وأتخيّل الجحيم خلف ذلك الجمال الأزرق، وأبكي وأكره أنني خُلقت.
في الحقيقة لقد عشت طفولتي كلها أتخيل صابرين "سيزيف" آخر يعيش دورة أبدية الألم، مع فارق أن المسكينة لم تأثم أبداً، لقد كانت طفلة في ضحكتها وحكيها وبكائها، طفلة تريد أمها وأبيها اللذين غادرا مبكراً وتركاها وحدها تواجه مصيراً مريراً، طفلة حين سألها الطبيب مشفقاً عليها من ألمها العميق وحروقها المميتة وهي تحتضر، إن كانت تريد أن توصي بأي شيء أو تطلب أي شيء، طلبت "عصير مانجا"، و فور أن وضعوا قطرة منه على لسانها ماتت دون أن تحمّل أحداً عبء مأساتها.
هل تعتقدون أن حكاية صابرين الحزينة انتهت برحيلها واتفاق الجميع على خروجها من رحمة الله إلى الأبد؟ للأسف لا.
لم تمر أشهر حتى بدأت حكايات تُشاع عن ظهور شبح لها، وأنهم يسمعون صوت صراخها على السلم، وأحياناً تلقي بالأثاث على الأرض وتكسر الأطباق، لدرجة أن الزوجات طلبن مغادرة الحي كله. كنت أذهب حيث العمارة الكبيرة وأقف أمام البوابة دون أن أدخل، لكني أهمس إن كان هناك شبحاً لروح صابرين فأحب رؤيته، مع الوقت توقفت تماماً عن المرور من ذلك الشارع.
كان عليها أن تتحمّل أكثر وأكثر لترضي مجتمع يُفضّل لقب أرملة أكثر من لقب مطلقة
كلما كنت أكبر وأستعيد الحكاية من أولها إلى آخرها وأعيد ترتيبها وأتأملها، كنت أذهب إلى جدتي وأطلب منها أن تحكي لي اللحظات الأخيرة في حياتها، أتأكد أنها لم تطلب سوى العصير، فتندهش جدتي أنني لازلت أذكرها، حتى أنها ذات يوم قالت لي: لم يعد أحد يتذكرها أبداً إلا أنتِ.
أسألها: كانت سمراء وشعرها كثيف وعيونها بنية داكنة؟ أتأكد أنني لم أنسها، كان شيء بداخلي دائماً يرفض أن يتجاوزها، ربما لأنني أعلم أن الموت الحقيقي في النسيان، وكنت أريد لصابرين حياة أطول.
لقد مر أكثر من عشرين عاماً وأنا أراها في حبات المانجو ورسوم السيارات الطفولية وأتذكر صوتها مع كل حكاية. حين قابلت شقيقها الذي غادر الحي منذ سنوات، سألته وأنا أنظر في عينيه، لماذا لم يطلقوها من زوجها؟ كنت في حاجة لأن أجده يشعر بأي ذنب، لكنه ألقى الذنب كله عليها. قال إنها لم تصبر على ابتلاء الله، وأنها لو لم تقتل نفسها لكانت أصبحت حرّة بعد بضعة أشهر، حيث مات زوجها فجأة أثناء نومه في الشهور اللاحقة. أدانها موت زوجها مرة أخرى، لأنها لم تحتمل العذاب والإهانة والجوع، فكان عليها أن تتحمّل أكثر وأكثر لترضي مجتمع يُفضّل لقب أرملة أكثر من لقب مطلقة.
أعتقد أن العنف الزوجي لن ينتهي أبداً طالما هناك مرجعية دينية مغلوطة تبرّره، وأسر لا تحمي بناتها من الأذى، مرة بحجّة الظروف الاقتصادية، ومرة بحجّة وجود أبناء، ومرّة بحجّة ضرورة التحمّل، ومرّات بحجج لن يتوقف المجتمع السلبي عن إدهاشنا بها
السوشال ميديا وأوجهها العديدة
خلال الشهر الماضي كانت الذكرى السنوية لرحيل سارة حجازي، وبينما يتذكرها الكثيرون بحزن وتعاطف، كان هناك حزب مقابل يسخر ويكتب الآراء المطوّلة عن مصير المنتحر، لم يختلف المعزّون في صابرين عن جلّادي سارة حجازي المنتشرين على فيسبوك، ورغم أن شعوري بالخوف واحد، لكني أصبحت أملك صورتي الخاصّة عن الله ورحمته الواسعة التي لا يعرف عنها فاقدو الإنسانية شيئاً.
في مثل تلك الأوقات أكره مواقع التواصل الاجتماعي، وأكره الأذى الذي يلحق بأرواح عاجزة عن الرد، وأكره عدم تقدير الآلاف لمشاعر أحبّة الراحلين الذين لا يصدقون كيف قرّروا الذهاب هكذا، دون وداع أو شعور بالتقصير وعدم الحيلة، لكني هذه المرّة لم أغلق كل التطبيقات كما أفعل دائماً، ظللت أبحث عن التعليقات الإيجابية ومنشورات الدعم النفسي المنتشرة على صفحات مراكز العلاج النفسي.
شعرت باطمئنان وأنا اقرأ أرقاماً للتواصل لمن يشعرون بميول انتحارية أو اكتئاب أو رغبة في العزلة، وإشارات لمستشفيات حكومية تقدّم خدمات العلاج النفسي بتذكرة لا تتجاوز العشرة جنيهات، كمستشفى الدمرداش ومصر الجديدة، ووجود رقم ساخن مجاني للأمانة العامة للصحة النفسية جاهز لتقديم الدعم.
أعتقد أن العنف الزوجي لن ينتهي أبداً طالما هناك مرجعية دينية مغلوطة تبرّره، وأسر لا تحمي بناتها من الأذى، مرة بحجّة الظروف الاقتصادية، ومرة بحجّة وجود أبناء، ومرّة بحجّة ضرورة التحمّل، ومرّات بحجج لن يتوقف المجتمع السلبي عن إدهاشنا بها، لذلك من المفروض أن تنتشر سبل التوعية، أن تعرف كل امرأة أن هناك مجالاً للنجاة، فقد أصبحت هناك مراكز عديدة لاستضافة المعنفات، ومجموعات نسوية شهيرة يشرف عليها حقوقيات جاهزات لتقديم الدعم الفوري الممكن في أي وقت. أعلم جيداً أن الواقع ليس وردياً، لكن ربما كل ما تحتاجه المعنّفات كي ينجين هو الأمل.
من الشائع أن تُراود الإنسان أفكار انتحارية، وليس هناك ما يدعو للشعور بالخزي؛ فأنت لست وحدك. إذا كانت تراودك أفكار انتحارية، فلا تكتمها في نفسك، لأنك لربما تحتاج إلى شخص ثقة تتحدث معه. وقد يكون شخصاً تعرفه أو شخصاً يعمل لدى الخط الهاتفي المخصّص للدعم النفسي في محيطك/ بلدك. تحدث معه/ا، لا تخف من الوصم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع