"يا ابني ما هو اللي جايب الإهانة لنفسه… هو اللي عايزني أضحك عليه. وكمان ما كله عشان الفلوس"، هكذا كانت إجابة أحد الأصدقاء بعد أن أرانا فيديو لأحد قصار القامة وهو يقوم بحركات "جالبة للضحك"، وجالبة أيضاً للأموال، حيث توفّر المنصّات الأموال مقابل أعداد المشاهدات، ويتميز "تيك توك" عنهم جميعاً بتوفير خاصية البثّ المباشر التي تسمح للجمهور بإرسال الأموال مباشرة من الجمهور إلى مقدّم المحتوى، ولا أنكر أنني أنا نفسي قد استعرت مثل تلك الجمل التي بدأت بها المقال مرات مختلفة وأنا أبرّر لنفسي لماذا أضحك على فيديو لصبي مصاب بمتلازمة داون، أو بذي إعاقة يقوم بحركات تعجيزية، وأخذت أبرّر لنفسي -وأنا غير مقتنع- أن هناك العديد من ذوي الإعاقة ولم يُقبل أحد منهم على مثل تلك التصرفات، إذن لينل هؤلاء جزاء ما يفعلون.
ولكني كنت أعلم بداخلي أنني أكذب على نفسي. ليس الأمر هكذا، ربما ينتمي هذا النوع من الكوميديا إلى الكوميديا التي تداعب التابوهات أو المحرّمات، سواء كانت محرّمات مقدسة، أو محرّمات بفرض من السلطة أو محرّمات بفرض من المجتمع، ولكن ما المحرّم في ذوي الإعاقة؟
يمكننا أن ننهي المقال سريعاً ونختمه من تلك الفقرة ونصنف أن مثل هذا النوع من "الكوميديا" يمكن أن يستظلّ تحت "الكوميديا السوداء"، ولكن الكوميديا السوداء وُجدت للسخرية من وضع لا نرضى عنه، فما الذي لا يرضينا تجاه أصحاب الإعاقة إلا إذا كنا من النازيين؟
كما أن مثل هذا النوع من المحتوى لا يُقدّم على أنه كوميديا سوداء وفي بعض الأحيان لا يُقدّم داخل إطار الكوميديا من الأساس.
ولو كنت من المحظوظين الذين وُلدوا في منطقتنا العربية فممارسة الكوميديا السوداء هو روتين حياتك تجاه كل ما تمر به على كل الأصعدة، السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، فلماذا هذا الشعور بعدم الراحة وتأنيب الضمير؟
إن كنت من المحظوظين الذين وُلدوا في منطقتنا العربية فممارسة الكوميديا السوداء هو روتين حياتك تجاه كل ما تمر به، فلماذا هذا الشعور بعدم الراحة وتأنيب الضمير عند السخرية من ذوي الإعاقة؟
من نلوم؟
السؤال الأشمل الذي يجب طرحه هو على من يقع اللوم؟ فإن كان المُلام مقدّم المحتوى الذي اختار كما نقول "الاسترزاق على قفا إعاقته"، يمكنني أن أضمن لضميري نوماً هنيئاً، وإن كنت أنا المُلام لأنني أخترت أن أضحك من نقيصة أحدهم، فقد خسئت لفعلتي، ولكن كما سبق وذكرت، نحن نطرح سؤالاً أشمل، والسؤال الأشمل يحتاج لإجابة أشمل، فدعنا نسترسل قليلاً لعلنا نصل لتلك الإجابة.
أول ما دعاني للتأمل هو التفكير في الظروف والحياة التي نشأ فيها من يقدّم مثل هذا النوع من المحتوى، وأيضاً الحياة التي يحياها بعيداً عن الدقائق التي يظهر فيها على الشاشة، إن كنا نحن، بكامل القدرات العقلية والجسدية، لا نجد ظروفاً آدمية نحيا فيها، فتخيل الوضع لمن يواجه صعوبات في تلك الحياة، ولم تلتفت الدولة لتذليل تلك الصعوبات عليه، بل أضافت فوق صعوباته صعوبات، منها الصعوبات التي تضيفها للجميع على حد سواء، ومنها من تضيفها بشكل خاص لأصحاب الإعاقات.
فأنا لا أذكر يوماً أنه تمّ توفير مواصلات عامة تسهّل عملية التنقّل على ذوي الإعاقة، وإن كانت الذاكرة وحدها لا تكفي، فمع البحث لم أجد في تاريخ مصر أياً منها، ولكن وجدت ما قد يثير الضحك والحزن، لذوي الإعاقة خصم يصل إلى النصف على تذاكر المواصلات العامة وخصم شامل على وسائل النقل التابعة لشركة "مواصلات مصر"، ولكن يبدو أن هذا العرض السخي قُدّم فقط لاستحالة مقدرتهم على الوصول لسيارات النقل من الأساس، فالأمر يتطلّب لياقة بدنية عالية من الصحاح بدنياً لينجحوا في الصعود والنزول، فما بالك بذوي الإعاقة.
لا تسألني عن أساسيات الحياة التي يحتاجها كل إنسان في العموم، من تعليم، وخدمات صحية، ووظيفة، والتي بدورها تضمن لوازم الحياة من أكل وشرب وملبس ومسكن، فتلك مشاكل يُعاني منها الشباب في المطلق، فما بالك بذوي الإعاقة؟
وإن كنت أعتقد أن مشكلة مثل مشاكل وسائل النقل تسبقها مشاكل أخرى، فالأمر كله عفن، كلما تأملته فاحت رائحته أكثر.
أرقام رسمية
و في الواقع هذا ليس كلامي الشخصي الذي يحق لك ألا تعطي له وزناً، ولكن جاء هذا على لسان وزيرة التضامن الاجتماعي التي صرّحت بأن نسبة البطالة بين ذوي الإعاقة في مصر تصل إلى 62%، علماً بأن هذا الكلام يعود ليوم 20 ديسمبر 2021، والذي يُصادف نفس اليوم الذي صرّح فيه الدكتور أشرف مرعي، المُشرف العام على المجلس القومي لذوي الإعاقة، بأن نسبة البطالة تصل إلى 90%.
سواء كانت النسبة 62% أو حتى 90% فالأمر ذكّرني بكاريكاتير للأخ الكبير (أنديل) حيث رسم رجلين يجلسان في مسبح من البراز، ويشاور كلاهما للآخر ويقولان في ضحك: "وشّك عليه خرا".
لا يتم الالتفات لذوي الإعاقة من قبل المجتمع إلا في حالة التحايل القانوني للحصول على إعفاء جمركي على استيراد السيارات، ما يساهم في تقليل سعرها بشكل ملحوظ، ويمكن القول إن هناك "مافيا" خلف مثل تلك العمليات
أشد ما يحزنني أن ننتقل من النقطة السابقة لنرى إن كان هناك إجابات أخرى لسؤال من المُلام، ولكن ما سبق وطرحته هو حقاً "نقطة" في بحر المهازل التي ترتكبها الدولة في حق ذوي الإعاقة، وقد يحتاج الأمر لأكثر من مقال واحد للاستفاضة في كل النقاط.
بعد انتهاء الحديث عن الحكومة، يمكننا الآن يمكننا استجواب المجتمع، والذي لا يرتبط اسمه مع ذوي الإعاقة إلا بكل ما هو مخزٍّ للأسف الشديد، ناهيك عن الضحك والسخرية، ولنتحدّث قليلاً عن الاستغلال ولنجعل بداية الكلام بما هو هيّن.
انتشر منذ فترة فيديو لواحد من ذوي الإعاقة يشكو استغلال مساحات الانتظار الخاصة بسيارات ذوي الإعاقة في إحدى مراكز التسوّق الضخمة في القاهرة، ولكن الأشد قبحاً هي جملة ذكرها في أول الفيديو ولم يلتفت لها أحد، حيث قال أنهم حصلوا على الحق في توافر المساحات الخاصة بهم بعد عناء، ولك أن تتخيل أن حتى حقوقهم التي حصلوا عليها بشق الأنفس، سلبها منهم بعض الكُسالى.
أما الأقبح فأنه لا يتم الالتفات لذوي الإعاقة من قبل المجتمع إلا في حالة التحايل القانوني للحصول على إعفاء جمركي على استيراد السيارات، ما يساهم في تقليل سعرها بشكل ملحوظ، ويمكن القول إن هناك "مافيا" خلف مثل تلك العمليات، فالوضع ليس عارضاً إنما هو منظم وممنهج.
ومرة أخرى يعز علي أن تنتهي بنا الفقرة هنا، لكن ما سبق وذكرته هو عينه بسيطة ولم أتطرّق إلى التحرّش والتنمّر والتعنيف الجسدي الذي قد يصل لحد التعذيب، ولكن قضية ذوي الإعاقة في مصر ملف خطير لا يصح اختصاره في فقرة أو فقرتين.
نتيجة ظالمة
الآن يمكن القول بكل أريحية إن مقدم المحتوى لا يقع عليه أي لوم، فبعد ما يتعرّض له من تنكيل طوال حياته، لا يمكننا أن نستنكر عليه استغلاله لبعض الفرص التي تدرّ عليه قليلاً من المال والضوء بعد أن عاش هو وأقرانه مهمشين، وبدلاً من التهكّم على ما يقدموه وتبريره علينا أن نخجل من أنفسنا، فنحن من يقع على عاتقنا الذنب الأكبر، لكوننا العامل الرئيسي في توفير هذه الحياة الصعبة لهم، سواء بالصمت على سوء الأوضاع أو باستغلالنا لهم بما أُتيح لنا من طرق.
ولو كان لأحد أن يعترض ويرفض، فالوحيدون الذين لديهم الحق في رفض هذا النوع من المحتوى، هم أقران مقدّم المحتوى في الإعاقة، وهذا في حال أن رأوا أن ما يقوم به يسيء لهم، لكن ما دون هؤلاء، فالصمت وطأطأة الرأس هما الأجدر بنا، لأن باختصار "اللي ايده في المياة مش زي اللي ايده في النار".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون