"أما الألم فهو الدليل على البقاء أصحّاء، احذر عندما لا تشعر بالألم"
نطفو- سارة الدايخ
أنا شيماء العيسوي، وفقدت أهلي في حادث مرير منذ عام تقريباً، في ليلة واحدة لا تختلف عن مثيلاتها كثيراً، فجأة وجدت نفسي في منتصف الطريق، نصف عارية، وحيدة تنظر إلي كل الأعين ولا تحمل بداخلها إلا جملة: "يا عيني يا بنتي".
أنا شيماء العيسوي وأرفض أن يعرفني الألم. مرّ عام، عام حقّقت به ما قد يحقّقه المرء في خمس سنوات، عام تجاوزت به ما قد لا يتم تجاوزه في عمر كامل، ما حقّقته منذ الحادثة المروّعة التي فقدت بها كل ما أملك إنجاز حقيقي. ولكن أكثر ما أفتخر به هو أنني رفضت أن يعرّفني الألم، رفضت أن يتمّ تعريفي فقط بالمعاناة التي مررت بها، فأنا أكبر من ذلك بكثير.
تربط الإنسان علاقة غريبة مع الألم، تربطني أنا به علاقة أخذ مني الأمر سنيناً حتى أفهمها. هل سمعت من قبل عن جدلية السيد والعبد التي افترضها هيغل وطوّرها لاكان لتفسير النفس البشرية؟
طوال مدة دراستي لعلم النفس لم أستطع فهم هذه الجدلية، فقط فهمتها عندما حللت علاقتي بالألم. يبدو أن الألم في العموم يلعب مع المخ لعبة ماكرة، لا يفطن لها الفرد إلا بعد فوات الأوان. يعظّم الألم نفسه، يخبر الفرد دوماً نفسه أن ألمه أصعب من أن يتم احتماله، بالتالي هو جزء أساسي منك، لا يمكن فصله عنك ولا فصلك عنه. كذلك لا يمكنك رؤية الأمور إلا من خلال الألم الذي عايشته، تتمحور حياتك كلها حول هذا الألم، تعيد وتعيد اختبار تلك المشاعر في كل موقف، مرتبط بالألم أو لا. عرض معروف لاضطراب كرب ما بعد الصدمة، الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالألم النفسي.
أنا شيماء العيسوي، وفقدت أهلي في حادث مرير منذ عام تقريباً، وكان يجب أن أخسر كل ما أملك حتى أتحرّر من كل مخاوف الوحدة التي ظلت تحاوطني بصمت طوال عمري تقريباً، كان يجب أن أخسر كل شيء حتى أتحرّر
عودة مرة أخرى لجدلية السيد والعبد، الجدلية التي تفسّر وجود المازوشية والسادية، الخضوع والسيطرة في النفس البشرية الواحدة، كأنهما صورة متطابقة في مرآة. أنا والألم -قبل الحادثة- كنا نتبادل الأدوار بين السيد والعبد، كنت أرى الألم يتحكم فيّ تارة وأسيطر عليه تارة أخرى، استمتع بوجود الألم وبتحكّمه في كل أموري، وفي نفس الوقت أعلم جيداً أني أتحكّم به كذلك. أنا من يقرّر الانخراط في الألم أو مقاومته والتغلب عليه.
هذه العلاقة كانت نتيجة لسنين من تجرّع ألم نفسي مصاحب لمرض الاكتئاب المزمن الذي أعاني منه منذ عامي السادس عشر.
أما الألم بعد الحادث فكان مختلفاً. عرفت الألم من عيون المحيطين بي، كأن نفسي انسلخت عني لأنها رفضت الألم، رفضت أن تشعر بأي شيء، وباتت تتساءل دائماً: لماذا يشفق عليّ كل هؤلاء البشر، فأنا لا أشعر بأي ألم؟ مثلاً، لم أختر نوبات الهلع التي هي علامة مميزة للألم لدي، ولا مرّة فقدت السيطرة على نفسي. ومع الوقت، ومع الهدوء والوحدة وجدت أن الألم أصعب من قدرة عقلي على استيعابه. كم من ليالي طويلة قضيتها وحيدة في هذا العالم أحلّل وأفنّد الألم، توصلت قرب السنوية إلى أن ألمي عظيم، ذلك الصديق القديم الذي يفهمني جيداً وأفهمه، لم يلعب معي هذه المرة أي ألعاب عقلية، تركني وشأني، وكذلك تركته أنا، وظللت أحاول ألا يتم تعريفي به، كما ظللت أردّد: "أنا مش بس شيماء اللي بيتها وقع وأهلها ماتوا".
أنا شيماء العيسوي، وكان يجب أن أخسر كل شيء حتى أتحرّر. قبيل السنوية بأيام، بدأ الجميع بالنظر لي تلك النظرة لا غيرها: كيف حالك؟ كيف تتعاملين مع اقتراب سنوية موت أهلك؟ نرجو ألا تنتحري.
عرفت الألم من عيون المحيطين بي، كأن نفسي انسلخت عني لأنها رفضت الألم، رفضت أن تشعر بأي شيء، وباتت تتساءل دائماً: لماذا يشفق عليّ كل هؤلاء البشر، فأنا لا أشعر بأي ألم؟
ازددت غضباً وقرّرت ترك الجميع والهروب بعيداً. وحيدة، فقط فراغ تام وراحة لا تتناسب مع الموقف، وفجأة بدأ سيل الأفكار، تحليل وترتيب وربط للأحداث كاملة، منذ اللحظة الأولى للحادثة وحتى قراري الأخير بعزل نفسي عن الناس والحب في أكثر وقت أحتاج به الدعم. هدوء غريب صاحبني، قطعت العزلة وذهب للمعالجة النفسية، التي بمجرد الحديث معها وجدتني أتفوّه بجمل لم أتوقع أبداً أنني قد أفكّر بها قط، فما بالك بالحديث عنها بكل الهدوء، هل قلت فعلاً: "كان لازم الحادثة تحصل علشان أكبر؟".
مؤخرا، ظهر تغيير غريب على شخصيتي، هدوء ويقين أن الأمور ستسير حسب رغبتي ومصلحتي، بدون أي مجهود مني، بدون حروب، بدون محاولات مستميتة، فقط إيمان يقيني في إلهي العزيز أنه سيرتب بيده الحنونة على قلبي ما يتمناه. علاقة ثقة بالذات الإلهية تعاظمت بعد الحادث، ومع ذلك حصلت على أكثر مما كنت أملك من أمور مادية خلال 24 ساعة فقط، ومنذئذ دخل عقلي فكرة واحدة: أن الشخص الذي ينجو من كل هذا، بالتأكيد لن يضرّه شيء آخر. وظلت دائماً تتردد تلك الحكمة بداخلي مع كل موقف: "في كل مرة تخاف، وبّخ نفسك على قلّة إيمانك".
أنا شيماء العيسوي، وكان يجب أن أخسر أهلي كلهم حتى أنضج، أتحمّل المسؤولية، أتعرّف على جانب من الحياة لم أكن سأعرفه لو ظللت فتاة أخيها المدلّلة وبنت أمها التي لا تحمل شيئاً.
أنا شيماء العيسوي، وكان يجب أن أخسر كل ما أملك حتى أتحرّر من كل مخاوف الوحدة التي ظلت تحاوطني بصمت طوال عمري تقريباً، كان يجب أن أخسر كل شيء حتى أتحرّر.
أنا شيماء العيسوي وكان يجب أن أخسر كل شيء حتى تولد شيماء جديدة، أفخر بها ويضاهي أهمية احتفالي بميلادها في السابع عشر من حزيران، أهمية الحزن على فقدان أهلي كلهم معاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...