أكتب هذه المدوّنة اليوم وأنا في حال أفضل، تصالح مع جسدي بعد سنوات من اللامبالاة تجاهه، لا حب ولا كره، لا شيء، حيث لم يكن في ذهني أية أفكار عن جسدي الذي لا أعرفه أبداً: "تلك المنطقة السفلية حافظي عليها، لا تشغلي شطاف المرحاض عالياً، لئلا تنجرحي، قيمتك ستقلّ، ولا داعي لتنظيفها من الشعر الزائد إلا بعد الزواج، فجسدك بالكامل أمانة لحين تسليمه لصاحبه".
اعتقدت أنني لست كباقي الأطفال الذين يمرون بالمرحلة القضيبية التي وضعها فرويد في مراحل نمو الطفل، كطفلة تنظر لأعضائها التناسلية محاولة اكتشافها، بل ذاهبة بأقصى ما في وسعي (أو ربما بسبب الخوف ودون إدراك) لمرحلة الكمون للعزوف عن ذلك الفضول الطفولي. لا أعرف من قتله بداخلي، لكني لم أذهب يوماً له في سنواتي الماضية سوى مرّات قليلة جداً.
لسنوات عديدة لم أر جسدي، أردّد كلمات الحفظ من رؤية الشيطان لي في الحمام عند خلع ملابسي للاستحمام، أردّد "بسم الله..." مئة مرّة قبل خلعي للفوطة وقبل ارتداء ملابسي، حتى تنصرف عني أية أرواح شريرة ربما تراني عارية
لم أر جسدي
لسنوات عديدة لم أر جسدي، أردّد كلمات الحفظ من رؤية الشيطان لي في الحمام عند خلع ملابسي للاستحمام، أردّد "بسم الله..." مئة مرّة قبل خلعي للفوطة وقبل ارتداء ملابسي، حتى تنصرف عني أية أرواح شريرة ربما تراني عارية، ولا حتى أنا أراني، في الأغلب أحافظ على منشفتي حتى أرتدي آخر قطعة الملابس، ثم اسحبها لأراني مغطاة بالكامل. أقصى ما يمكن أن أراه ذراعي وساقي. لم أتأمّل يوماً جسدي كاملاً، لم أنظر للثدي أو لتكوينه. لم أرى مدى تناسقه، ولزيادة السخرية، لم أعرف حتى مقاسات ملابسي الداخلية، إذا ضاقت حمالة صدر علي، تعالج أمي حجمها بإبرة والخيط، أو تشتري لي القياس الذي تراه مناسباً وينتهي الأمر، لذا، لم يكن الأمر غريباً حين أسمع من الطبيب: "في الأغلب لديك ورم خبيث والحل في بتر ثديك".
وقعت تلك الجملة على مسامع أمي كالصاعقة، فبذلك أنا لن أتزوّج يوماً، لأنني حينها سأكون غير صالحة للأمومة والرضاعة، لا أعرف مهمّة لذلك الثدي أكثر من ذلك، فهو ليس كبيراً ولا يظهر أصلاً، نظراً لارتدائي ملابس داخلية بغير حجمه، وأحياناً لا أرتديها من الأساس فيُطمس كلياً، فلا أرى له أي أهمية وقتها، فابتروه إذن، ما المشكلة؟
طبيب متحرّش
شابة لم تكمل الـ 20 عاماً بعد، يشخّصونها بورم خبيث في الثدي، وبإجماع أكثر من طبيب، كل ذلك فقط لظهور بعض "التكتلات" في ثديي. قضينا شهوراً في زيارة المستشفيات، اشترك الكشف بينهم جميعاً في "سونار الثدي"، وضع "جيل" ثم تحريك الجهاز. لم أشعر بأي شيء، لا خجل ولا خوف ولا قلق، مهما تكون النتائج لا أهتمّ، وإذا كان الجميع يصرّ على البتر، لا بد أنهم يعرفون الأصلح لي، وسيفعلونه.
في منطقة سكني التي تركتها اليوم لما تركته في ذاكرتي من ذكريات أليمة، ذهبت برفقة والدي إلى طبيب آخر، استخدم الجهاز ذاته وسحب الستار، بدأ بمسك الثدي ثم بغرس الجهاز داخله، وأخذها حجّة لتقريبي منه والحديث معي وكأنه يهدّئ من روعي غير الموجود. الجهاز فوق الثدي، ويقرّبني حد الاحتضان لأنه يضمّني من ظهري، ورجلي بين رجليه، وأنا لا أعلم إطلاقاً أن هذا تحرّش.
أكتب هذا المقطع الآن وأنا أبكي لفرط سذاجتي. لم يقل لي أحد إطلاقاً أي شيء عن تفاصيل العلاقات والتوعية من تلك الأفعال، كل ما كنت أعلمه هو أن "القبلة عيب" و"الكلام الاباحي عيب" وإن قاله أحد سأوبّخه، لكني لا أعلم عن وظيفة الصدر والأرجل والأعضاء التناسلية شيئاً، ولا أعلم أن ذلك يُعتبر تحرّش جنسي، وأن رجلي تكاد تقترب من مركز إثارته. لم يُذكر أمامي أي شيء عن ذلك من قبل، بجانب أنني أتذكر أنني سألت عن أمر خلع السيدات ملابسها أمام الأطباء وأنا صغيرة، فأجابتني أمي أن الأطباء يقسمون ويتعهّدون بأنهم شرفاء، كما أنهم يعتادون على رؤية السيدات هكذا، فلا عيب في ذلك، لذا فلم يأت حتى ببالي مجرّد خيال أن شيئاً ما يحدث. انتهى الطبيب من التحرّش بي وقال إن ثديي بالتأكيد يحتاج إلى بتر. ابتروه إذن أو استغلّوه في إثارتكم، فأنا لا أعرفه ولا أمتلكه!
كل مخاوف أسرتي كانت تتعلّق بدمار احتمالية زواجي في المستقبل، فمن سيتزوج امرأة مبتورة الثدي؟ لم أر نفسي يوماً زوجة، ولم يأت ببالي يوماً صورتي بفستان الزفاف، لم أكن أعلم أن هناك علاقة بين الزوجين تسبب المتعة إلى هذا الحد الذي أعرفه اليوم
لم تعد صالحة للزواج
كل مخاوف أسرتي كانت تتعلّق بدمار احتمالية زواجي في المستقبل، فمن سيتزوج امرأة مبتورة الثدي؟ لم أر نفسي يوماً زوجة، ولم يأت ببالي يوماً صورتي بفستان الزفاف، لم أكن أعلم أن هناك علاقة بين الزوجين تسبب المتعة إلى هذا الحد الذي أعرفه اليوم. كل ما أعرفه عن الزواج هو صورة السيدات وهن يطبخن أو يرضّعن أو ينظفن. لم تكن هذه هي اهتماماتي. ربما كان هناك بوادر داخلي بالثورة على الأنظمة الاجتماعية المحفوظة، وأنا لا أعلم مثل تلك الكلمات أصلاً، لكني حالياً أحاول تهدئة نفسي والطبطبة عليها من البكاء بعد تذكر مشهد التحرّش، وأكثر ما يؤلمني هو استغلالي بعد تدارك قيمة جسدي اليوم. لا ألوم نفسي على جهلها، فلم يكن متاحاً لي أكثر مما كنت أعرفه حينها، لكني أشعر بالشفقة على تلك النسخة منّي، التي لم تكن تدري حتى فداحة ما مرّت به.
البطلة الخارقة
طبيبة واحدة من بين عشرات الأطباء الرجال الذين صرخوا في وجهي مؤكّدين البتر، قالت إنها تشك بأنه ليس ورماً، ورشّحت لنا طبيبة في مستشفى خاص. لم يكن لدينا مبلغ الكشف، تواصلت الطبيبة مع زميلتها شارحة لها الوضع. استقبلتنا الطبيبة بوجه بشوش. أتذكّر شكلها واسمها حتى اليوم. كانت امرأة جميلة، لم أر مثل ذلك المظهر من قبل: في الأربعينيات من عمرها، شعرها أصفر قصير. قامت بالكشف وشخّصت الأمر: "غدد لبنية وليس ورماً، لا خبيث ولا حميد". وقالت إنها ستذهب مع العمر وفي الأغلب ستذهب بعد الزواج والرضاعة، وحين قلت لها إنهم اخبروني أنه لابد من البتر، قالت لي: "بعد الشر أنت جميلة". تلك المرة الأولى التي يُقال لي مثل ذلك الإطراء، ومن امرأة.
ذهبت فكرة البتر لحالها بعدما أظهرت عائلتي مدى الحزن على تلك المنكوبة التي لم تنل الزواج والأمومة يوماً. وتساءلت: إذا كان بتر ثديي شرّاً لي لأني جميلة كما قالت، فهذا أمر يتعلّق بي وحدي إذن، وليس لأن رجلاً ما ينتظره ليقدّره، وبدأت من حينها رحلة البحث عن تلك الجميلة التي قصدتها الطبيبة، ووجدتها في داخلي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...