شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
فيلم

فيلم "باربي"... حملة تسويق وردية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والنساء

الثلاثاء 25 يوليو 202311:01 ص

تحذير: المقال يحتوي حرقاً للأحداث.

قد يعنّ للمرء بعد سنين طويلة من البحث عن العمق، أن يجرّب خوض التّجارب السّطحية، قبل فوات أوان اختبار هذا النوع منها. بالنسبة لي مثلاً، بعد سنوات من ملاحقة الأفلام الواقعية أو الأفلام التي تحكي قصّة، فضّلت هذه المرة حضور فيلم "باربي" في السينما على "أوپينهايمر". وبمناسبة خرقي لقاعدة الأولوية لمشاهدة ما يمكن أن يملك فكرة إنسانية عميقة، أودّ لو أشارك بضعة انطباعات متفرّقة عن فيلم "باربي".

مقدمة الفيلم تحكى قصة ظهور باربي، والتي تحوي عدة "Red Flags" أي إشارات تحذير. تبدأ القصة بإظهار مجموعة من "البنات الصغار" يرتدين فساتين باهتة، يعشن في خلاء وزمن غابر، تحتضن كل منهن دمية رضيع تعتني بها. بعد دوام هذه الحقبة طويلاً يصيب الملل الصغيرات، لتطلّ باربي العصرية ببهائها كي تنقذهنّ من هذا الوضع الحرج. باربي، اللعبة، الناضجة، الراشدة ومعيار الجمال، جاهزة كي تصادق البنات، ويعشن معها ومن خلالها حياةً وردية. ما إن تدرك الفتيات مذهولات حضور باربي الطاغي في الساحة حتى تنقلب سحناتهن بسرعة غير متوقعة إلى وجوه ساخطة، لتبدأ كلّ منهنّ بتعذيب طفلتها/دميتها حرفياً لتدميرها واستبدالها بباربي. نرى تحوّل الفتيات بشكل دراميّ من أمّهات عطوفات على ألعابهن إلى كائنات تفجّر نزعة غير مسبوقة للعنف.

إنّ صنّاع الفيلم ارتأوا بأن أنسب طريقة لإيصال فكرة تفوّق باربي على الدمية الرضيعة هو بأن يصوّروا لنا عملية استبدال تتم بهذه الوحشية، تكون البنات فيها هنّ المتحّول/الوحش، حتى يشهد العالم أجمع حدّة الدمار الذي ألحقته باربي بالدّمية الرّضيعة وصنّاعها. استغلالهم الأطفال في حربهم التجارية عبر عرضهم إياهم مسلوبين من براءتهم بهذا الشكل المسيء يعتبر فشلاً أخلاقياً. حسب التقييم العمري للفيلم فهو يناسب الأطفال ابتداء من عمر السادسة، وبهذا بدا لي هذا المشهد دعوة مفتوحة للصغار للتمثيل بألعابهم القديمة عوضاً عن وضعها جانباً أو التبرّع بها مثلاً.

قد يعنّ للمرء بعد سنين طويلة من البحث عن العمق، أن يجرّب خوض التّجارب السّطحية، قبل فوات أوان اختبار هذا النوع منها. لذا فضّلت هذه المرة حضور فيلم "باربي" في السينما على "أوپينهايمر"

إن مشهد افتتاحية "باربي" كرّس على الكفة الأولى إحدى الأفكار النمطية عن الأطفال، فالأطفال، بشكل عام، يميلون في طفولتهم المبكّرة إلى تقليد دور الرّاعي والمربّي، وهذه حقيقة نفسية لا تقتصر على الأطفال الإناث دون الذكور (بيولوجياً)، إلا أنّ التربية تلعب غالباً دوراً في طمس هذه السلوكيات الطبيعية عند الذكور، بذريعة أن الإنجاب والتربية منوطان بالإناث دوناً عن الذكور، تماماً كما يشير إليه المشهد. لكن على الكفّة الأخرى كسر صورة نمطية ثانية (وزاد الطّين بلّةً)، ألا وهي أن الطفل الذكر من يملك نزعة تدميرية أوضح والأنثى تميل للعطف والحنان، ففوجئنا بضرب وتكسير وقذف الدّمى في الهواء لتبدو الفتيات كساديات صغيرات يستمتعن بتهشيم رؤوس دماهن اللواتي كن يعاملهن كأطفالهن حتى اللحظة الأخيرة قبل ظهور باربي!

ينتقل بنا المخرج إلى "باربي لاند"، الأرض المتخيّلة لدمى باربي، حيث كل يوم هو أفضل يوم على الإطلاق. تعيش بالطبع هناك باربي (أو باربي النمطية) وهناك باربيات أخريات، مثل الحامل والرئيسة والمحجّبة والحاصلة على جائزة نوبل والشرطية وذات الوزن الزائد ورائدة الفضاء والحورية والمعلمة، وحتى باربي غريبة الأطوار، في النهاية هناك كين رفيق باربي الذي لا أحد في الفيلم يدري أين يسكن وصديقه آلان.

من الجليّ أن باربي تملك كل شيء (البيت والمكانة الاجتماعية والأصدقاء والاحترام والجمال والحب وحسن الصيت) وتعيش كل يوم لأقصاه، لكنّ شيئاً ما يقلب حياتها رأساً على عقب، حينما تبدأ أفكار دخيلة على باربي لاند تراودها، الموت مثلاً. إن هذه الأفكار تجني عليها بأن يصيبها النحس وأن تتفاقم حالتها بشكل صادم، فترى صباح أحد الأيام قدميها وقد تسطحتا كأقدام البشر. عن طريق استشارة "باربي غريبة الأطوار" تفهم باربي أنها حتى تعود لـ "طبيعتها" ينبغي عليها القيام برحلة لأرض البشر، وإيجاد مالكتها التي تلعب بالدمية الباربي النمطية، ومن ثم حلّ ما يسبب هذه الأفكار السوداوية التي تؤثر سلباً على باربي، مهما كانت.

تنطلق باربي بسيارتها لتتفاجأ بـكين جالساً في المقعد الخلفيّ عازماً على مرافقتها في رحلتها، لا لشيء سوى لأنه تراهن مع كين آخر على أنه تم دعوته من قبل باربي ليأتي معها. إن تعلّق كين بباربي هو محض إثبات ذات أمام "الـكين" الآخرين ولا ينبع من اهتمام نقيّ بها.

سرعان ما تتكشّف إشكاليّة أخرى تظهر للمشاهد/ة في هيئة سيادة الثنائية الجندرية (ذكر/أنثى) وغياب التنوع الجندريّ في الفيلم، وتحديداً في أرض باربي. إن النظام السائد في باربي لاند هو نظام أمومي، النساء الباربي فيه يحكمن والرجال الباربي (الكين) مرافقون لهنّ وكمالة عدد، ما يتسبّب بتشكيل عقدة نقص حادّ لدى كين نتيجةً لإحساسه بتبدّد هويته تدريجياً، حتى أصبح وجوده متعلقاً حصراً بوجود باربي. باربي بلطفها ومداراتها، ترفض وضع حد لمعاناته في ملاحقته إياها ومحاولة إثبات جدارته أمامها، فلا ترخي الحبل معه ولا تشدّه.

لكنّ نقطة التحول تبدأ عندما يلتفت كين في الواقع/أرض البشر لحقيقة أن الأدوار للنساء والرجال هنا مقلوبة، فالرّجال يحتلون المراتب العليا في كل المجالات ويلبسون البذلات ويدأبون على تربية العضلات ويؤشرون للنساء بالانتظار جانباً ريثما ينهون أحاديثهم مع زملائهم، على خلاف باربي لاند، فهنا يتم أخذه على محمل الجد وسؤاله بشكل عابر عن الساعة مثلاً، ما يشعل فيه الحماس لفهم اختلاف النظام القائم في الواقع عنه في باربي لاند، ويدفعه لسرقة كتب عن الأنظمة الأبوية والعودة بها إلى باربي لاند.

حسب سرديّات الديانات السماوية، فإن حواء خلقتْ من ضلع آدم، أي لا وجود لحواء دون آدم، أي المرأة في عالمنا، هي التي تعاني تماماً مما يعاني منه كين في "باربي لاند"

مجلس الإدارة في شركة تصنيع "باربي" يتألف من رجال فقط، وهم حين يعلمون بقدومها للواقع وما يمكن بأن تتسبب به من مشاكل لهم، يرسلون برجالهم كي يحضروها إليهم بنيّة إنهاء دورها وإجبارها على دخول علبتها. تعينها في الهروب والدة مالكتها، التي تكون في الحقيقة هي مصدر هاجس الموت والأفكار السلبية التي سببت لباربي النحس والأقدام المسطحة. تعود باربي برفقتهن إلى باربي لاند، لتجد مفاجأةً من العيار الثقيل بانتظارها، إذ حوّل كين النظام الأموميّ إلى نظام أبويّ ذكوريّ عن طريق غسل دماغ معظم سكان باربي لاند، وإقناع الباربي بأنهن يفضّلن خدمة الـكين عبر تدليك أقدامهم وارتداء ما يرضيهم وأنهنّ لا يرغبن بالعمل أو الاستقلالية.

بهذا يهدّد كين ما حقّقته باربي في أرضها من تمكين للنّساء وتحقيق لذواتهنّ ووصولهنّ للمراتب التي يستحققنها فعلاً. تنهار باربي تحت وطأة الصدمة وتكاد تستسلم ـ طبيعي فهي باربي نمطية مدللة، لكنّ آلان صديق كين، والمالكة وأم المالكة يرفضن التخلي عنها ويقررن الوقوف بجانبها، ليكون آلان بهذا الرجل الوحيد الذي يناهض بطريركية كين.

إن الحلّ يكون عند أمّ مالكة باربي، حين تعبّر بصوت عال عن غضبها ويأسها من معنى كونها امرأة في مجتمع ذكوري، وكل شيء يقع على عاتقها والتوقعات منها وجهودها لا ترضي في النهاية أحداً. تعمل هذه الخطابات شبه النسوية كترياق سحريّ يفكّ لعنة الهيمنة الأبوية عن عقول الباربي واحدة تلو الأخرى، ليعدن إلى رشدهنّ. تكون الخطوة الأخيرة في إفشال الانقلاب الذي يخطط له كين مع رفاقه "الـكينز"، هو قلب الـكين على بعضهم البعض حتى تتزعزع صفوفهم ويخسروا المعركة.

تنجح الخطة وتبقى باربي لاند باربي لاند، إلا أنّ كين، مجنون باربي، يرفض التصديق ويبكي بابتذال مقصود، بينما تحافظ باربي النمطية على هدوئها. تحاوره على انفراد ليصارحها بإنهاكه العاطفي وإحساسه بانعدام قيمة الذات، وأن اسمه بلا أثر ما لم يرتبط باسمها (باربي وكين) فليس هناك وجود مستقل لـكين، لأنّ القصة قصة باربي.

يلفتني هنا وجه الشبه بين ما وصفه كين من أحاسيس وما تشعر به النساء في واقعنا. في معظم المجتمعات الأبوية المتديّنة، وحسب سرديّات الديانات السماوية، فإن حواء خلقتْ من ضلع آدم، أي لا وجود لحواء دون آدم، أي وجود حواء تعلّق سببياً بوجود آدم. ونتيجة لهذا فإن حواء، أي المرأة في عالمنا، هي التي تعاني تماماً مما يعاني منه كين في باربي لاند، والسبب هو السيناريو الذي يشعر المرأة دوماً وأبداً أنها أقلّ مكانةً مهما سعت لتنفي هذه الفكرة، بل يتمّ إقناعها مراراً وتكراراً بأنّها تدين للرجل بوجودها وأن سعيها لإرضاء الرجل هو غرض وجودها وواجبها.

في المشاهد الأخيرة تتخلى باربي عن الورديّ وترتدي فستاناً أصفر كنايةً عن كسرها نمطيتها، بحضور مجلس إدارة الشركة من الواقع وصانعة باربي المسنة "روث ماتيل" في باربي لاند، تعلن باربي أمام الجميع بعدم حبّها لـكين، وبأنها لم تعد تشعر بأنها باربي القديمة. تفصح باربي أخيراً عن طموحها في أنسنة نفسها وانضمامها للواقع، غير مكترثة بالألم أو بفكرة الموت، فما يهمها فعلاً هو أن تصنع شيئاً في حياتها، لا أن تبقى مجرد شيء. تمنح ماتيل باربي حرية القرار، ومن ثم تصحبها معها إلى الواقع.

يبقى من الممتع والمرضي قليلاً مشاهدة ثورة نسوية تنجح ولو مرةً واحدةً، وإنْ كانت في عالم فانتازيا لا يقرب الواقع

قد يكون تفضيل باربي النمطية الواقع على باربي لاند هو إشارةً بانتهاء عهد تصنيعها، أو إشارةً للمشاهدين/ات بأهمية الالتفات للواقع وتقدير تحدياته والتبدّل المستمر فيه، عوض الانبهار بزيف المثالية الموجودة في باربي لاند.

يبقى الفيلم حملةً تسويقيةً بحتة، باعتراف صنّاع الفيلم أنفسهم، ففي المشهد الذي ضمّ طاقم التمثيل كله، تم فيه الجدال حول جدوى كون كلّ باربي معروفةً ومختزلةً فقط بشيء ما (مهنتها أو وضعها الاجتماعي أو لون بشرتها أو وزنها) ومن ثم اقتراح إيجاد باربي "ستاندرد" عادية، تستطيع أن تكون أي شيء وكل ما تشاء. يدّعي صناع القرار في الشركة إعجابهم بهذه الفكرة، ويسجلونها فوراً معلنين أنها على الأغلب ستدرّ عليهم بربح غزير.

إنّ محاولات إظهار التنوّع المجتمعي في الفيلم واحتواء هذا التنوع كانت ضعيفة برأيي، ولكن، يبقى من الممتع والمرضي قليلاً مشاهدة ثورة نسوية تنجح ولو مرةً واحدةً، وإنْ كانت في عالم فانتازيا لا يقرب الواقع، أما الحلّ بإضعاف الأنظمة الذكورية في عالمنا عبر تسليط الرجال على بعضهم، لا يبدو لي منطقياً، ففي الواقع لا تطمح النّسوية إلى منح السيطرة المطلقة للنساء، كما قد يعتقد معادو الحركات النسوية، ولكنّ النسويات تسعين إلى تحقيق مساواة في الحقوق والحريات وعدالة مجتمعية لكل الأشخاص، وحتى هذا يتم استكثاره واتهامه بمهاجمة القيم ومحاولة بث الهشاشة في المجتمع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image