شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
سيجارة وكأس كحول في الخفاء و

سيجارة وكأس كحول في الخفاء و"فضيلة وهمية" في العلن... تونسيات أمام أغلال المجتمع المحافظ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والنساء

الاثنين 24 يوليو 202301:47 م

كشفت حركات هاجر (اسم مستعار) بأنها تنتمي إلى بيئة محافظة تعتبر التدخين "عيباً". كانت منزوية في ركنٍ في أحد مقاهي منطقة "ضفاف البحيرة" في العاصمة تونس، وهي تداعب شعرها القصير المصبوغ بالأحمر القاني، وترمق الباب وكأنها حذرة من أن تقع عليها نظرة زبون تعرفه أو أحد أقاربها وهي تضع السيجارة بين شفتيها.

تردّد محدثة رصيف22 عبارة لطالما يردّدها المدخنون على سبيل الدعابة "سيجارتي هي الشيء الوحيد الذي يحترق من أجلي". تلفظ كلماتها وهي تخرج سيجارتها الشقراء الأمريكية من العلبة، بأنامل رقيقة يزينها طلاء أظافر زهري. تشعلها وتمجّ منها نفساً ثم تنفث الدخان. تشرد ثم تنفض الرماد على المنفضة.

يتبدّد دخان سيجارة الشابّة كما لو أنه يرسم في الهواء علامات استفهام بلا عدد، تم تتساءل "هل سيحترمني هذا المجتمع يوماً؟ طبعا لا، فلا العلم ولا التطوّر سيغيّران نظرة هذا المجتمع 'البائس' تجاه المعتقدات والحريّات خاصة النسائية".

تضيف الشابة العزبة البالغة من العمر 35 عاما "منذ أن علمت عائلتي بأنني مدخنة لم أعد أكترث لما يُقال عني، فلا الشتيمة تهزني ولا عبارات الإهانة قادرة بأن تحول بيني وبين سيجارتي. تعتقد عائلتي وخاصة أبي المسن بأن التدخين من سمات 'الفسق' و'الفجور'، فإذا كانت هذه السيجارة هي ما سيُفقدني أنوثتي، أليست هي نفسها التي يدخنها الرجل؟ فهل ستزيد من رجولته؟".

منذ أن علمت عائلتي بأنني مدخنة لم أعد أكترث لما يُقال عني، فلا الشتيمة تهزني ولا عبارات الإهانة قادرة بأن تحول بيني وبين سيجارتي

"نُعتُّ بأسوأ العبارات عندما كنت في بلدتي حفّوز مسقط رأسي (محافظة القيروان) المعروفة بعاصمة القرآن. فمن شتيمة 'الضِلع القاصر' إلى 'المتمردة' إلى 'الحقيرة' إلى 'المنحلة أخلاقياً' فالـ'متشبهة بالرّجال'. صحيح أنني أصبت بالإحباط، لكن تيقّنت بمرور الوقت أن الفكرة الدونية تُجاه المرأة المدخنة لن تُمحى أبداً لأن مدينتي تعتبر محافظة مقارنة بتونس العاصمة. فالسيجارة أو الأرجيلة أو حتى الخمر أصبحت ضمن أسلوب حياتي ولا يمكن إنكارها ومع ذلك يصعب عليّ التعامل مع هذه الظواهر في العلن".

عندما يعجز "الأخصائي" عن فهم حاله

محدثة رصيف22 التي تعمل أخصائية اجتماعية، تتلمذت على يد والدها الذي لقّنها الأحاديث النبوية والسور القرآنية منذ كانت طفلة إلى أن فارقت بيت العائلة بغرض الدراسة الجامعية. هناك بدأت ملامح التغيّر لتجد نفسها في مواجهة عادات جديدة تقاسمتها رفقة ثلاث فتيات من محافظات مختلفة وبهوايات وعادات مغايرة لما ألفته.

تضيف " كانت عبارة 'ما يحقّ للرجل لا يحق للمرأة' هي السبب الذي دفعني إلى التمرّد على هذه الأفكار وهي نفسها التي استعملتها رفيقاتي في الحي الجامعي لجعلي أجّرب التدخين لأول مرّة في حياتي. رغم مذاقها الذي سدّ نفسي، إلا أنها راقت لي لاحقاً. لم يكن ذلك من المرّة الأولى وإنما عندما تكرّرت جلساتنا ونحن نتبادل أطراف الحديث ونتقاسم الأحزان والهموم".

إذا كانت هذه السيجارة هي ما سيُفقدني أنوثتي، أليست هي نفسها التي يدخنها الرجل؟ فهل ستزيد من رجولته؟

"مرّت قرابة 17 عاما على تجربتي الأولى مع التدخين. ولكن في كل مرّة أشعر أنها المرّة الأولى، فينتابني شعور بالخوف من أن يُكتشف أمري وأقع ضحية القيل والقال. صحيح أن ما أحسّه لا يعكس قناعاتي فأنا متمرّسة في علم الاجتماع. أعتبر هذا الشعور نوعاً من النقص الذي زرعه فكر والدي المنغلق بداخلي. فكلّما سافرت إلى موطني القيروان أصبح المرحاض مخبئي السري". هكذا أعربت محدثتنا عما يخالجها من خوف وعجز داخلي اتجاه "أغلال" المجتمع المحافظ.

أردفت "حينما اكتشف والدي أمري بسبب وشاية من بنت الجيران التي كانت تدرس في جامعتي، أتذكر أنه أبرحني ضرباً وشبّهني بالمرتدّة عن الإسلام واحتجزني في غرفتي قرابة الشهر. عمره المتقدم لم يُشعره بالعجز أو يرقّق قلبه تجاهي. إلا أنه كلما زاد ضربه لي كلما ازددت إصراراً وتعلقاً بسيجارتي التي بت أدخنها وأستفرد بها داخل مرحاض منزلنا".

"النظرة الدونية هي السبب"

تبرّر محدثة رصيف22 لنفسها قائلة "كلنا نعرف أن التجربة الأولى قد تتحوّل إلى عادة، ونسبة كبيرة منها تصبح إدماناً يتواصل إما لسنوات أو مدى الحياة. لكن الإشكالية أن تتحول الشخصية البشريّة إلى شخصية انتقامية تتمادى في ممارسات تجعل من الأحكام الاجتماعية قاسية جداً عليها، على عكس الرجل إذْ لا تنتقص من أخلاقه شيئاً".

أرادت الأخصائية الاجتماعية المتخفية وراء اسم مستعار أن تؤكد بأنها حرّة طالما هي بعيدة عن محافظتها وعائلتها، وأنها ليست فقط امرأة مدخّنة وإنما تشرب الكحول عندما تجتمع برفيقاتها وأصدقائها في جلسات سمر، أو تحتسي كأساً أو اثنتين منفردة في حالات الحزن أو القلق.

أبرحني أبي ضرباً وشبّهني بالمرتدّة عن الإسلام واحتجزني في غرفتي قرابة الشهر.  إلا أنه كلما زاد ضربه لي كلما ازددت إصراراً وتعلقاً بسيجارتي التي بت أدخنها وأستفرد بها داخل مرحاض منزلنا

وتضيف أن نظرة المجتمع السلبية إلى الشابات اللواتي يدخّن خلقت لها مشاكل حتى في ربط علاقات مع الرجال "رفضت أي شخص يتقدم لخطبتي خوفاً من أن يكتشف أمري لاحقاً وأصبح مدنّسة في عينيه ومطلّقة في نظرة المجتمع".

تعتبر محدثة رصيف22 أن "تخفّيها" خلف "نقاب الفضيلة الوهمية" كما تسمّيها، كان بسبب الهموم التي لازمتها منذ أن اكتشف والدها أمر تعاطيها التدخين، وبالتالي الرهبة أكثر من أن يُكتشف أمر شربها للكحول. فمقولة أنَّ 'ما يحق للرجل لا يحق للمرأة' لا تجد لها مكاناً على أرض الواقع، وتدفعها أحكام القيمة إلى أن تعيش حياةً في السر وأخرى في العلن.

تقول: "على الرغم من أننا متفقون على الأضرار الصحية للتدخين عموماً سواء للرجل أو المرأة إلا أنّ المجتمع التونسي يقف موقفاً سلبياً تجاه تدخين المرأة لأسباب اجتماعية وثقافية بحتة وليس فقط لأسباب صحية".

هذا السجال القديم الجديد حول الحياة المزدوجة التي تجمع بين العيش بحريّة في الخفاء وادّعاء مسايرة المجتمع في العلن، يطرح تساؤلات عدّة حول تناقضات المجتمع لدى الشابة. إذ "يرى المجتمع باستثناء نسبة ضئيلة منه، على أن المرأة المدخنة غير مسؤولة، فهل يُعقل مثلاً أن كل امرأة مدخّنة خارجة عن 'الأخلاق والآداب'؟ ولماذا لا ينطبق هذا الحكم القاسي على الرجل؟ أم أن سلوكيات الرجال خارج التقييم 'الأخلاقي' دوماً ومهما كان نوعها؟"، تتساءل.

كانت محدثنا تتفنّن في المزج بين نقدها للمعتقدات المجتمعية التي تراها محدودة وخاطئة وبين الاستفهامات والتساؤلات التي تتمنى لو تجد لها أجوبة مقنعة تُشفي غليلها وتحرّر العقول الباطنة للمحيطين بها من الفكر المليء بالمغالطات التي ترى بأن تدخين المرأة على الملأ هو دعوة مبطنة إلى الرجال للتقرب منها.

تؤكد "إنها نظرة سيئة للمدخّنة أو حتى المرأة التي تشرب الكحول لأنها تنطوي على ظلم كبير وفقدان للوعي بتقييم الأشياء وتحليلها نفسياً واجتماعياً".

أنفاس في الهواء تخدش الحياء

على الرغم من أن ظاهرة التدخين العلني لدى السيدات لم تعد مستغربة في المقاهي أو التجمعات أو الأماكن العامة، إلا أنّ ثقافة المجتمع قد ترفض بعض الأفكار رغم تحولها إلى عادات مألوفة أو ربما يتقبّلها لدى الغرباء ويعجز عن تفهمها لدى الأقرباء. مثلما هو الحال لدى محدثتنا بثينة وهي امرأة متزوجة، تعيش مع زوجها في بيت حماتها لعجزهما عن اقتناء منزل بسبب غلاء العقار.

تقول إنها تعلّمت التدخين عندما كان أخوها يطلب منها أن تُشعل له سيجارة من موقد الغاز، وكانت في كل مرّة تأخذ منها نفساً سريعاً إلى أن اعتادت الأمر وأصبحت تشتري السجائر بما تدّخره من مصروفها الضئيل.

كان زوجي  يسمح لي بالتدخين وشرب كأس من النبيذ معه في الأوقات الحميمية داخل غرفة نومنا حتى لا تشتمّ والدته أي رائحة لكنه يرفض تدخيني في العلن

تشير في حديثها لرصيف22، إلى أنها لاقت صعوبة قبل الزواج في إقناع خطيبها بأنها إنسانة مدخّنة. ولم تكن لها أيّ نية في البداية بأن تصارحه ظناً منها بأنها ستتخلى عن تلك العادة يوماً ما "ولكن هيهات فقد اشتمّ رائحة الدخان في أنفاسي ووجد علبة السجائر داخل حقيبتي فلم أستطع حينها الإنكار واعترفت بالحقيقة واقتنع بالفكرة بعد جهد مرير"، تحكي المرأة.

التدخين.. وأساطير "الشهوة الجنسية"

لفتت محدثتنا إلى أنها تلقّت تحذيرات متكررة من زوجها خلال خطبتهما بأن لا تدخّن في الأماكن العامة وتبرّر ذلك قائلة "يرفض التدخين في الأماكن العامة لأنه يعطي بحسبه انطباعاً بأنني أتعمّد الإغراء لجذب الرجال جنسياً. كان يقول بأنني أثير شهواته كلما أمسكت السيجارة ودخّنت بطريقة معينة تلفت النظر إليّ. وأن الرجال يرون في المُدخّنة رفيقة لقضاء الأوقات الممتعة وليست نموذجاً للزوجة والحبيبة. وقد انصعت إرضاءً لرغباته وتفادياً للمشاكل".

رغم محاولات زوجها الحثيثة بعد الزواج لإقناعها بالعدول عن فكرة التدخين بتعلّة أن السيجارة "تسلبها أنوثتها" و"تهدّد جمالها وتسرق من شفتيها لونها الأحمر الفاتح الطبيعي وتتسبب في اصفرار أسنانها وظهور التجاعيد على وجهها في عمر مبكّر"، بحسب كلامه. إلا أنه في المقابل "كان يسمح لي بالتدخين وشرب كأس من النبيذ معه في الأوقات الحميمية داخل غرفة نومنا حتى لا تشتمّ والدته أي رائحة تعكّر صفو حياتنا وتتسبب في خراب عشّنا الزوجي".

ترى المرأة أن التدخين أصبح يتسبّب لها في مشاكل "أعاني مؤخراً من مشاكل مع زوجي بسبب عدم قدرتي على القطع مع هذه العادة الضارّة لأنني حامل بجنين في الشهر الرابع وأوصاني طبيبي باتباع حمية وعادات صحية تجنبني الآثار السلبية لآفة التدخين باعتباره سبباً رئيساً في تشوه الأجنّة".

تضيف "أصبح الجوّ متوتراً في البيت، وأصبحت أصواتنا لا تُطاق من العراك والصياح لدرجة أن حماتي ضاقت ذرعاً ولم تعد قادرة على تحمّل ما يحدث، ونحن بدورنا تعبنا من اختلاق الأكاذيب حتى لا تكتشف أن أصل المشكلة هو السجائر".

مشكلة الشابة خلال الحمل تطرح مخاوف صحيّة فعلاً وكذلك التدخين أو شرب الكحول بشكل عام، لكن خارج هذه النقطة تُطرح تساؤلات كثيرة حول تناقضات رجال المجتمع، ومجتمعات عربية أخرى يريدون "نساء مثاليات" في العائلة، وعشيقات هن رموز لـ"المرأة المغرية" كما شكّلتها دعايات السجائر والسينما في المجتمعات الاستهلاكية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فعلاً، ماذا تريد النساء في بلادٍ تموج بالنزاعات؟

"هل هذا وقت الحقوق، والأمّة العربية مشتعلة؟"

نحن في رصيف22، نُدرك أنّ حقوق المرأة، في عالمنا العربي تحديداً، لا تزال منقوصةً. وعليه، نسعى بكلّ ما أوتينا من عزمٍ وإيمان، إلى تكريس هذه الحقوق التي لا تتجزّأ، تحت أيّ ظرفٍ كان.

ونقوم بذلك يداً بيدٍ مع مختلف منظمات المجتمع المدني، لإعلاء الصوت النسوي من خلال حناجر وأقلام كاتباتنا الحريصات على إرساء العدالة التي تعلو ولا يُعلى عليها.

Website by WhiteBeard
Popup Image