خمسة عشر دقيقةً، كادت أن تودي بحياة محمد، الذي يستذكر في حديثه إلى رصيف22، لحظات غرقه: "رأيت الموت بعد أن شعرت باليأس وعدم القدرة على البقاء على سطح الماء. كنت أصارع في سبيل النجاة وأستغيث، لكنني وقتها لم أكن أسمع إلا أنفاسي المتقطعة ودقّات قلبي".
يروي محمد أبو سلطان، كيف نجا من موت محتم قبل شهر خلال رحلته مع أصدقائه إلى نهر العاصي في ريف ادلب، إذ كان يسبح على عمق مترٍ واحدٍ فقط في النهر، ليتفاجأ بانحدار شديد لأكثر من خمسة أمتار من دون أي تدرّج، وهو عمق لم يعتد عليه.
ينحدر أبو سلطان (22 عاماً)، من الغوطة الشرقية في ريف دمشق، إذ اعتاد السباحة في مسابح وبرك صغيرة تجميعية قليلة العمق، لكنه فوجئ بعمق النهر فجأةً خلال سباحته، وهو ما كاد يُفقده حياته. يقول: "تخدّرت يداي لأني غير معتاد على السباحة في هكذا عمق، وبدأ جسدي بالتعب وأصبح غير قادر على المقاومة. أدركت أنني غارق لا محالة، إلى أن أستطاع أحد الأشخاص سحبي وإنقاذي عند الرمق الأخير. ولا أعتقد أني سأرتاد ذلك المكان مرةً أخرى طوال حياتي".
الفرات يبتلع زوّاره
تشهد مناطق شمال شرق سوريا وشمال غربها، وفاة عشرات الأشخاص، بينهم أطفال، صيف كل عام، خلال رحلات التنزه للاستجمام أو السباحة في مياه البحيرات والأنهار والسواقي والبرك الزراعية، وسجلت مناطق شمال شرق سوريا هذا العام أكثر من 14 حالة غرقٍ في دير الزور والرقة، 6 حالات منها سُجّلت خلال يومين فقط، ويأتي ذلك بالتزامن مع ارتفاع درجات الحرارة، والإقبال الواسع للشبان والعائلات على السباحة في نهر الفرات.
سجلت مناطق شمال شرق سوريا هذا العام أكثر من 14 حالة غرقٍ في دير الزور والرقة، 6 حالات منها سُجّلت خلال يومين فقط
يوضح الناشط إبراهيم الحسين، في ريف دير الزور الشرقي، أنه "في كل فصل صيف تتكرر حوادث الغرق بالرغم من اعتياد كثير من شبان المنطقة وأطفالها على السباحة في نهر الفرات الممتد من جرابلس على الحدود السورية التركية وصولاً إلى البوكمال في ريف دير الزور حيث آخر نقطة للنهر، قبل دخوله الأراضي العراقية، بطول 610 كيلومترات.
وبالرغم من انخفاض منسوب النهر وضعف تدفقه وجريانه، إلا أن مياهه ما تزال تفجع الأهالي بأبنائهم، لأنها تُعدّ أبرد مياه المسطحات المائية، وذات تيارات قوية ساحبة أكثر من أمواج البحر، إذ تسبّبت بغرق سبّاحين ماهرين، كون تيارات النهر الجارفة أصعب من أن تُقاوم، كما يؤدي التشنج العضلي والإرهاق والتعب، وتغير حرارة الجسم مع برودة المياه، إلى ابتلاع مياه النهر من لم يحالفه القدر في النجاة.
يؤكد الحسين المقيم في بلدة أبو حمام على الضفة اليسرى لنهر الفرات، أنه "لم تُسجَّل إلا حالتا نجاة في دير الزور والحسكة، لأن مناطق مرور نهر الفرات تعاني من انعدام الفرق الإنقاذية، فأي عملية إنقاذ أو بحث عن جثة غارقة تأتي كتطوع من الأهالي المحليين"، لافتاً إلى أن هناك صعوبةً كبيرةً في إيجاد الجثث الغارقة، فالكثير منها يُعثر عليه بعد يومين أو ثلاثة عندما تطفو فوق سطح النهر.
ويأمل من السلطات المحلية أن تبدأ بنشر فرق إنقاذ وغواصين مختصين، مشيراً إلى أن الأهالي طرحوا على الجهات المختصة تأمين معدات غوص فقط لمتطوعين يقطنون بالقرب من النهر، بهدف كسب الوقت وسرعة الإنقاذ، لكن "لا حياة لمن تنادي".
إحصائيات مرعبة
منذ بداية العام الحالي، أنقذت فرق الإنقاذ في الدفاع المدني السوري العامل شمال غرب سوريا، 60 مدنياً من الغرق، وأسعفتهم إلى المشافي، فيما وثّقت 28 حالة وفاة غرقاً، بينهم 5 وفيات في يوم واحد، في المسطحات المائية.
وتعدُّ المسطّحات المائية المنتشرة في مناطق شمال غرب سوريا، وهي نهرا الفرات والعاصي وبحيرة ميدانكي وعين الزرقاء والأنهار والسواقي والبرك المائية، أماكن غير مجهزة وغير صالحة للسباحة وخطرة جداً، بسبب برودة المياه وانتشار الأعشاب في قيعانها، ما يتسبّب بحالات غرق مفاجئة، قد تطال حتى الماهرين في السباحة كون الخطورة ترتبط بطبيعة هذه المسطحات، بالإضافة إلى تفاوت أعماقها بين منطقة وأخرى ووجود تيارات قوية وباردة قد تسبّب تشنجات عضليةً لدى السبّاح، ومنها عضلة القلب، وخاصةً بحيرة ميدانكي ذات المياه الباردة جداً والعذبة، فضلاً عن وجود الوحل والأعشاب في أعماقها التي تصل إلى 90 متراً، كما تُعدّ البرك الزراعية المنتشرة في الأرياف السورية بشكل عام، والتي تُجمَّع فيها المياه لسقاية المزروعات، خطراً يهدّد حياة الأطفال، لأنها مكشوفة ومتساوية مع سطح الأرض.
تخدّرت يداي لأني غير معتاد على السباحة في هكذا عمق، وبدأ جسدي بالتعب وأصبح غير قادر على المقاومة. أدركت أنني غارق لا محالة، إلى أن أستطاع أحد الأشخاص سحبي وإنقاذي عند الرمق الأخير
وتركّز فرق الدفاع المدني السوري على استنفار فرقها الإنقاذية في فصل الصيف، لإبعاد الخطر عن المدنيين الذين يقصدون تلك المناطق بغرض السباحة والاصطياف، مع تزايد درجات الحرارة وارتفاع أجرة دخول المسابح، وصعوبة استئجار مَزارع تحوي أحواضاً مائيةً مع ما يعانيه المدنيون من أوضاعٍ معيشيةٍ مزريةٍ، إذ وصل سعر استئجار المزرعة إلى ما بين 50 و200 دولار.
وبحسب تقرير نشره الدفاع المدني على موقعه الرسمي، أوائل تموز/ يوليو الماضي، فإن فرقه بدأت بتنفيذ خطةٍ شاملةٍ للاستجابة لعمليات الإنقاذ المائي من خلال انتشار نقاط رصد وإنقاذ جاهزة ودائمة في كل من بحيرة ميدانكي في عفرين شمال حلب، وعين الزرقا في ريف إدلب الغربي خلال موسم الصيف، بهدف تأمين سلامة المدنيين وسرعة الاستجابة في هذه المسطحات.
وتتألف النقاط في كلتا المنطقتين من غطاسَين اثنين في كل نقطة، وطقمي غوص كاملين، وقارب لسهولة التنقل في المياه واختصار الوقت في البحث عن الغرقى، بالإضافة إلى منظار وقبضات تواصل لا سلكية، وبطبيعة دوام يمتد على طول النهار من الساعة الـ9 صباحاً وحتى الـ7:30 مساءً، بنظام مناوبات بين المتطوعين، على أن يفد بقية الغواصين من المديريات الأخرى إلى هاتين المنطقتين للتغطية الشاملة.
كما يقدّم الدفاع المدني جملةً من الإجراءات والإرشادات الوقائية، للسباحة في هذه المسطحات غير الآمنة، كاتخاذ طوق نجاة وحبل لا يقل طوله عن 50 متراً وتثبيته بشكل جيد، وتجنب النزول إلى المياه بشكل مفاجئ حرصاً على انتظام حرارة الجسم، والانتباه بشكل جيد إلى الأطفال خلال السباحة، وعدم تركهم بمفردهم، بالإضافة إلى استخدام الإطارات المطاطية، وعدم السباحة لمسافات بعيدة. وبالرغم من أن هذه الخطط والحلول قد تقلّل من حالات الغرق، لكنها لم تستطع إيقافها، لأن عاتقها الأول يقع على الأهالي بمنعهم أطفالهم من السباحة في هذه المسطحات المائية.
أداء حكوميّ متدنٍ
في 25 تموز/ يوليو الماضي، احتفلت منظمة الصحة العالمية باليوم العالمي للوقاية من الغرق، والذي يُعدّ السبب الثالث عالميّاً للوفاة، ويأتي الاحتفال الذي أعلنته الجمعية العامة المنعقدة في نيسان/ أبريل 2021، فرصةً لتسليط الضوء على التأثير المأساوي والعميق للغرق على العائلات والمجتمعات من جهة، ولتقديم حلول للوقاية منه من جهة أخرى.
وتواصل رصيف22، مع مدير مكتب وزير الإدارة المحلية والخدمات التابعة للمعارضة السورية، أحمد ليلى، للوقوف على الإجراءات الاحترازية المتخذة من الوزارة في هذه المسطحات، إذ يؤكد ليلى، أن الوزارة على اطلاع على حوادث الغرق، ويأخذ الموضوع أولويةً حقيقيةً، إلا أن تأمين بعض الحلول معقَّد من ناحية الموارد، ومن ناحية قدرة المؤسسات على متابعة أي خطة يمكن تنفيذها.
في 25 تموز/ يوليو الماضي، احتفلت منظمة الصحة العالمية باليوم العالمي للوقاية من الغرق، والذي يُعدّ السبب الثالث عالميّاً للوفاة
واكتفى ليلى بالحديث عن وجود تنسيق ما بين الوزارة والدفاع المدني، عبر تأمين نقطة للدفاع المدني في بحيرة ميدانكي وتعليق لافتات توعوية، ونشر تحذيرات عبر الصفحات الرسمية وتنبيهات إلى خطورة السباحة في هذه المسطحات، من دون ذكر تفاصيل عن أي إجراءات أخرى أكثر عمليةً، مع ازدياد حالات الغرق يوماً بعد يوم.
غوّاصون ومتطوعون
خبرُ غرق شخص أو طفل هو خبر مفجع لعائلته بشكل خاص، وكثيرون من الغواصين يتعرضون لمواقف في أثناء عمليات الإنقاذ والبحث عن الجثامين، خاصةً مع طول وقت البحث، إذ يكون ذوو الغريق في حالة سيئة ومنهكي الأعصاب، ومع تعذّر الوصول إلى الجثة تكون أمنيتهم فقط الوصول إلى جثمان الغريق ليتم دفنه، ما يُعدّ حملاً ثقيلاً على الغواص.
ويقول أحد الغوّاصين المتطوعين في فرق الإنقاذ في ريف حلب لرصيف22، إن "مهنة الغطاس مهنة صعبة، كما أن عملية الإنقاذ وانتشال جثة غريق ليست سهلةً على أحد، فهي عمل شاق، ويحتاج إلى ضبط أعصاب عالٍ، خاصةً مع انتفاخ الجثمان، وبدئه بالتحلّل، فضلاً عن سرعة التيار الذي يعرّض الغواص للخطر في أثناء البحث، ووجود الصخور التي قد يؤدي اصطدام الأسطوانات بها إلى انفجارها".
وتطرّق المنقذ الذي ساهم في عمليات إنقاذ الغرقى وانتشال جثثهم إلى تكرار سيناريو الغرق في كل صيف، لافتاً إلى أن أكثر الحالات المأساوية التي يشهدها هي غرق حالتين في الوقت نفسه، مؤكداً على ضرورة عدم محاولة إنقاذ أي غريق مهما كانت صلة القرابة به، وترك أمر إنقاذه لشخص متمرّس.
وعن أبرز الصعوبات التي يواجهها، يلفت الغطاس إلى أن أبرز الصعوبات هي شدة التيار، وملابسات المكان الذي يتم النزول فيه للبحث عن الغريق، ووجود صخورٍ تعيق الغطس، وأعشابٍ تحجب الرؤية والطين وبرودة المياه التي تسبب ضعفاً في الأطراف وتضاريس المسطحات المجهولة، بالإضافة إلى انعدام الوسائل التي يستطيع من خلالها الغطس إلى الأعماق والتي قد تتجاوز الأربعين متراً، ما يؤدي إلى صعوبة انتشال الجثة.
وينبّه إلى أن عملية الإنقاذ يجب أن تحتمل ثلاث أو أربع دقائق، مع المباشرة فوراً بتقديم الإسعافات الأولية وإخراج المياه من رئة الغريق، فذلك أفضل من نقله إلى نقطة طبية من دون إسعافات أولية، لأن فارق الوقت ليس لصالحنا، فكلما زادت المدة عن أربع دقائق يصبح احتمال الوفاة أكبر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 16 ساعةوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 16 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت