شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
مليونيريو قريش وأسباب ترفهم قبل الإسلام

مليونيريو قريش وأسباب ترفهم قبل الإسلام

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الاثنين 24 يوليو 202303:05 م

من الطبيعي القول إنّ مكة في الجاهلية كانت مدينةً دينيةً وتجاريةً عظيمةً ولها نفوذ سياسي واسع في المنطقة العربية، فالكعبة هي قبلة العبّاد العرب ومثوى أفئدتهم، يحجّون إلى أوثانهم وأصنامهم فيها، وتقيم لهم قريش الأسواق والأعياد، وأشهرها سوق "ذي المجاز"، و"المجنة"، و"عكاظ" التي كانت أكبر أسواقهم، تقام في كل عام بالقرب من عرفات منذ منتصف ذي القعدة إلى نهايته، ولم تكن سوق تجارة فحسب، بل كانت سوقاً للشعر والخطابة أيضاً. ويذكر الجاحظ في "المحاسن والأضداد" بعض أخبارها، وأنّ منها من كان حداداً أو نجاراً أو خياطاً أو جزّاراً أو صانع بُرم.

كل ما تقدّم يدلل على أهمية مكة السياسية والتجارية والمالية والثقافية، وسنحاول في هذه الورقة أن نحيط بسبب تسمية قريش بهذا الاسم، فقد تبيّن أن الدافع من وراء التسمية تجاريّ، وسنتطرق إلى النظام التجاري المعقّد في مكة في الجاهلية، كما سنعرض وجوه ترف المجتمع الحجازي في الجاهلية وأسبابه وأشهر العائلات الموسرة حيث بلغ الترف والثراء حدوداً واسعةً.

قريش... أصل التسمية تجاري

غني عن البيان أن نسب قريش يعود إلى عدنان حفيد إسماعيل عليه السلام، وتتسلسل منه، كما ذكر الدكتور نبيه عاقل في كتابه "تاريخ العرب القديم والعصر الجاهلي": عدنان، معد، نزار، مضر، إلياس، مدركة، خزيمة، كنانة. ومن كنانة جاء النضر، وهو أول من سُمّي بقريش. ويتسلسل أجداد الرسول الكريم بعد كنانة على الوجه التالي: كنانة، النضر، مالك، فهر، غالب، لؤي، كعب، مرّة، كلاب، قصي، عبد مناف، هاشم، عبد المطلب، عبد الله، محمّد.

كانت الحقبة الأخيرة من العصر الجاهلي حقبةً ذهبيةً لتجارة مكة بسبب ما كان بين الفرس والروم من تصادم، فكانت مكة مركز كل القوافل والتجارة الذاهبة إلى الشمال والمنحدرة إلى الجنوب أو الشرق.

إن أردنا التحقق من سبب تسمية النضر بن كنانة، بهذا الاسم، لوجدنا أكثر من رأي.

يذكر اليعقوبي في الجزء الأول من تاريخه، أن النضر بن كنانة كان أول من لُقِّب بقريش، والسبب في ذلك تجارته ويساره وأنه كان يقرّش عن حاجة النّاس فيسدّها بماله.

ويذكر سبباً آخر هو أن أمّه سمّته قريشاً (تصغير قرش)، تشبيهاً بدابّة في البحر تُسمّى قرش.

وفي رأي آخر، يذكر الطبري في الجزء الثاني من تاريخه، وابن سعد في طبقاته، أن قريشاً هي من التقرش بمعنى التجمع.

وفي سياق متصل يدلي الشيخ سعيد الأفغاني، برأيه في هذه المسألة في كتابه "أسواق العرب"، بقوله: "يستبعد الذهن أن تكون دابة البحر هي التي أوحت بهذا الاسم، ولو روي هذا القول عن ابن عباس، لبُعد العرب حول مكة عن البحر وجهلهم حيوانه، ففي هذا الشرح تكلّف ظاهر، والذي لا يجد المرء غيره مذهباً يرتضيه هو أن تكون قريش من 'القَرش' بمعنى الجمع، لما كانوا يتعاطون من التجارة وجمع المال، إذ كانوا معروفين بذلك عند العرب عامةً. ذكر ابن هشام أن التقرّش: التجارة والاكتساب، وأنّ القروش أيضاً التجارة والاكتساب وأتى على ذلك بشاهد من كلام العرب". نستنتج من كلام الشيخ سعيد الأفغاني، أن أصل التسمية تجاري ومالي بحت وليس تشبيهاً بالقرش الذي يعيش في البحر، وفي اعتقادي المتواضع أن هذا هو التفسير الأقرب إلى الواقع التجاري والمالي النشط الذي كانت تشغله مكة في تلك الحقبة الزمنية.

نظام ومعاهدات تجارية معقدة

يذكر ابن الفقيه في "كتاب البلدان"، أن أهل مكة لم يؤدّوا في الجاهلية إتاوةً قط، بل كانت قريش تأخذ من العرب إتاوةً تُسمّى الحريم، كان يدفعها كل من نزل مكة في الجاهلية.

كما يذكر الأزرقي في كتاب "أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار"، أن قريشاً كانت تأخذ إتاوةً من التجار الأجانب الذين يقيمون فيها، وكانت تسمّي ذلك العشور، حيث كان تجار فارس وبيزنطة يقيمون فيها، وهذا ما يفسر إسلام كل من الصحابيَين صهيب الرومي وسلمان الفارسي.

ويتحدث هنري لامنس في "كتاب مكة"، عن الأنظمة والمعاملات التجارية التي كانت تطبّقها الأخيرة في الجاهلية، ويذكر المكاييل والموازين، والبيع الحاضر وبيع النسيئة أو البيع المؤجل، كما كان هناك الربا والمضاربة التي تعني أن يتاجر شخص ما بمال غيره ويعطي صاحب الرأسمال كما نسميه حالياً أو الممول، قسماً من الأرباح له، وهذه هي الطريقة التي اتفقت عليها السيدة خديجة مع الرسول الكريم حين تاجر لها، قبل زواجه منها.

يروي صفي الرحمن المباركفوري، في كتابه "الرحيق المختوم"، قولاً لابن اسحق في هذه الحادثة: "كانت خديجة بنت خويلد امرأةً تاجرةً ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم".

كما يقول لامنس قولاً له دلالة عظيمة: "مكة كانت تشبه مصرفاً كبيراً، وكان الربح في المصرف عظيماً". وهنا نستذكر أنّ الربا كان مضاعفاً وتالياً الأرباح كانت مضاعفةً ولهذا ورد تحريمه في القرآن الكريم.

يذكر كل من اليعقوبي والطبري، أن تجّار قريش عقدوا معاهدات مع القياصرة والنجاشيين والأكاسرة، كما عقدوا معاهدات بينهم وبين القبائل التي تمر قوافلهم التجارية بها، لضمان سلامة القوافل وعدم التعرّض لها. أضِف على ذلك أنّ التجارة ازدهرت في مكة في أثناء العهد القرشي، إذ أصبحت تحتكر تجارة العرب، ومحطةً كبيرةً للتجارة الآتية من الجنوب، تجارة اليمن وما يأتيها من الهند والحبشة. وكانت أيضاً تأتيها من الشرق قوافل محمّلة بتوابل الهند.

وكانت الحقبة الأخيرة من العصر الجاهلي حقبةً ذهبيةً لتجارة مكة بسبب ما كان بين الفرس والروم من تصادم، فكانت مكة مركز كل القوافل والتجارة الذاهبة إلى الشمال والمنحدرة إلى الجنوب أو الشرق، وكانت قوافلها تذهب إلى غزة ومنها إلى مصر، وإلى بصرى في سوريا، وكانت تبلغ القافلة نحو 2،500 بعير.

بيوت قُرشيّة ثرية

إذا بدأنا بالحديث عن البيوت الثرية، فلا بد من الإشارة إلى بيتَين عُرِفا في مكة قبل الإسلام، بالثراء: بيت الأمويين وبيت المخزوميين.

يروي صاحب "الأغاني" أبو الفرج الأصفهاني، أنّ عبد الله بن أبي ربيعة، الملقب بـ"العِدل"، وهو والد الشّاعر عمر بن أبي ربيعة، كان له الكثير من عبيد الحبشة، يعملون في مهن كثيرة ومتعددة، حيث عرض على الرسول الكريم أن يستخدمهم، ويستعين بهم، حين خرج إلى حنين، إلا أن الرسول لم يقبل هذا العرض السخي منه.

بلغ الترف حدّاً واسعاً لدى أشراف قريش في الجاهلية، حيث أنهم كانوا يصيِّفون في الطائف ويشتّون في جدة. كما كانت لأبي سفيان ضيعة في الشام ينزل فيها حين تجارته.

وكان "العِدل"، تاجراً موسراً "مليونيراً" كما نسمّيه اليوم، كريم النفس، تتركز تجارته في اليمن.

وكانت قريش تلقبه "العِدل"، لأنها كانت تكسو الكعبة في الجاهلية بأجمعها من أموالها سنةً، ويكسوها هو من ماله سنةً، فأرادوا أنه وحده "عِدل" لهم جميعاً، وكان اسمه بحيرة، فلما أسلم عام الفتح سماه رسول الله، عبد الله.

وكان العرب يرددون في أوصاف المخزوميين والأمويين كلمة السيادة، وهي تعني في مكة الثراء العريض.

ويروي الزمخشري في "الكشاف"، أنه نزلت في الوليد بن المغيرة وهو واحد من سادة قريش وأغنى أغنيائها، الآيات الكريمة: " ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً".

أما الأمويون فكانوا أيضاً بيت ثراء وترف، وقد ترأس أبو سفيان قافلة بدر لأن معظمها كان للأمويين، ويقال إنّ الأرباح بلغت فيها 25 ألف دينار، وقد تنازل عنها أصحابها لحرب النبي الكريم، وفي هذا التنازل ما يدلّ على أن أصحاب هذه القافلة من ذوي الألوف المؤلفة.

وفي سيرة ابن هشام، دفع المخزوميون للرسول الكريم في فداء بعض أسراهم أربعة آلاف درهم، وافتدوا رفات قتيل يوم الخندق بعشرة آلاف درهم.

مع العلم أن هذا الثراء لم يكن خاصاً بالمخزوميين والأمويين، فنحن نجد من قبيلة أبي بكر الصديق المليونير القرشي عبد الله بن جُدعان، وكان يتّجر في الرقيق، وقد شبهه بعض الشعراء بقيصر، كما يروي البكري الأندلسي في كتابه معجم ما استعجم:

يوم ابن جدعان بجنب الحزوره كأنه قيصر أو ذو الدسكره.

والحزورة وتعني الرابية باللغة، موضع يلي البيت الحرام كانت فيه سوق مكة.

ومن أشهر الأثرياء حينئذ أسرة سعيد بن العاص، وكان لها في قافلة بدر ثلاثون ألف دينار ثمن بضاعته، وكان والده إذا لبس عمامته، لا أحد يرتدي العمامة في مكة تكريماً وإعظاماً له، لأنه سيّد من سادات قريش وكان يُلقّب بذي التّاج.

ومن أثرياء بني هاشم المعدودين العباس بن عبد المطلب، وقد افتدى نفسه يوم بدر وابنَي أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث بمئة وأربعين أوقيةً.

كانت في قريش فروق طبقية كبيرة، بين عائلات ثرية وموسرة، وعائلات أخرى فقيرة شحيحة، الأمر الذي أدى إلى ظهور حركة الصعاليك التي كانت تسعى إلى تحقيق نوع من العدالة الاجتماعية

كما روى اليعقوبي في تاريخه أن عبد المطلب دُفن في حُلّتين قيمتهما ألف مثقال من ذهب.

ويذكر الجاحظ في "المحاسن والأضداد"، أن هنداً بنت عبد المطلب عمّة الرسول الكريم، أعتقت في يوم واحد أربعين رجلاً من عبيدها. ولعل هذه الرواية تدلل على أمرين؛ أن الثراء لم يكن محصوراً في الرجال فقط في مكة، بل كان للنساء منه نصيب وافر، حيث تروي المصادر التاريخية أيضاً، أن هند زوجة أبي سفيان كانت تتّجر في قبيلة كلب في الشام، والثاني أن العبيد كانوا متواجدين بكثرة على أرض مكة.

الشّتاء في جدة والصّيف في الطائف

بلغ الترف حدّاً واسعاً لدى أشراف قريش في الجاهلية، حيث أنهم كانوا يصيِّفون في الطائف ويشتّون في جدة. كما كانت لأبي سفيان ضيعة في الشام ينزل فيها حين تجارته.

ويرى الدكتور شوقي ضيف، في كتابه "الشعر والغناء في المدينة ومكة"، أن أهمية مكة التجارية والاقتصادية في العصر الجاهلي هي التي دفعت أبرهة، والي الحبشة على اليمن، لغزوها ستة 670 أو 671 للميلاد، بغية الاستيلاء على ما فيها من ثروة.

وفي اتجاه آخر، نجد أنه كانت في قريش فروق طبقية كبيرة، بين عائلات ثرية وموسرة، وعائلات أخرى فقيرة شحيحة، الأمر الذي أدى إلى ظهور حركة الصعاليك التي كانت تسعى إلى تحقيق نوع من العدالة الاجتماعية. من جليّ القول، إنه كان لمكة دور سياسي واقتصادي وتجاري ومالي مؤثّر في تلك الحقبة الزمنية، الأمر الذي كان ظاهراً في حياة البذخ والدّعة التي كان يحياها أبناء العائلات الموسرة، وفي تأثير مكة على محيطها البدوي وقيادتها له.

وخير ما نختم به هو قول الجاحظ في كتابه الشهير "الحيوان": "إذا قالوا سيّد قريش فقد قالوا سيّد العرب".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image