شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
من عاش طفولته في الأحياء الشعبية المصرية فهو من المحظوظين

من عاش طفولته في الأحياء الشعبية المصرية فهو من المحظوظين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والفئات المهمشة

الأحد 23 يوليو 202302:48 م

لماذا لا أجد مقهى بجوار المنزل لمشاهدة المباريات؟ سؤال راودني عند انقطاع الكهرباء لدى مشاهدة أول مباراة لي في منزلي الجديد بعد الزواج، انقطع التيار الكهربائي عن المنزل وجن جنوني لمشاهدة ما تبقى من مباراة كرة قدم أتابعها.
ما اعتدته لأكثر من عقدين من شبابي هو أن الحل في مثل هذه الأمور، النزول فوراً إلى مقهى والتمتع بالحدث، ولكن عندما تسكن في المربعات السكنية التي تُسمى بالـ"كومباوند" يصبح الأمر مختلفاً. 

من الهرم إلى الكومباوند 

عشت طوال شبابي في حي الهرم بمحافظة الجيزة في مصر، الهرم وشارعها الموازي فيصل يُطلق عليهما "جمهورية منفصلة" من كثرة الزحام.
من لا يسكن في الهرم يأبى دخول "جحيم الزحام" إلا للضرورة القصوى، وإذا كنتم ممن يقودون سياراتهم بأنفسهم فأهلًا بكم في "قانون الغابة" حيث لا مراعاة لقوانين المرور هناك، ومن يسلك في الزحام هو الفائز، ويقال إن من تعلم القيادة في شوارع فيصل والهرم لا يحتاج إلى دروس لتعلم القيادة، وهو قادر على القيادة في أي مكان على سطح الأرض.
لماذا لا أجد مقهى بجوار المنزل لمشاهدة المباريات؟ سؤال راودني عند انقطاع الكهرباء لدى مشاهدة أول مباراة لي في منزلي الجديد في الكومباوند بعد الزواج

في فيصل قد تجد مقهى كل بضعة أمتار، حول منزلي لوحده سبعة مقاهٍ، دومًا ألجأ لها حال انقطاع التيار الكهربائي أو الإنترنت المنزلي وأصطحب الـ"لابتوب" وأُكمل عملي من هناك، كما أستقبل من ضيوفي من لم أستطع استضافتهم في المنزل على المقهى.
تزوجت وقررت الارتقاء بمستوى المعيشة وانتقلت للعيش في "الكومباوند" بعيداً عن الزحام، وكنت لا أملك سيارة وقتها، وظللت ما يقارب الـ8 أشهر غير معتاد على الهدوء القاتل، الملل.

أين الصخب؟ أين أصوات الشجار؟ أين إزعاج آلات تنبيه السيارات؟ أين البقالة والمطاعم والصيدليات المفتوحة 24 ساعة؟ لن أقدر على العيش هكذا.

هتروح تسكن في الصحرا؟   

"والله لو إدوني فلوس ما آجي أعيش هنا"، كانت هذه كلمات والدي وهو يتفقد معي مدينة 6 أكتوبر إحدى المدن الجديدة بالجيزة والتي أعيش بها حالياً، أتذكر أيضًا صديقاً لي في الطفولة كنا نسخر منه عندما علمنا بقرار أهله بشراء منزل في أكتوبر وخطتهم للانتقال من فيصل، كنا نقول له "هتروح تسكن في الصحراء؟".
"والله لو إدوني فلوس ما آجي أعيش هنا"، كانت هذه كلمات والدي وهو يتفقد معي مدينة 6 أكتوبر إحدى المدن الجديدة بالجيزة والتي أعيش بها حالياً

الآن أصبحت بعض من أحياء 6 أكتوبر من أغلى الأحياء في مصر من حيث سعر الوحدات السكنية، ومع ذلك ظللت أفتقد العيش في الهرم وفيصل، حتى المواصلات أصبحت بعيدة عن أحياء القاهرة، في الهرم بجواري المترو وأستطيع الوصول إلى وسط البلد أو أي مكان بسهولة باستخدام المواصلات العامة، أما من يعيش في أكتوبر فالخروج منها يحسب له ألف حساب، إذ لم تمتلك سيارة فالمواصلات العامة لا تصل إلى جميع الأحياء، لذلك يضطر الكثيرون للجوء إلى التاكسي أو "أوبر" ودفع أجرة مرتفعة الثمن.
رُزقت بابنتي الأولى وتغيرت معها مشاعري، أصبحت أعشق الهدوء فجأة، اعتدت السكن في "الكومباوند"، اعتدت السير مع زوجتي وأسرتي دون زحام أو نظرات فضولية من المارة، اعتدت المجتمع المنغلق، أصبحت لا أغادر 6 أكتوبر إلا نادراً لزيارة أهلي فقط.

كافيه وليس مقهى 

الخصوصية والهدوء أصبحا سمة أساسية في حياتنا، ولكن إذا كنت شخصاً اجتماعياً تبحث عن الجيران ومشاركتهم حياتك، فالسكن في "الكومباوند" قد لا يوفر لك هذه الاجتماعيات.
علاقتي بجيراني هنا تقتصر على التحية والسلام إذا ألقيت، أرى البعض منهم لسنوات يومياً ولا أعرف أسماءهم، على عكس أي حي شعبي تجد الجيران أصدقاء وأحياناً أكثر من إخوة.
إذا امتلكت سيارة وتعيش في "الكومباوند" فأنت ملك زمانك، تستطيع الذهاب للكافيه الذي لا يُسمى "قهوة" في الكومباوند، ستتسوق من الـ"مولات" والـ"هايبر ماركت" بدلاً من البقالة والأسواق الشعبية، ولكنك لن تحصل على نفس الأسعار.
في "الكومباوند" إذا احتجت إلى "صنايعي" لصيانة السباكة أو الكهرباء سيتعامل معك على أنك ثري، الفني الذي يجد فرصة للعمل في "الكومباوند" كأنه وجد فرصة للعمل في الخليج، على العكس المناطق الشعبية.
كشباب معنا زوجاتنا وأطفالنا أصبحنا نفضل العيش في المناطق الجديدة، لا نريد العودة إلى الازدحام بعدما اعتدنا الخصوصية، عكس كبار السن من أهالينا، أغلبهم يأبون الانتقال إلى المدن الجديدة، والبعض منهم يخوض التجربة ولا يقوى على الاستمرار فيها ويعود للأحياء الشعبية.

اللعب في الشارع 

"اللعب في الشارع" تجربة عشتها بمحاسنها ومساوئها، شكلت الكثير من ملامح شخصيتي، بالاحتكاك مع النماذج الجيدة والسيئة، أتعجب من فكرة أن أولادنا قد لا يعيشونها مستقبلاً، فهذا لا يحدث في "الكومباوند" هناك نادٍ وهناك مامي وبابي دوماً يراقبونهم، هل هذا سيزيد من تعرضهم للانعزال، هل ذلك سيعزلهم عن العالم الخارجي ومع أو اختبار حقيقي مع أشخاص من الأحياء الشعبية قد لا يجيدون التعامل معهم؟ كلها أسئلة تدور في ذهني. 
صديق قبطي مقرب لي يسير بسيارته "المرسيدس" الفارهة في حي شبرا ككائن فضائي، ومع ذلك يرفض الخروج منه للمدن الجديدة، والابتعاد عن أهله وأصدقائه والكنيسة والمجتمع الذي عاش وتربى فيه 

الارتباط بالأحياء الشعبية أيضاً عند الشباب له أكثر من سبب، إما شخصي أو اجتماعي أو حتى ديني.
صديق مقرب لي "بيشوي" من أقباط مصر، يعيش في حي "شبرا" بالقاهرة حتى الآن، الحي الذي يشهد أكثر نسبة تجمع من الأقباط هناك، يسير بسيارته "المرسيدس" الفارهة في أحياء شبرا ككائن فضائي، ومع ذلك يرفض الخروج منها للعيش في المدن الجديدة، والابتعاد عن أهله وأصدقائه والكنيسة ومجتمعه الذي عاش وتربى في وسطه.

هل حقاً رمضان في الكومباوند أحلى؟  

أما الاحتفال بالمناسبات الدينية في مصر فترجح كفته لصالح إلى الأحياء الشعبية، سواء إسلامية أو قبطية، المشاركة في تزيين الشوارع والمطاعم الشعبية ودور العبادة التاريخي منها، أشياء لا يتذوقها إلا من يعيش فيها. واستخدام شعارات تجارية كـ "رمضانك أحلى"، "رمضانك معنا"، "رمضان بطعم زمان" في المولات والمطاعم الفاخرة لا يغني عن تجربة "رمضان" في أي حي شعبي.
والعجيب أن المدن الجديدة تجذب حالياً المطاعم الشعبية لفتح فروع لديها، ولكن بالطبع بأسعار مختلفة، وتجد عليها إقبالاً كبيراً من سكان "الكومباوندات"، كذلك تتعمد المولات إضافة ديكورات شعبية في رمضان كـ"عربة فول" لإعطاء إحساس الاحتفال الشعبي، ولكنه مغلف ببعض من الأسماء الإنكليزية الدخيلة علينا مثل "فول تانك"، "جرين برجر" والأخيرة تعني قرص الفلافل أو الطعمية.
لكل تجربة حساناتها ومساوئها، ولكني أرى أني من المحظوظين كوني عشت أحسن ما في التجربتين، وأرى أن خليط شخصيتي الآن يجعلني أستطيع التعامل هنا وهناك، ولكن كيف سيتعامل أولادنا من رواد "الكومباوند" والعكس مع بعضهم البعض؟

تتعمد المولات إضافة ديكورات شعبية في رمضان "كعربة فول"  ولكنها مغلفة ببعض الأسماء الإنكليزية مثل "جرين برجر" وتعني الطعمية

الإعلام والسوشال ميديا قد يُعمقان أحياناً الشعور بالفارق الطبقي بين سكان المناطق الشعبية والمدن الجديدة، هناك حملة إعلانية شهيرة كل رمضان عن مدينة في القاهرة الجديدة، تستعين بأشهر الممثلين والمطربين للحديث عن نمط الحياة الفاخر والساحر بالمدينة، وكأنهم يتحدثون عن "الجنة"، وأن من لا يسكن فيها لم يرَ الحياة، لتنطلق حملات السخرية على السوشيال ميديا سنوياً من سكان المدينة، رغم أن الكثير منهم تعود أصولهم إلى مناطق شعبية، والبعض منهم يدفع أقساط لأكثر من عقد كامل لشراء وحدة سكنية صغيرة هناك.
أصبح السكن ببعض المناطق الجديدة لمجرد شراء الاسم "إنت بتشتري كومينتي مش كام متر في شقة" وهذا ما يشرح التفاوت الكبير بين الأسعار على نفس عدد أمتار الشقة.
حتى المصايف، أصبح منها الشعبي والـ"كلاسي" وتتسبب السوشال ميديا في المبالغة في إظهار الفوارق الطبقية.
"كلنا ولاد تسعة" مثل مصري شهير يحث على المساواة دوماً، لكل منا ظروفه واختياراته، ولكن الأكيد أن من عاش طفولته في الأحياء الشعبية فهو من المحظوظين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image