يرنّ هاتفها ليذكّرها بموعد حفل اليوم، فتفتح عينيها على جدران غرفتها المتواضعة، تصحو على أصوات الباعة الجائلين في حي شعبي بشبرا، في القاهرة، ونهيق حميرهم.
تتجاهل كل هذا، وتُمنِّي نفسها بيوم صاخب ممتع. الفستان الأنيق جاهز، اشترته بنصف راتبها، ترتدي فوقه بالطو مُهلهل، لتُخفِيه تماماً عن عيون أسرتها وجيرانها، تحضِّر حقيبة يدها بداخلها "مكياجها"، وعطرها الأخّاذ الذي حصلت عليه كهدية من أحد أصدقائها.
"ما تتأخريش!"
تخرج من منزلها، وكأنها تودِّع عالماً تعيش فيه عن غير إرادتها لتذهب إلى ما تعتبره "مكانها الحقيقي"، تقف لحظات ممسكة بباب المنزل، وتشرد، وكأنما تُخبره بكُرهها له، وأمنيتها بألا تعود لنفس المكان مرة ثانية. تأخذ نفساً عميقاً، وتبتسم مُتذكرة الجانب الجيد من القصة، وهو أنها ستحظى بساعات طويلة في وضعٍ تُحبه كثيراً، فتعود لتسرح من جديد، متمنية مُعجزة كمعجزة سندريلا وحذائها الذي نقلها من عالم إلى عالم آخر، في واقع لم تعد فيه فرص الانتقال الاجتماعي أمامها وافرة، ومتاحة، من خلال العمل، أو المشاريع الاستثمارية.
تصل إلى مكان الحفل فتخلع البالطو، تضع المكياج، تهندم شعرها، تتعطر، تراجع ما ذاكرته وحفظته من كلمات إنكليزية وفرنسية، تبدّل حذاءها بآخر ذي كعب عال، تستنشق الهواء المعطّر، وكأنها لأول مرة تشعر بأنفاسها تخرج ببساطة
تصل إلى مكان الحفل فتخلع البالطو، تضع المكياج، تهندم شعرها، تتعطر، تراجع ما ذاكرته وحفظته من كلمات إنكليزية وفرنسية، تبدّل حذاءها بآخر ذي كعب عال، تستنشق الهواء المعطّر بارتياح غريب، لم تألفه من قبل، وكأنها لأول مرة تشعر بأنفاسها تخرج ببساطة دون عناء، مثلما كانت تشعر من قبل بثقل أنفاسها وكأن مجرد الشهيق يتعب جسدها بأكمله.
تستنشق الهواء المعطّر بارتياح غريب، وكأنها لأول مرة تشعر بأنفاسها.
تندمج بشكل سريع جداً مع الأجواء، وكأنها أخيراً وصلت إلى عالمها المفقود، ولكنها تظل تراقب الوجوه: أشخاص مختلفون تماماً عن هؤلاء الذين تعايشهم يومياً. تتذكر مقولة "الشقاء يُرسم على الوجوه والنعيم كذلك"، ففي طريقها إلى الحفل مرّت على رصيف يحمل مئات الأشخاص، جوعى، مشردين، يرتعشون، تذكرتهم بينما أصوات الغناء بالفرنسية تتعالى في الخلفية.
شعرت بتناقضات كبيرة، ذكّرتها بارتدائها عباءة الطبقة العليا بمجرد خروجها من منطقتها "الشعبية"، تذكّرت كم مرة خذلتها نفسها، وتركتها تائهة، ضائعة، "لامنتمية"، ليست من "ذوات الطبقات العليا"، ولا من أفراد "الطبقات الشعبية"، تجاوزت شعورهاـ وذهبت باتجاه البار لتجد أحد الأشخاص، يغدق عليها بالغزل. هنا بدأ تحوّلها إلى فتاة مدللة مرفهة، وتبادلت أطراف الحديث مستخدمة بضعة كلمات فرنسية، بعدما أخذت مشروبها الفاخر المُعتّق الذي تناولته كأنها معتادة عليه، تمايلت على أنغام أغنية "J'ai besoin de toi" باندماج شديد، وبينما هي محلقة في السماء، رنّ هاتفها من جديد: "إنتي فين الوقت اتأخر... يلا ارجعي بسرعة". أنهت يومها القصير، وعادت.
كان هذا روتين حياتي، في السهرات خارج حي شبرا الذي أسكن فيه مع عائلتي، ولطالما تساءلت: هل يشعر غيري بما أشعر به؟ خاصة النساء اللاتي يشبهنني، في طريقة تفكيري، ومكان سكني.
عالم جديد خارج الحي
ومع صعوبة تغيير الوضع، وبقاء الحال على ما هو عليه، نظرا للأزمة الاقتصادية، واعتماد الكثير من المناصب الرفيعة، والوظائف ذات الدخول المرتفعة على "المعارف"، والعلاقات الاجتماعية، يلجأ العديد إلى خلق حياة جديدة لهم خارج الأفق الضيق المُحاطين به، تماماً مثل روان (35 سنة)، تعمل موظفة شؤون عاملين في شركة استثمارية مرموقة، وتعيش هي الأخرى في منطقة شعبية.
تريد روان الانتقال إلى شقة في حي أفضل، ولكن أهل روان يعتبرون أن الأموال يجب أن تُنفق في تأمين المستقبل بدلاً من إنفاقها على مظاهر الترف، التي يعتبرونها "بلا قيمة"، فبدلاً من العيش في مكان أفضل اجتماعياً. يدخّرون الأموال في مشروع متواضع. يكنّزونها من أجل "يوم أسود"، ربما يحتاجونها فيه. ولهذا كان اختيارهم إنفاق أموالهم في بناء منزل ذو طوابق عديدة في نفس المنطقة بدلاً من الانتقال للعيش في منزل ذو طابق واحد في مستوى أفضل اجتماعياً.
"بعدما يأست من تغيير وضعي، خلقت لنفسي عالماً جديداً خارج إطار العائلة"، تقول روان، وتضيف أنها لطالما رغبت في الخروج في نزهات، وحين بدأت العمل، واندمجت مع زملاء آخرين، اكتشفت أن تدبير "خروجة غداء وسينما"، بالنسبة لها تحتاج لميزانية.
وتتذكر روان أنها تمكّنت في إحدى المرات من الالتحاق برحلة إلى نويبع لمدة أسبوع، هذا بعدما "حوِّشت" ميزانية الرحلة بعد تخطيط مُسبق امتد لأشهر، وكانت رحلتها الأولى، وبالنسبة لزميلاتها وزملائها فكانت رحلتهم مكررة كثيراً، وكذلك رحلاتهم إلى خارج مصر التي تراها هي حلم بعيد المنال.
مغامرة مليئة بالأكاذيب
رُزِقت بسمة (32 عاماً)، جمالاً ساحراً ورُزِقت معه رفضاً نفسياً داخلياً لوضعها، فهي وُلِدت وعاشت في منطقة عشوائية بوضع اجتماعي بسيط، فوالدها من صعيد مصر، ويعمل بائع خضار بعدما نزح إلى القاهرة قبل سنوات عديدة.
تقول بسمة لرصيف22 إنها أكملت تعليمها بأعجوبة، ومن خلاله تعرّفت على دائرة من الصداقات، أظهرت التناقض بينها وبين زملائها، وبدأت نزهاتها بـ"خروجات تزويغ الدروس".
تقول بسمة إن صديقاتها بالدراسة كن "يزوّغن من الدروس"، ويخرجن بعد انتهاء اليوم الدراسي لشراء طعام ومشروب و"تمشية في الزمالك مثلاً"، وكانت تخرج معهم، وترى طريقة شرائهم، ودائماً ما كانت تعلل بأنها لا ترغب في الطعام، نظراً لأنها لا تملك الأموال مثلهم.
وكبرت دائرة "معارف" بسمة، وتحوّلت "الخروجات" لمغامرة كبيرة، مليئة بالأكاذيب عن بيئتها وسكنها وعمل والدها، فتقول إنها كانت ترتدي "عباءة سوداء" حين تخرج من منزلها ثم تخلعها وهي داخل التاكسي، تماماً كما يحدث في الأفلام، بحسب تعبيرها. لا تخفي أنها كانت تتحسر دوماً على نفسها وتتساءل لماذا لم تُرزق بمستوى مماثل لأصحابها.
كانت بسمة ترتدي "عباءة سوداء" حين تخرج من منزلها ثم تخلعها وهي داخل التاكسي، تماماً كما يحدث في الأفلام.
وأما صفاء (34 عاماً)، تعمل في إحدى شركات الـ "كاستنج"، تسكن منطقة شعبية في القاهرة، فيمثل لها الانتقال من حيها إلى مكان العمل رحلة معاناة يومية بين ما تعيشه فعلياً، وما "تمثل" أنها تعيشه.
"شغلي بيخليني أقابل يومياً عشرات الممثلين والممثلات والمنتجين الفنيين والمخرجين ودُول من الطبقة العُليا في المجتمع"، تضيف صفاء، وتوضح أنها تبذل جهوداً كبيرة جداً لتُجاري الوضع في عملها، وألا تظهر أقل ممن تتعامل معهم، وتخشى أن تخطئ في نطق كلمة ما تُظهر أنها ليست كما تدعي من طبقة اجتماعية ومادية مرتفعة.
تبحث صفاء عبر الإنترنت عن النطق الصحيح لأسماء الماركات العالمية، والأماكن التي تذهب إليها للغداء أو الحصول على مشروب، وتحفظهم عن ظهر قلب، وأنها تتمرن دوماً على الحديث مثلما يتحدث، ويتصرف الأشخاص في "مجتمعها الافتراضي"، كما تسميه أحياناً.
تلجأ صفاء إلى حيلة شراء الملابس من وكالة البلح، وهو سوق كبير للملابس المستعملة في القاهرة ذات ماركات عالمية شهيرة، فتشتري منه ملابسها وتتفاخر فيما بعد بأنها ترتدي من ماركة ما. وتقول إن الخدعة دوماً ما تنطلي على الجميع لأن أسلوبها في الحديث وطريقة تعاملها تؤكد أنها من طبقة اجتماعية عُليا.
ولكن صفاء تمتعض من هذه الطريقة، ففيما ترى من حولها يتعامل ببساطة شديدة، مع شراء ما يلزمه، تبذل هي جهوداً مضنية لفعل مثل هذا الأمر.
"أشعر بضياع شديد".
ويختبر الرجال أيضا في المناطق الشعبية مشاعر شبيهة، إبراهيم (27 سنة)، مهندس، من أسرة محدودة الدخل، يوضح لرصيف22 أنه يشعر بضياع شديد، فهو محسوب على الطبقة الأقل من الوسطى ويعيش في منطقة شعبية جداً، وفي الوقت نفسه اجتهد كثيراً حتى أصبح مهندساً، وبات يعمل في شركة راقية، ومن خلالها كوّن صداقات "من ذوي الطبقات العليا جداً، يعيشون ترفاً مبالغاً فيه"، حسبما يصف إبراهيم.
يحكي إبراهيم لرصيف22 موقفاً أشعره بأنه "فقير معدم"، فيقول إنه اتفق مع أصدقائه على الخروج في رحلة ليومين بإحدى المناطق الساحلية، فوجد أحدهم يتفاجأ براتبه الشهري من الشركة يصل لحسابه، فيقول باستهتار شديد إن راتبه وصل وهو ليس لديه الوقت لـيستلمه وبهذا يصبح لديه راتبين، فيقول: "إيه ده مرتبي نزل، شوية فكّة ملهمش لازمة، أهو الواحد بيتسلى"، وهنا شعر إبراهيم بضآلة شديدة فهو يحلم كل شهر بموعد الراتب الذي يعدّ عيداً بالنسبة له.
"العولمة أفقدتنا الانتماء"
لم يعد التنزه لروان وبسمة وصفاء، مجرد راحة واستمتاع من أعباء الحياة، ولكن توتر، وانكشاف أمام "عالم آخر" يشعرهن بالضآلة أحيانا، ويفقدهن إحساسهن بـ"الانتماء"، يعلق دكتور أحمد هلال، أستاذ الطب النفسي في جامعة القاهرة، قائلا: "عصر العولمة ميّع الشخصية المصرية، وأفقدها هويّتها، إلى أن أصبح الانتماء للأصل أمراً غير موجود، وهذا سرّ حالة التخبط الذي يشعر بها الكثير من أفراد الطبقات الشعبية".
ويضيف هلال لرصيف22: "المعضلة في النظرة إلى البيئة، فقديماً كان التفاخر بالانتماء للبيئة البسيطة سمة أساسية، إلا أن اليوم فقد الأشخاص الانتماء لأصولهم نظراً لأنهم ينظرون للأمر من منظور مادي فقط.".
"قديما كان الواحد بيقول أنا من منطقة فقيرة، بس فقير محترم ومثقف، يعني تفتخر بأصلي، أما الآن فباتت تستخدم كلمة "بيئة" كمسبّة، حيث أصبح يقال "ناس بيئة"، بمعنى أشخاص ذو مستوى مُنحطّ"، بحسب هلال.
"قديما كان الواحد بيقول أنا من منطقة فقيرة، بس فقير محترم ومثقف، يعني بافتخر بأصلي، أما الآن فباتت تستخدم كلمة "بيئة" كمسبّة، حيث أصبح يقال "ناس بيئة"، بمعنى أشخاص ذو مستوى مُنحطّ"
يتصور هلال حياة هؤلاء النفسية والاجتماعية كالآتي: "لسان حال البعض أنهم يعيشون وسط ناس "مش حلوة"، ودوماً ما يتمنوا يوماً ما التخلص من محيطهم الاجتماعي، وتغيير منطقة سكنهم، يعيشون في حالة حقد على منطقتهم وجيرانهم ورفض تامّ لهم، وهو ما يدفع بهم إلى وضع أنفسهم في وسط آخر ومن ثمّ يتقمصون شخصية الوسط الجديد، وفي النهاية يكون لا نافع يكون جزء من المجتمع الجديد، ولا نافع يرجع لأصله، والسبب في هذا هو نظام تثقيف فاشل، أسفر عن تشكيل طبقات لم تحافظ على هويتها وانتمائها".
وفي دراسة توثيقية تحليلية لدكتورة هويدا عدلي رومان، بعنوان "الطبقة الوسطى في مصر"، تؤكد أنها من أكثر الطبقات التي استفادت من تحولات ما بعد 1952، وأيضاً من أبرز الطبقات التي تعاني الآن مما يحدث من تحولات وتغيرات اجتماعية، فهي طبقة تتميز بمرونة ومطاطية وهلامية، فمصطلح الطبقة الوسطى يعني طبقة تجسّد صفات تخص الطبقة العاملة، مثل عدم ملكية وسائل الإنتاج وبالتالي الترفيه، وفي نفس الوقت تجسّد صفات تخص البرجوازية من حيث الاشتراك بدرجات متفاوتة في إدارة رأس المال والسيطرة.
كما أنها تتسم بعدم التجانس والتباين الشديد، فهي تضم فئات متنوعة جداً ذات مستويات اقتصادية واجتماعية وثقافية مختلفة، وأيضاً ارتباطات سياسية ومصلحية متنوعة، فالتفاوت سمة أساسية داخل هذه الطبقة على كل المستويات: التعليم، الدخل، المكانة، الهيبة وفرص الحياة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...