"علينا أن نخاطر بتخطي الحدود المفروضة لأجل أولئك الذين ينطلقون اليوم في رحلتهم السينمائية. أولئك الذين يصنعون أفلامهم الأولى يجبرون على فعل ما يقال لهم، يسمحون للرقابة بتشويه أفلامهم. إذا لم نواجه الرقابة، فإن الأمور ستؤول إلى وضع أكثر سوءاً بالنسبة لصانعي الأفلام الشباب، وهذا يعني أن هذه السينما لن تستمر؛ سيتم قمعها وتنتهي مع قلة من الناس الذين يصنعون الأفلام الآن. يمكن للسينما أن تعيش إذا كان لديها صناع أفلام جديدة. إذا لم نقاوم، فسيتم إغلاق الطريق أمام المخرج الجديد وبالتالي في عيون الجيل القادم سنكون مسؤولين. لا توجد طريقة أخرى". (جعفر بَناهي).
منذ العام 2010، منع المخرج الإيراني جعفر بناهي عن تصوير وإخراج الأفلام، لكن السنوات الـ13 التي أمضاها تحت الرقابة الدقيقة وفي الإقامة الجبرية، قدمت لتاريخ الفن السينمائي أساليب مبدعة في التحايل على قوانين الرقابة، فلم تقتصر هذه المرحلة السينمائية عند بناهي على إنتاج أفلام في ظل الرقابة وحسب، ولم ترض بانتقاد الواقع السياسي والثقافي الإيراني بطريقة لماحة، وإنما أيضاً أضافت إلى تاريخ السينمائي رؤى وابتكارات فيلمية خلاقة.
ولم تكن المظاهرات الإيرانية إلا في بدايتها الأولى، في الشهر السابع من العام الماضي، حين قامت السلطات الإيرانية بإلقاء القبض على المخرج جعفر بناهي، لتحكم عليه السلطة القضائية بالسجن لمدة ستة أعوام بتهمة الإخلال بالنظام العام، وقد أعلن مؤخراً إضرابه عن الطعام إلى أن يتم الإفراج عنه.
المخرج الإيراني جعفر بناهي: علينا أن نخاطر بتخطي الحدود المفروضة لأجل أولئك الذين ينطلقون اليوم في رحلتهم السينمائية. أولئك الذين يصنعون أفلامهم الأولى يجبرون على فعل ما يقال لهم، يسمحون للرقابة بتشويه أفلامهم
المخرج (بناهي) من أبرز السينمائيين الإيرانيين وعلى المستوى العالمي، ويعتبر ظهور أحد أفلامه حدثاً سينمائياً بين الفترة والأخرى. حصلت أفلامه على العديد من الجوائز، نذكر بجوائز بعض الأفلام التي تتضمنها المقالة: "البالون الأبيض"، جائزة الكامير الذهبية مهرجان كان، 1995، و"الدائرة"، جائزة الدب الذهبي، مهرجان برلين السينمائي 2000.
نقف فيما يلي على مجموعة من أفلام من إخراج جعفر بناهي:
فيلم "تاكسي": أحاديث المدينة عن الإعدام والفقر وحقوق الإنسان
تستقر كاميرا فيلم "تاكسي" (2015) داخل سيارة أجرة طيلة زمن الفيلم، ومن خلال الركاب ترصد لنا مقتطفات من الحياة السياسية والاجتماعية. الكاميرا داخل سيارة أجرة، يقودها المخرج نفسه، مدعياً أمام الزبائن أنها كاميرا لكشف السرقة، ولكل راكب وراكبة حكايته/تها التي تعبر بدقة عما اختاره بناهي في كتابة السيناريو ومن شخصيات لتكون نماذج الحياة الاجتماعية والثقافية. ونذكر أن المخرج حين حقق هذا الفيلم كان ممنوعاً من التصوير وإخراج الأفلام، فلجأ إلى كاميرا مثبتة في سيارة أجرة كفكرة للتحايل على الموانع المهنية.
من بين الشخصيات العديدة التي تظهر في الفيلم، يتعرف الجمهور على هويات حقيقية لاثنين منهما؛ الأولى هي المحامية الناشطة في حقوق الإنسان الإيرانية (نسرين سُتوده) ويجري بينها وبين بناهي حوار عن أحد المعتقلين السياسيين وعن أوضاع السجون، وعن الصعوبات التي تواجهها المحامية في سبيل القيام بعملها في مجال الدفاع عن حقوق السجناء، وتحمل الناشطة الحقوقية وردة طيلة المشهد المخصص لها داخل السيارة؛ مشهد أشبه بالتحية المباشرة لهذه الشخصية الحقوقية والقانونية.
المخرج الإيراني جعفر بناهي: "إذا لم نواجه الرقابة، فإن الأمور ستؤول إلى وضع أكثر سوءاً بالنسبة لصانعي الأفلام الشباب، وهذا يعني أن هذه السينما لن تستمر"
الشخصية الثانية المعروفة، والتي تكتسب حكايتها أهمية خاصة، هي "حنا" (10 سنوات) ابنة أخت بناهي الصغيرة التي تلجأ إلى قريبها المخرج لمساعدتها في تمرين مدرسي عن تصوير فيلم من الحياة الواقعية، كما طلبت منهم المعلمة في المدرسة، لكن حنا تحار في فكرة فيلمها، ولا تتوقف عن مساءلة المخرج بناهي عن أفلامه وأفكاره.
"ما هي الفكرة التي نصورها من حياتنا اليومية لتصلح فيلماً جميلاً؟" هذا السؤال الطفولي لا يلبث أن يحتل المساحة الأساسية من الفيلم، حتى يدرك المتلقون أن المخرج يساءل نفسه، سينماه، وفكره الفني، عبر حكاية ابنة أخته الباحثة عما تصوره من الوقائع لتمرينها المدرسي.
"هذا ليس فيلماً": الفيلم بين أسئلة الرقابة السياسية وتعريف الفن السينمائي
"هذا ليس فيلماً" (2011) تجربة فريدة سينمائية في صناعة فيلم داخل منزل مغلق. الفيلم هو محاولة لتحقيق فيلم من قبل مخرج ممنوع من العمل ومحكوم عليه بالإقامة الجبرية، وبهذا البحث في الكيفية التي يمكن فيها صناعة فيلم في هذه الظروف، يصبح الفن السينمائي كله تحت المساءلة.
ولذلك فالفيلم هو سؤال عن النوع الفيلمي السينمائي أولاً، وثانياً فيلم عن الإخراج في ظل الرقابة. ماهي السينما؟ يقرأ بناهي سيناريو فيلمه المنشود، يروي عن فتاة في حالة انتظار عند شباك يطل على شارع عادي، حكايته عن هذه الفتاة في حالة الانتظار. إنها الحال التي يعيشها هو أيضاً.
منذ العام 2010، منع المخرج الإيراني "جعفر بناهي" عن تصوير وإخراج الأفلام، لكن السنوات الـ13 التي أمضاها تحت الرقابة الدقيقة وفي الإقامة الجبرية، قدمت لتاريخ الفن السينمائي أساليب مبدعة في التحايل على قوانين الرقابة
يشرح بناهي شعور السينمائي الممنوع من تحقيق الأفلام، فيقول: "أريدكم أن تضعوا أنفسكم مكان صانع أفلام لا يجيد سوى صناعتها، ولا يحب سوى تلك الصناعة، كم 20 عاماً لديّ لأضيعها؟ إنني لا أستطيع أن أبقى خاملاً وأهدر حياتي. هذا ليس إفراجاً؛ خرجت فقط من سجن صغير لأحبس في آخر أكبر".
"ستائر مغلقة": الفنان المراقب في عمق الرقابة واليأس
في فيلم "ستائر مغلقة" (2013) نتابع كاتب سيناريو غير مسمى، يعتزل في فيلا قرب شاطئ البحر، يخفي معه كلباً، يسميه "صبي"، وهذا الإخفاء يأتي لمنع تربية الكلاب في المجتمع الذي يعيشه. يحاول أن يكتب أفكاراً عن فيلم، يحلق شعره كاملاً لإخفاء هويته، ويسدل الستائر الحاجبة للأنوار وأنظار الآخرين إلى منزله، وفي ليلة فوضوية في خارج المنزل، تدخل عليه "مِليكا" برفقة أخيها، وهما يهربان من سهرة على البحر كانا قد شربا فيها الكحول، ويفرضان وجودهما على الكاتب المنعزل.
يتضح في الفيلم التداخل في السمات بين شخصية الكاتب وشخصية بناهي؛ كل واحد منهما مبدع في عزلة، يعمل من داخل المنزل، ويشعر بالرقابة التي تبقيه في حالة من القلق والانطوائية. في أحد مشاهد الفيلم، يحمل الكاتب كاميرا ويسرد أفكاره إليها مما يذكر بسلوكيات جعفر بناهي في "هذا ليس فيلماً".
هذا الفيلم يصف الفنان في لحظة العزلة التامة بسبب المحاذير والرقابة راقداً في قاع اليأس والخوف من الآخرين، ومتخفياً من محيطه الاجتماعي والسياسي. وإن بدأت أفلام جعفر بناهي بعد الحظر بنوع من الأمل والحيوية في اختراق الموانع فإن فيلمه الحالي يصور حالة شعورية من العجز والعزلة، ولكن أيضاً يطرح سؤال فكرياً عن الفن في محيطه الاجتماعي والسياسي.
فيلم "البالون الأبيض": أحلام الطفولة في متاهة الواقع السياسي والاجتماعي
تدور أحداث فيلم "البالون الأبيض" (1995) الذي أﺧﺮجه جعفر بناهي وكتب له القصة والسيناريو والحوار برفقة عباس كيارُستَمي، عشية الاحتفال بالعام الجديد، حين تُضيع الطفلة راضية ورقة نقدية أخذتها من أمها لتشتري السمكة الجميلة ذات الزعانف التي رأتها في محل بائع الأسماك، وتظل على مدار الفيلم تحاول استعادتها لتتجنب عقاب الأم.
إنه فيلم عن الطفولة في وجه العقبات الاجتماعية والسياسية التي تشكل عوامل الحياة والمدينة من حولها. في مقاله "أفلام الطفولة في السينما الإيرانية" يكتب أحمد القاسمي: "قد يبدو اللجوء إلى عالم الطفولة هروباً من عالم الكبار وخضوعاً لمقص الرقيب، وقد يبدو المخرج متواطئاً ضد الحقيقة، ففي (البالون الأبيض) يبدو العالم جميلاً، ويبدو الكل متضامناً مع الشقيقين في محنتهما مساعداً لهما، فترافق السيدة العجوز راضية وهي تبحث عن الخمسمئة تومان. كما يبدو بائع السمك لطيفاً يعدها بعدم بيع السمكة لغيرها، ويحاول الجندي أن يؤنسها وهي تنتظر حلاً لمعضلتها، والخياط يطمئنها بأن لا خوف على مالها العالق في البالوعة، وأن صاحب المحلّ سيعود بعد أسبوع، وأنها ستستعيد مالها بكل تأكيد.
ولكن مجريات القص تكشف لنا أنّ ما نراه ليس سوى الوجه المخادع، أما القفا فشأنه مختلف، فالأب لا يحضر غير صوت آمر ناهٍ متذمر، فلا يفتقد أبناءه الذين تأخروا، ويظل على مدار الفيلم يغتسل استعداداً لاستقبال العام الجديد".
فيلم "الدائرة": النساء في دوائر السجون والقيود
حكاية فيلم الدائرة تدور حول نساء خرقن القانون وخرجن عليه بطريقة ما فكان مصيرهن السجن. يبدأ الفيلم حكاياتهن بعد الإفراج عنهن في مغامرة عودتهن إلى المجتمع الإيراني مجدداً، ما سيشكل لهن دائرة سجنية أخرى.
تكتب ناديا خضور في مجلة الحياة السينمائية العدد 53: "فيلم (الدائرة) يقدم ساعة ونصف من وقائع أحداث جارية. إنه يروي بشكل أوسع وأفضل من عدة ساعات من الريبورتاج التلفزيوني عن النظام الديني والبوليسي في إيران.
وينتقل الفيلم من الأمومة إلى المنفردة في السجن، ومن طريق ليلي ملغوم حيث تقطف براءة فتاة، إلى تشبيك زهري لزقاق حيث تؤخذ أخرى في الفخ. تتحرك كاميرا الفيلم بين هذه التفاصيل من خلال أبواب وشبابيك وأسوار، ويمسك تماماً بتسلسل اللقطات المتوترة والمرتعشة.
ولا ننسى النظرات المسروقة الشهوانية أحياناً، والمليئة بالقلق في أحيان أخرى، لتلك الفتيات الفارسيات القادرات على كل شيء". بينما يبين المخرج: "بأنه لا يمس أية محظورات فرضتها الدولة، فهو ببساطة يتناول مشكلة إنسانية واجتماعية، وأعتقد أن أي إنسان في كل العالم يعيش داخل جزء من الدائرة؟ وكلنا نتفق على رغبتنا في توسيع تلك الدوائر أو الخروج منها، لأنه لا يوجد بيننا من يريد أن يبقى داخل حدود ما تريده لدولة".
لم تكن المظاهرات الإيرانية إلا في بدايتها الأولى حين قامت السلطات الإيرانية بإلقاء القبض على المخرج جعفر بَناهي، لتحكم عليه بالسجن لمدة ستة أعوام بتهمة الإخلال بالنظام العام
في الختام
هذه الوقفة على أعمال المخرج جعفر بناهي لم تكتمل عناصرها وأدواتها إلا مع الحدث السياسي والاجتماعي الجاري اليوم في إيران، حيث تستمر المظاهرات الشعبية المطالبة بالتغيير، وتحتل موضوعة حقوق المرأة، والقمع السياسي، والواقع الاقتصادي محوراً أساسياً من قضايا التظاهرات وكذلك قضايا أفلام جعفر بناهي التي بيناها.
قوة مضامين أفلام المخرج بَناهي لا تقتصر على جانب النقد السياسي والثقافي التي تتضمنه، بل أيضاً بما أضافته على تاريخ السينما من تقنيات في صناعة الفيلم في ظل الموانع والقيود، التجربة التي عايشها المخرج شخصياً وجعلها محور تجريب في أفلامه، فقدم فيها أسئلة رائدة على مستوى تعريف الفيلم السينمائي، وإمكانيات السرد بين الحكاية والفيلم والتجريب الفني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين