شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
أتعرف أين تكمن جريمتي؟… إنها في رَحِمي

أتعرف أين تكمن جريمتي؟… إنها في رَحِمي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

صدّقتُهُم لسنوات طويلة أعجز عن إحصائها، وتبنّيتُ أوهامهم وآمنت بمعتقداتهم حتى عشعشت في عقلي، فهمد وغاب لوقت سحيق تمَددَ وطالَ في انتظار قبلة توقظه من سباته العميق. لم يستفق عقلي الغائب في سبات عميق إلا حين لامسته أنامل الفلسفة الماسية.

سحبتني من كهفي المظلم لأقابل مجد الكلمة الحرة بألقها وسطوتها الآسرة! لمن تكتبين أيتها الهاربة من قفص الجماعة الآمنة في سجنها؟ جماعة تُقدّس الأسوار وتهلل لقائد أعمى يدفعها نحو الهاوية.

هذه أنا أخاطب نفسي وقد استللت القلم من غمد جراحي لأكتب حكايات سمعتها، عشتها، تخيلتها وأبدعتها، حكايات طاردتني حين سكنتني، فأجبرتني على البوح بمكنوناتها لتَخرج إلى العلن عاريةً متباهيةً بحقيقتها المجردة. سحبتني الكتابة إلى عالمها منذ عقودٍ. كنت أحمل القلم لأكتب كي أجد نفسي، لم أتعرف إلى ذاتي إلا من خلال الكتابة.

هذه أنا أخاطب نفسي وقد استللت القلم من غمد جراحي لأكتب حكايات سمعتها، عشتها، تخيلتها وأبدعتها، حكايات طاردتني حين سكنتني، فأجبرتني على البوح بمكنوناتها لتَخرج إلى العلن عاريةً

كانت البداية مع مجرد حكاية عن امرأة وقعت في الحب، فإذا بنساء أخريات ينهضن من أعماق اللا وعي ويقعن فوق أوراقي بحكاياتهن وقصصهن الزاخرة بالمعاناة. فكرت في أنني أغالي وأبالغ في تصوير أوجاعهن، فرحت أبحث بين طيات أوراق التاريخ المصفرّة عن تاريخهن، فإذا بي أمام امرأة تجمع الثمار وتحاول التركيز على اللون والنوع لتتأكد بأنها ليست ثماراً سامةً، تحمل الطيّب والمُفيد منها إلى مأواها لتطهو وتطعم الأطفال، تصنع الملابس كما تصنع الأدوات الضرورية للحياة اليومية وتطورها، وتُعين ذلك الصياد الذي يعود كل يوم مع طريدة مختلفة.

أُقلّب صفحات كتب التاريخ فأتعرف إلى امرأة فلاحة تعرف الأرض وكيفية الاعتناء بها، بيد أنها تُطرد من تلك الأرض وتُنزع منها مختلف الوظائف التي قامت بها نساء كثيرات في العصور الوسطى، كالمداواة بالأعشاب، مساعدة نساء أخريات في أثناء الإنجاب، إلخ، حتى أنهم اضطهدوها وعذّبوها لمجرد أنها لم تتزوج. قالوا عن تلك النساء "ساحرات"، فأضرموا النار بهن ليحترقن مع أحلامهن!

أتعلم أين تكمن جريمتي؟ تكمن في رحمي! عاقبوني على فعل الأمومة، فحرموني من عيش الحياة! هذا ما قالته جارتي العجوز لزوجها يوماً.

بدا كلامها حينذاك مبهماً، أما اليوم فأستعيده في كلّ لحظة أتعرف فيها إلى امرأة ناضلت لتأخذ حقها في التعليم والعمل والانتخاب وجعل قوانين الأحوال الشخصية مدنيةً وبعيدةً عن أيادي رجال الدين. لقد لجأت إلى الكتابة وحولتها لتصير ملاذي الآمن، لأنها تنتشلني من تحت عجلات الأيام القاسية.

أتعلم أين تكمن جريمتي؟ تكمن في رحمي! عاقبوني على فعل الأمومة فحرموني من عيش الحياة! هذا ما قالته جارتي العجوز لزوجها يوماً.

أحياناً تستفز كتاباتي الذكورية المتجذرة في نفوس البعض، فتشرئب أقلامهم وتلعلع كلماتهم لتحجيم من أرادت الكتابة خارج سياق ما حُدّد لها مسبقاً من قبل المجتمع الأبوي، الذكوري بامتياز. يرى البعض أن جريمتي تتجلى في ذلك الاعتراف الذي يكشف أنني خلال طفولتي كنت أنسب نفسي إلى أمي، في الحقيقة من هنا تبدأ قصة امرأة عرفت أن مجتمعها لا يعدّها إنساناً يتمتع بحقوق، بل مجرد تابع محصور بجسد!

تُسيّج مجتمعاتنا المحرّمات الثلاثة وبما أنني كسرت السياج لأنقذ رواياتي، وَجُبَ عليّ خرق تلك المحرّمات. من المضحك المحزن أنهم يقرأونها باللغات الأجنبية ويحترمون كُتّابها، لكنهم يلعنون وينبذون من كتب بلغة الضاد حين يشذّ عن قواعد المألوف والممكن.

ولذلك شَكَّلت التفاصيل المتعلقة بالمشاهد الحميمة في روايتي" كالييا لحن الرغبة والهزيمة"، مفاجأةً للقرّاء. منهم من اعترض ومنهم من رَحّب!

كتبت ما أردت كتابته غير آبهة بالحدود التي وضعوها لنا لتحدّ طموحنا وتخنق أحلامنا. تحكمني قاعدة واحدة، هي عدم الأذى وكل ما عداها هو كون واسع أمتلكه وأتحكم بتفاصيله. شخصيات روايتي مفعمون بالشغف والرغبة بالعيش، تتحكم بهم ظروف غير عادلة، فنجدهم أحياناً منقادين إلى مصائرهم دون أدنى اعتبار لمشاعرهم وخياراتهم. كما أن كتاباتي تنطوي على رسائل مختلفة مثل: حق الإنسان في الاختيار، التشديد على أن المرأة هي إنسان أولاً يتم غسل دماغها منذ ولادتها وسلبها حقوقها لتصبح مجرد صدى أو خيال في مجتمع موبوء بالمشكلات والتعقيدات، المجتمع الذي لن ينهض ما دامت المرأة فيه مقيّدةً. من السهل محاكمة الضعيف المسلوب الحقوق، ولذلك يتجاهل البعض مأساة المرأة المعنّفة ويتغاضى عن مساوئ المجتمعات الذكوريّة، أو يرفض المواجهة لأن المعركة حامية الوطيس.

"كالييا" عالقة في زواج يفتقد أدنى مقوّمات الاستمرار، يساندها ابن عمها سامي، الذي فقد أهله في حادث سير. بقيت كالييا وابنتها عائلته الوحيدة. يحارب سامي حقيقة ميوله الجنسية رافضاً الاعتراف بها، فيدفع الثمن تخبطاً وإحباطاً يقودانه إلى مصير بائس. تجد كالييا ملاذها في علاقة حميمة تجمعها مع موسيقيّ محترف يُجيد عزف نغمات الحب بشتّى نوتاتها كما يُجيد عزف البيانو. نبحر مع الأحداث وشخصيات الرواية حتى نصادف من يَعكس ذواتنا ويتحدث بلسان حالنا. أعترف بأنني فقدت السيطرة على شخصيات روايتي فاستلموا زمام الحكاية ليَقصّوها كما عاشوها.

يسكنني همّ معظم مجتمعاتنا الشرقية التي ما زالت بعيدةً كلّ البعد عن احترام حقوق الإنسان. هاجس المرأة التي لم يُسمح لها بالتعلّم واختيار أي شيء في الحياة، يقلقني. زواج القاصرات، الاغتصاب الزوجي، ما يُدعى بجرائم الشرف والتعنّيف بجميع أشكاله، مصائب تتحكم بغالبية مجتمعاتنا ويتم تجاهلها في الكثير من الأحيان! كيف نقبل ونتغاضى ونتعايش مع الجرائم التي تُرتكب كل يوم تحت مسميات مختلفة؟

سهام أحرفي ليست موجّهةً نحو الرجل، فالهدف العقليّة الذكوريّة المهيمنة على مجتمعاتنا. وهذه العقلية البغيضة ليست فقط حكراً على الرجال. أطمح إلى أن يقطع نصل قلمي خزعبلات بالية حشت رؤوسنا، فأكتب عن امرأة سُجنت في قفص مسيّج بالعادات والتقاليد، سجّانها يدفع أثماناً باهظةً لتظل المرأة أسيرة عقول مريضة، ومهووسةً بما تنكره وتحتقره...

متى نعترف بحقيقة فشل نمط حياة جعلتنا أسرى للماضي فنبدأ بوضع النقاط على الحروف وتصبح كلماتنا أكثر وضوحاً وأكثر تأثيراً؟ لا تقل لي ما يجب فعله، بل اعترف بنتائج ما فعلته طوال عصور عشناها ولا زلنا نبارح مكاننا.

سكنني همّ معظم مجتمعاتنا الشرقية التي ما زالت بعيدةً كلّ البعد عن احترام حقوق الإنسان. هاجس المرأة التي لم يُسمح لها بالتعلّم واختيار أي شيء في الحياة، يقلقني

في هذه اللحظة هناك طفلة تُولد ويُغلَّف عقلها بتفاهة الموروث، فتُعدم قدرتها على الخلق والتغيير. قالوا إننا لن نستطيع فتح أبواب جديدة بمفاتيح قديمة، تذكرت ذلك وأنا أراهم يمشون على الدروب نفسها ويجترّون الحكايات ذاتها ويلهثون وراء أضغاث الأحلام.

أنا خائفة من إعدام حيواتنا إذا ما كان وجودنا يساوي عدمه، ومرعوبة من الجمود القاتل، فالحجارة الصغيرة التي تُرمى في مستنقعات تخلّفنا تكاد لا تُحرك ركود المياه ولا تُخفي رائحتها العطنة. إلى متى ننتظر بعد حتى تنفتح الأعين وتُنار العقول المظلمة؟ هل نحن من يملك الوقت أم هو من يملكنا؟ من أين لنا كلّ هذه البلادة والخذلان؟

من اللحظات النادرة التي أسعد بها هي أن باكورة أعمالي قد لاقت اهتماماً لدى البعض. وليت الحكم عليها يكون موضوعياً ومنصفاً. أما السؤال الأهم الذي يطغى على كل ما سبق: هل المرأة إنسان يملك حقوقاً وتحميه القوانين في مجتمعاتنا؟ أم أنها مجرد أسيرة لكتاب وجسد؟



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

نؤمن بأن للإنسان الحق في التفكير وفي الاختيار، وهو حق منعدم في أحيانٍ كثيرة في بلادنا، حيث يُمارَس القمع سياسياً واجتماعياً، بما في ذلك الإطار العائلي، حيث أكثر الدوائر أماناً، أو هكذا نفترض. هذا الحق هو الخطوة الأولى نحو بناء مجتمعات ديمقراطية، فيها يُحترم الإنسان والآخر، وفيها يتطوّر وينمو بشكل مستمر. لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا!/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image