من منّا لا يضحك عندما يتذكر شخصية "سمعان"، في مسلسل "الخربة"؟ و"أبو نجيب سيد راسي"، في مسلسل "زمن البرغوث"، تلك الشّخصية الكوميدية المجبولة على البخل والشّح والتّكسب والارتزاق؟ فهو بكل وضوح ربّ البخل، وأستاذ جامعي في أساليب التسوّل وطرائقه و"السّلبطة" و"اللقوطة" بلغة أهل الشّام. في لغتنا المحلية الدّارجة، تنطبق عليه كل المسميات التي تعني البخيل، فهو "حلّاب النملة" (حسب وصف "أبو نمر")، و"أبو كمونة" و"أبو جلدة" (حسب وصف رحمة زوجة جميل)، و"كحتوت" و"حثالة البروليتاريا" (حسب وصف جميل بوقعقور). ولو عدنا بآلة الزمن إلى الوراء، إلى العصرين الأموي والعباسي، لوصلنا إلى نتيجة مفادها أنّ المُضحِكين والظُّرفاء، كأشعب وبخلاء الجاحظ وغيرهم في مجتمعاتنا العربية السّالفة، هم أجداد سمعان و"أبو نجيب"، ويحملون جيناتهم الوراثية.
ومن اللافت حقيقةً، أنّ هؤلاء الأشخاص السّاخرين في مجتمعاتنا العربية القديمة، كانوا ندماء عِلية القوم وسادتهم من وزراء وخلفاء. ليس هذا فقط بل كانوا يجالسون سيّدات المجتمع الرّاقي ويتنزّهون معهنّ.
الناس في العصور الذّهبية للخلافة الإسلامية، المقترنة بانتشار الرّخاء والبذخ والرّفاه والأمان والفراغ الكبير، كانوا يميلون بشكل أكبر نحو الدّعابة والنّكتة والنّادرة والطّرفة، لتعبئة أوقات فراغهم بالترفيه والتّسلية واللهو الشّريف العفيف
تندّر النّاس كثيراً على أشعب وأشباهه، وقد أورد الحصري القيرواني وصف العرب له في كتابه "زهر الآداب وثمر الألباب": "شيطان معدته رجيم وسلطانه ظلوم. هو آكلُ من النّار وأشربُ من الرّمل. لو أكل فيلاً ما كفاه، ولو شرب النيل ما أرواه، يجوب البلاد حتى يقع على جفنة (منسف) جواد. أصابعه ألزم للشواء من سفّود الشّواء، وأنامله كالشّبكة، في صيد السّمكة".
في هذا المقام، سنسعى إلى التركيز على بعض هذه الشّخصيات الكوميدية، كأشعب والغاضريّ والدّارمي وطويس في المدينة ومكة في العهد الأموي، و"أبو العيناء" مع بعض نوادر الثعالبي في كتابه "لطائف الظرفاء من طبقات الفضلاء" في العراق في العصر العباسي.
أشعب وهوس التراند الأوّل
يذكر الحصري القيرواني المتوفى (453 هـ)، في الجزء الأوّل من كتابه "زهر الآداب وثمر الألباب"، وأبو فرج الأصفهاني (284-356 هـ)، في الجزء السّابع عشر من "الأغاني"، وابن كثير المتوفى (774 هـ) في الجزء العاشر من "البداية والنهاية"، أنّ أشعب كان يعيش في المدينة، وقد اشتهِر بطمعه إلى درجة أن ضُرِب فيه المثل، فقيل "أطمع من أشعب"، حتى أنّ ابن كثير عنون ترجمته له "أشعب الطامع"، وكان ذا شعبية طاغية بين قاطنيها، لخفة روحه ومرح سلوكه، إلى درجة أن أهل المدينة كانوا يتناقلون نوادره ومواقفه السّاخرة، كما نتناقل النكات اليوم. بدأ مُضحِك أهل المدينة حياته في منزل السّيدة عائشة بنت عثمان، مع أبي الزنّاد. وهنا أسجل بعض هذه المواقف السّاخرة التي تظهر طمعه وغباءه أو تغابيه إن جاز التعبير.
قال أشعب: "أسلمتني أمي إلى بزّاز (خيّاط)، فسألتني بعد سنة أين بلغت؟ فقلت: في نصف العمل. قالت: وكيف؟ قلت: تعلمت النّشر (القص)، وبقي الطيّ (الحياكة)، قالت: أنتَ لا تُفلِح".
وفي موقفٍ ساخرٍ آخر، قيل لأشعب: "أرأيت أطمع منك؟ قال: نعم كلبة آل فلان، رأت رجلين يمضغان علكاً، فتبعتهما فرسخين تظنّ أنهما يأكلان شيئاً".
قال رجلٌ لمعشوقته: أعطني خاتمك أذكركِ به، فقالت: خاتمي من ذهب أخاف أن تذهب ولكن خذ هذا العود لعلك تعود.
وبسبب شعبيته العارمة، كان سادة المدينة وسيداتها النبيلات تحلو لهم/ نّ، مجالسته ومرافقته، وكان ينتهز هذه الشّعبية ويقيم في بيوتهم أياماً وليالي، وهو يستغل ذلك أبعد استغلال، فيلتهم بشراهة أطيب ألوان الطعام والشّراب. وله مع السيدة سُكيْنة بنت الحسين، حفيدة الرسول الكريم، طرائف عديدة، أذكر منها التالي:
يُروى أن السيدة سُكيْنة انزعجت من أشعب، فحَلفت أن يحلقَ لحيته واستدعت الحجّام، فقالت له: احلق لحيته. فقال له الحجّام: انفخ شدقيك لأتمكن منك، فقال له: أأمرتك أن تحلق لحيتي أو تعلمني الزَمر؟!!
والجدير بالذكر، أنه كانت هناك منافسة محتدمة بينهم وبين مُضحِك آخر يُدعى الغاضريّ.
وللأخير مواقف تدلُّ على جشعه هو الآخر، لكن حسب القيرواني أنّ أشعب كان أطمع وأكثر جشعاً، ويروي الزبير بن بكار أنّ الغاضريّ شوهِد وهو يتخاصم مع أشعب عند بعض الولاة وكل واحد منهم يتهم الآخر، بـ"أنّه يدخل عليه في صناعته ويشاركه في بضاعته"، وبلغة أهل السّوق والتجار بوصف أدق، أنه ينافسه ويسرق منه زبائنه ويحاربه في لقمة عيشه وكل واحد منهم يدّعي الفقر والعوز أكثر من الآخر.
الشاعر الدارمي الساخر
يورد الأصفهاني في الجزء الثّالث من الأغاني، ترجمةً ممتعةً للشاعر الدّارمي ويذكر بعضاً من مواقفه الهزلية، وهو أيضاً يتّسمُ بالجشع والحرص، حاله كحال زميليه في المهنة الأشعب والغاضريّ، ومن هذه المواقف أن الدّارمي كان عند بعض الولاة، فأغفى الوالي، فعطس الدّارمي عطسةً مجلجلةً، ففزع الوالي فزعاً كبيراً. ثمّ استوى جالساً وقال له: أتفزعني؟ قال الدّارمي: كلا! ولكن هذا عُطاسي، فقال له الوالي: إئتني ببيّنة على ذلك (يريد الوالي دليلاً على أن الدّارمي يعطس هكذا). فخرج الدّارمي فأتاهُ برجل، فسأله الوالي: بم تشهدُ لهذا؟ قال الرجل: أشهدُ أني رأيته مرة يعطس عطسةً، فسقط ضرسه، فقهقه الوالي.
وفي حادثة أخرى، يروي صاحب الأغاني أن جاريةً طلبت من الدّارمي طِيباً (عطراً)، فتورط الدّارمي ووعدها بذلك، ثم لم يلبث أن تراجع عن وعده وقال:
أنا باللهِ ذي العزّ وبالركن وبالصخرة
من اللائي يردن الطيبَ في اليُسر وفي العُسرة
وما أقوى على هذا ولو كنت على البصرة.
لشدة بخل الدارمي، حتى لو كان أميراً على البصرة في العراق فهو لا يستطيع شراء العطر من فداحة حِرصه، فنفسه الشحيحة لا يواتيها أن تنفق المال، فالأمر عنده نفسي أكثر من أي شيء آخر.
طُويس... علامة تجارية مُسجّلة للشؤم
يورد ابن كثير في الجزء التّاسع من "البداية والنهاية"، ترجمةً لطويس المغنّي الفارسي، واسمه عيسى بن عبد الله، وكنيته "أبو عبد النعيم"، وهو من موالي بني مخزوم، ويصفه بأنه كان طويلاً أحول العين، وكان مشؤوماً، لأنه ولِد يوم مات رسول الله، وفُطِم يوم توفي الصديق، وبلغ الحلم يوم مقتل عمر، وتزوّج يوم مقتل عثمان، ووُلِد له يوم مقتل علي، رضي الله عنهم أجمعين. وطويس هذا كان علامة تجارية مُسجلة للشؤم، وقد ضُرب فيه المثل: "أشأم من طويس".
ويصفه الأصفهاني في الأغاني بأنّه كان شيخ المغنّين، وينسِب الهزجَ له، وقد كان طويس سليط اللسان مزهواً بنفسه، معتدّاً بمواهبه، ولذلك سمّى نفسه بـ"طاووس"، ولكن الناس صغّروا اسمه إلى "طويس".
أمّا عن شؤمهِ فكان هو نفسه يعترف بذلك، ويقرّ به وهو ينشد:
أنا أبو عبد النعيم/أنا طاووس الجحيم/وأنا أشأم من دبَّ/على ظهر الحطيم.
والحطيم هو الجُدر، أو حجر إسماعيل في الكعبة، وهو هنا يشير إلى مكة.
ويحكى أنّه كان يتجول يوماً، فتجمع الناس من حوله، فقال لهم: يا أهل المدينة، توقعوا خروج الدجّال ما دمت حياً بين ظهرانيكم، فإذا مت فقد أمنتم، فإن أمي كانت تمشي بين نساء الأنصار بالنمائم، وراح يذكر من مات يوم مولده وفطامه وزواجه ويوم ولِد له.
توفي طويس عن 82 سنةً، في السويد، وهي على بعد مرحلتين من المدينة المنوّرة، لأنّ عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي، طلب أن يُلقى القبض على جميع المخنثين. ولأن طويس كان منهم فقد هرب إلى تلك البقعة النائية، وأقام فيها حتى وفاته.
أبو العيناء الكفيف الظريف
يورد صاحب "زهر الآداب وثمر الألباب"، في الجزء الأول، ترجمةً لأبي العيناء المولود (191 هـ)، وشيئاً من ظرافته، ويعود بنسبه إلى الهاشميين، ويذكّر بأن جدّه الأكبر لقي علي بن أبي طالب، فأساء مخاطبته فدعا عليه وعلى ولده بالعمى، فكلّ من عمي منهم صحيح النسب!
استعرض رجل جاريةً سوداء مليحةً، فقال لها: ما اسمك؟ فقالت: مكة، فقال: الله أكبر قد قرب الطريق أفتأذنين بتقبيل الحجر الأسود؟ فقالت: هيهات لن تكونوا بالغيه إلا بشقّ الأنفس.
وقد عُرفت عن الشّاعر الهزلي، أبي العيناء، حدّة ذكائه وسرعة بديهته وسلاطة لسانه، وحبه لمنادمة الخلفاء والأمراء وإتيان مجالسهم، حيث أنه كان من نجوم مجلس الخليفة المتوكل على الله.
ذلك الخليفة الذي قال يوماً لجلسائه: "لولا ذهاب بصر أبي العيناء لجعلتُه نديمي". فقال أبو العيناء لما بلغه ذلك: إن كان يُريدني لقراءة نقش الخواتم وقراءة الأهلّة لم أصلح. فضحك الخليفة واتخذه نديماً وهذا شرفٌ لا يوازيه شرف ومرتبةٌ عاليةٌ من أسمى المراتب، يطمع بها ويطمح إليها الجميع.
وقد سأله المتوكل: كيف ترى دارنا هذه؟ فقال: يا أمير المؤمنين رأيتُ النّاس يبنون الدور في الدنيا وأنت تبني الدنيا في دارك.
ومن نوادره أنه زاحمه ذات مرة رجل بالجسور على حماره، فضرب بيديه على أذني الحمار وقال: يا فتى، قل للحمار الذي فوقك يقول: الطريق.
وفي حادثة أخرى، دخل أبو العيناء على الوزير العباسي علي أبي الصّقر، بعدما تأخّر عنه، فقال: ما أخّرك عنّا، قال: سُرق حماري! قال: وكيف سُرق! قال: لم أكن مع اللصّ فأُخبرك! قال: فلمَ لم تأتنا على غيره؟ قال: قعدَ بي عن الشّراء قلة يساري، وكرهتُ ذلّة المكاري ومنّة العَواري. وهنا يظهر بجلاء أسلوب التّكسب والارتزاق الذي كان ينتهجه أبو العيناء في مجالسته وصداقته للوزراء والأمراء.
ظرفاء الثعالبي
يروي الثعالبي (350-429 هـ)، الذي لُقِّب بهذا اللقب لأن والده كان فرّاء يشتغل بجلود الثعالب، وهي مهنة تدرّ أموالاً طائلةً في المناطق الباردة، فهو من سكان نيسابور، في كتابه "لطائف الظرفاء من طبقات الفضلاء"، قصةً ساخرةً يقول فيها: استعرض رجل جاريةً سوداء مليحةً، فقال لها: ما اسمك؟ فقالت: مكة، فقال: الله أكبر قد قرب الطريق أفتأذنين بتقبيل الحجر الأسود؟ فقالت: هيهات لن تكونوا بالغيه إلا بشقّ الأنفس.
لو عدنا بآلة الزمن إلى الوراء، إلى العصرين الأموي والعباسي، لوصلنا إلى نتيجة مفادها أنّ المُضحِكين والظُّرفاء، كأشعب وبخلاء الجاحظ وغيرهم في مجتمعاتنا العربية السّالفة، هم أجداد "سمعان" و"أبو نجيب"، ويحملون جيناتهم الوراثية
وفي حديث آخر، يروي الثعالبي، قال رجلٌ لمعشوقته: أعطني خاتمك أذكركِ به، فقالت: خاتمي من ذهب أخاف أن تذهب ولكن خذ هذا العود لعلك تعود.
وفي الحادثتين المذكورتين، نجد سرعة البديهة ولطافة اللفظ وانتقاء المعنى وسلاسة الإجابة.
كما يورد أقوالاً لأبي الحارث، وهو من ظرفاء العصر العباسي، وفي وصف طعام من اللحم والبيض يقول: لو كان الزماورد في القرآن لكان موضع سجدة.
وحين سُئِل، أيكسوكَ فلان؟ أجاب: لو جاءه يعقوب، والأنبياء شفعاً والملائكة ضمناً، يستعير منه إبرةً يخيط بها قميص يوسف الذي قدّ من دبر، لما أعارها... فكيف يكسوني!
كما قال له أحد أصحابه في أوائل الشّتاء، قد استوى الغني والفقير في الماء البارد. قال: لكن لم يستويا في الماء الحار.
من اليسير القول إنّ الناس في العصور الذّهبية للخلافة الإسلامية، المقترنة بانتشار الرّخاء والبذخ والرّفاه والأمان والفراغ الكبير، يميلون بشكل أكبر نحو الدّعابة والنّكتة والنّادرة والطّرفة، لتعبئة أوقات فراغهم بالترفيه والتّسلية واللهو الشّريف العفيف، بل يتعدى الأمر أعظم من ذلك، حيث يعمل البعض منهم في هذا الشّأن كأشعب وأصحابه ليشكّل لهم مصدر رزق ثابت.
وخير ما نختم به هو قول الجاحظ (159-255 هـ): "ما تركت النّادرة لو قتلتني في الدنيا، وأدخلتني النّار في الآخرة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 12 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 18 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com