عُرفت مصر بكثرة الأولياء والصالحين، الذين بنى لهم الأمراء بعض دور العبادة، تبركاً بهم وإعلاءً لشأنهم، وبدأ الناس مع مرور الزمن يأتون لزيارة أضرحتهم من جميع المحافظات، لاعتقادهم بأخد البركة منهم. لكن لم يكن الأولياء في كل الأحوال على مثل ما أشيع عنهم، ومن هؤلاء رجل يُدعى الشيخ صالح أبو حديد، بنى له الخديوي إسماعيل (1830-1895) مسجداً في منطقة السيدة زينب في القاهرة، بعدما استبشر بإشارته.
ريا وسكينة... "النسخة الرجالية"
قصة صالح أبو حديد، رواها علي باشا مبارك (1823-1893)، في كتابه الأشهر "الخطط التوفيقية"، موضحاً أن الشيخ صالح كان في مبدأ أمره قاطع طريق، وكان له صاحبان ملازمان له، أحدهما الشيخ يوسف المدفون في شارع قصر العيني (أشهر شوارع القاهرة)، وآخر لم يقف المؤلف على اسمه، لكن أوضح أنه كان يجلس في حارة درب سعادة، قرب باب الخلق في القاهرة، أمام بيت مخرّب هناك، ويرتدي زيّ الدراويش، وللناس فيه اعتقاد كبير، ويزعمون أنه من الأولياء فيتبركون به ويقبّلون يده.
لم يكن الأولياء في في مصر كل الأحوال على مثل ما أشيع عنهم، ومن هؤلاء رجل يُدعى الشيخ صالح أبو حديد، بنى له الخديوي إسماعيل (1830-1895) مسجداً في منطقة السيدة زينب في القاهرة، بعدما استبشر بإشارته
وعلى هذا الحال، كان الرجل يستمر جالساً إلى الليل، وكلما مر عليه رجل بمفرده ينادي قائلاً: "يا واحد"، فيخرج في الحال من البيت عدد من الرجال يحتاطون به ويدخلونه البيت قهراً عنه، فيقتلونه ويسلبون ما معه، واستمروا على ذلك الفعل القبيح زمناً طويلاً، في حادثة تعيد إلى الأذهان القصة التي حدثت في التوقيت ذاته داخل مدينة الإسكندرية، شمال البلاد، والتي كانت بطلتاها الشقيقتين ريا وسكينة، اللتين كانتا تستدرجان النساء وتقتلانهما.
في هذه الأثناء، شعر الضابط المراقب بما يفعله هذا الرجل وحاشيته، فأعدّ كميناً، وحرّض رجلاً على المرور ليلاً من هناك، فلما مرّ الأخير نادى الشيخ كعادته، فخرج الرجال وأحاطوا به، وإذا بالكمين قد خرج عليهم وضبطهم، ووضع يده على الشيخ ومن كان معه في البيت، وعاقبوهم عقاباً شديداً، بحسب "مبارك".
الشيخ يتعرف على صالح أبو حديد
ويؤكد عباس الطرابيلي، في كتابه "شوارع لها تاريخ... سياحة في عقل الأمة"، أن الشيخ بعد ضبطه أقرّ على صاحبيه، الشيخ يوسف، وصالح أبو حديد، وكان الأول يلوذ بـ"لاظ بك أوغلي"، الوزير الأول للوالي محمد علي باشا، ويحمل لقب "كتخذا مصر" (لقب يحمل معنى نائب الحاكم ومتصرفه)، فعفا لاظ أوغلي عن الشيخ يوسف.
وأما الشيخ المعني بكلمة "يا واحد"، فقُتل بعد تعذيبه، وفقاً للمؤلف علي مبارك، لكن الشيخ صالح أبو حديد، احتمى بمغنّية مشهورة، فادّعت أنه مجنون، ووضعت في رجليه قيداً من حديد، فأخذوه فوجدوه كما قالت، واعتقل لسانه من الكلام لشدة خوفه، وبقي على ذلك مدةً.
بعدها بفترة شاع بين الناس أن له كرامات وإخباراً بالمغيّبات (الغيبيات)، فقصده كثير من الناس، أمراء وغيرهم، واعتقدوا فيه، خصوصاً النساء، وازدحم بيته بالزوار، وهجمت عليه النذور والهدايا، وكل ذلك وهو لا يتكلم، بل ملقى على الفراش، وعليه حرام من صوف أبيض، وفي رجليه قيود الحديد، وحوله الخدم، وعند رأسه امرأة تروح عليه، وهو يحرّك رأسه، ويلعب بشفتيه، فيسمع له صوت ساذج خفي جداً، يشبه صوت الأخرس، وليس له مفهوم.
النساء في حضرة الشيخ أبو حديد
وبناءً على الصوت الخارج من الرجل، تقول المرأة للحاضرين: "فلانة ستتزوج، وفلانة ستصطلح مع زوجها، وفلانة ستحبل، وفلان الغائب سيحضر"... وهكذا، إلى غير ذلك مما عدّه صاحب كتاب "الخطط التوفيقية" من الخرافات، مؤكداً أن "كل من كان حاضراً يفهم لكلامه معنى خاصاً به من هذه الألفاظ".
ذاع صيت الرجل، واستمرت حالته هكذا إلى أن مات، فبنى له الخديوي إسماعيل مسجداً عام 1280 هـ، يحمل اسمه، وما زال موجوداً إلى الآن في منطقة السيدة زينب في القاهرة، بحسب علي مبارك، الذي يوضح السبب وراء ذلك، قائلاً: "كان للخديوي إسماعيل باشا فيه اعتقاد، واستبشر بإشارته مرةً، وحصل ما فهم من إشارته، فازداد حبه فيه، ولما مات اعتنى به".
تعيد حادثة إلى الأذهان القصة التي حدثت في التوقيت ذاته داخل مدينة الإسكندرية والتي كانت بطلتاها الشقيقتين ريا وسكينة، اللتين كانتا تستدرجان النساء وتقتلانهما.
وبحسب "الطرابيلي"، فإن الخديوي إسماعيل أوقف على اسمه جامعاً (مسجد صالح أبو حديد)، ومدرسةً تحمل اسمه أيضاً، بجوار 400 فدان، ودكاكين ومنازل ومقاهي عدة أنشأها بجوار الجامع، وجعل نظارة الوقف لديوان وزارة الأوقاف عام 1871، موضحاً: "وتحول الشيخ صالح أبو حديد، نسبةً إلى القيود الحديدية التي كانت تسلسل قدميه إلى جامع في حي الحنفي... وهو الشيخ اللص المشعوذ".
ويعلّق علي باشا مبارك على ذلك، بقوله: "وهو جامع (مسجد) عظيم لم يُبنَ لغيره من الأفاضل ذوي المعارف والعلوم، الذين انتفع الكثير بعلومهم ومعارفهم، لكن هذه عادة قديمة ألفها المصريون من قديم الزمان".
ويرى أحمد أمين في كتابه "قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية"، أن بعض الناس لا يستحقون أن يُعرفوا بـ"أولياء الله ولا الصالحين"، مستدلاً بقصة الشيخ صالح أبو حديد.
وفي هذا السياق أيضاً، انتقد علي الزهراني، في مؤلفه "الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارها في حياة الأمة"، تعظيم البعض لما يعرف بـ"أولياء الله"، قائلاً: "وصل الأمر أحياناً إلى أن يبنى على قبر صعلوك كان يقطع الطريق جامع وقبة، كما صنع الخديوي إسماعيل سنة 1280 هـ، برجل يدعى صالح أبو حديد، كان قاطع طريق، ويعمل له حضرةً كل أسبوع ومولداً كل عام".
"بشارة" سبب بناء مسجد صالح أبو حديد
لكن على عكس تلك الرواية التي ذكرها علي باشا مبارك، والمؤلف عباس الطرابيلي، يروي رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873)، الذي يُعدّ واحداً من أعلام الفكر في مصر آنذاك، في مؤلفه "مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية"، أن من بنى المسجد لصالح أبو حديد هي والدة الخديوي إسماعيل.
كان صالح أبو حديد يستمر جالساً إلى الليل، وكلما مر عليه رجل بمفرده ينادي قائلاً: "يا واحد"، فيخرج في الحال من البيت عدد من الرجال يحتاطون به ويدخلونه البيت قهراً عنه، فيقتلونه ويسلبون ما معه
يقول "الطهطاوي": "من جملة فعل الصدقات الجارية، بناء العمائر الخيرية، وكثير من الأمراء تشبثوا بذلك، ومن جملة من اجتهد في فعل الخير الجاري على الدوام ما فعلته صاحبة الدولة والعصمة والدة الخديوي الأكرم ولي النعمة (يقصد والدة إسماعيل)، فإن بناءها المسجد المنير للقطب الشهير ولي الله تعالى الشيخ صالح أبو حديد هو من أعظم الخيرات".
ونجد أن "الطهطاوي" يذكر صالح أبو حديد هنا بأنه واحد من الأولياء، ويتفق معه في هذا الطرح المؤلف أحمد الحضراوي؛ إذ يعرّفه في مؤلفه "نزهة الفكر في ما مضى من الحوادث والعبر في تراجم رجال القرن الثاني عشر والثالث عشر"، بأنه صالح أبو حديد المصري المجذوب "ولي من أولياء الله تعالى بمصر المحروسة بحارة النصرية بخط الإمام الحنفي، كان رحمه الله تعالى من أكابر الأولياء، مجذوباً عارياً، مغطى بشرشف أبيض، مصفداً بالحديد، وله دروس، يعرف كلامه، وتفهم إشارته، يجلس الشهر والشهرين لا يأكل ولا يشرب، هكذا أخبرني الثقات، وكانت له مكاشفات جلية".
وعن السبب الذي دفع والدة الخديوي إسماعيل لبناء هذا المسجد، يروي "الحضراوي" أنها قدمت إلى صالح أبو حديد قبل تولية نجلها عرش مصر تتبرك به، فأخبرها بتوليته، وأنه في الشهر الفلاني يحصل هذا الأمر، فكان كما قال، وبناءً عليه عندما توفي الشيخ سنة إحدى وثمانين ومائتين وألف، بنت عليه والدة الخديوي إسماعيل قبةً عظيمةً، وجامعاً متسعاً بميضأه تقام فيه الشعائر الإسلامية والجمع الخيرية، ورتبت له فقهاء يقرؤون عليه دائماً، وخطيباً ومؤذناً، وأخذت جملة بيوت حينئذ، وبنت له حوانيت ومساكن وأوقفتها على إقامة الشعائر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي