بخشوع وسكينة، تسير أميرة تادرس، على أطراف أصابعها نحو متحف البابا الراحل الأنبا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، في كنيسة السيدة العذراء مريم في منطقة الزيتون في القاهرة.
تصعد الدرج بهدوء متأملةً صور البابا شنودة المعلقة على جانب الحائط الملاصق، وتقرأ التواريخ بعناية والملاحظات المدوّنة أسفل كل مجموعة من اللقطات.
عاهدت السيدة الأربعينية التي تسكن في منطقة شبرا في القاهرة، وهي والدة كل من مارتينا (12 عاماً) وكيرلس (9 أعوام)، نفسها على الصلاة أمام أحد المزارات الثلاثة للبابا شنودة منذ رحيله في 20 آذار/مارس 2012، سواءً الموجود في دير الأنبا بيشوي في منطقة وادي النطرون، حيث يرقد جسده، أو في مقر رئاسته في الكاتدرائية المرقسية في العباسية، وأخيراً هذا المتحف (المزار) الموجود في كنيسة العذراء مريم.
تقول أميرة لرصيف22: "علاقتي بالبابا شنودة بدأت في سن مبكرة. كانت أمي تصطحبني كل أربعاء بعد يومي الدراسي المزدحم لنستمع إلى عظة البابا شنودة في الكاتدرائية، التي يلتقي خلالها بجموع غفيرة من الشعب القبطي المتعطش إلى هذا اللقاء؛ بعضهم قادم من الصعيد والقرى خصيصاً فقط ليستمع إلى عظة البابا ويلتقي به وجهاً لوجه، ثم يشدّ الترحال إلى بلده مرةً أخرى مهما كلّفه ذلك من مشقّة في السفر والطريق".
داخل المتحف
في البهو الرئيسي للمتحف، تجول الابنة مارتينا بنظرها بين مقتنيات البابا الذي لم تعاصره، وتسمع عنه فقط من أمها، وتسأل مريمَ، منظمة الدخول إلى المتحف عن اللفافة الحمراء المحاطة بسور حديدي، لتخبرها بأنها تحوي بعضاً من "شَعر البابا شنودة" الذي تساقط بعد إصابته بـ"مرض السماء" (السرطان). وتشرح مريم: "هنا ملابس البابا شنودة المتنوعة: 'التونية البيضاء' التي كان يرتديها داخل الكنيسة وفي أثناء القداسات (أحد أهم التجمعات الدينية الخاصة بالمسيحيين)، وهنا 'القلنسوة' وهي غطاء الرأس كله، ثم تتدلى خلف الرأس حتى الكتفين، و'البطرشيل' (صدرية مرسومة عليها صور الرسل الاثني عشر ويتم ارتداؤها في أثناء القداس فوق 'التونية'".
"كانت أمي تصطحبني كل أربعاء بعد يومي الدراسي المزدحم لنستمع إلى عظة البابا شنودة في الكاتدرائية، التي يلتقي خلالها بجموع غفيرة من الشعب القبطي المتعطش إلى هذا اللقاء، بعضهم قادم من الصعيد والقرى خصيصاً فقط ليستمع إلى عظة البابا"
وأخيراً "البُرنس"، وهو عبارة عن رداء طويل واسع بلا أكمام مفتوح من فوق إلى أسفل، وهو مزين بخيوط من الذهب والفضة، وله ألوان زاهية ويُصنع للبطريرك خصيصاً ليرتديه في المناسبات والأعياد وبعض اللقاءات الرسمية.
لفتت نظر مارتينا، قصاصات ورق مطبقة متناثرة بجانب السرير الخاص بالبابا شنودة، أخبرتها أمها أميرة بأنها طلبات لأشخاص وتوسلات لآخرين يضعونها لمن يحبونه من القديسين لكي يتشفع لهم أمام الله، لأنه سبقهم إليه. تقول: "والبابا شنودة كان قدّيساً عظيماً وحبيب ربنا... من أجل هذا يتشفع به محبّوه".
المشهد لا يختلف كثيراً في مزار البطريرك الـ116 بين بطاركة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وهو البابا كيرلس السادي الذي توفي في 9 آذار/مارس 1971.
داخل مبنى رخامي تعلوه قبة سماوية كبيرة، توجد ساحة كنيسة تسبق المزار الذي يحوي متحف مقتنياته، ومنها ملابسه الكهنوتية وصلبان من الجلد، وأدواته الخاصة من أقلام وأحذية وساعة "كاتينة"، وكل هذا مع مجسم كبير له.
يشهد المزار الخاص بالبابا كيرلس، الموجود في دير مارمينا العجائبي في منطقة كنج مريوط غرب الإسكندرية، كل عام في ذكراه، توافدَ آلاف القاصدين لنيل بركته، والدعاء أمام جسده، لا سيما أثناء طقس "التطييب" (تراتيل وصلاة تقام وسط أجواء احتفالات روحية يتخللها إعداد "حنوط البركة"، وهي مادة مستخدمة في التطييب، وهي خليط من زيوت عطرية يتم خلطها، وتُدهن فوق الأنبوب الخشبي المحتفظ برفات القديس).
وترجع أصول التطييب إلى كونه تقليداً يهودياً نُقل إلى المسيحية منذ عصورها الأولى، واحتفظت به الكنيسة لإكرام قديسيها من ناحية، وتالياً لربطها بقصة ذُكرت في الإنجيل، عن امرأة سكبت الطيب على قدمَي يسوع المسيح الذي امتدحها بقوله: "اتركوها إنها ليوم تكفيني قد حفظته"، مواجهاً من انتقدوا تصرفها ورأوا أنها من الأفضل أن تقدّم ثمن العطور الثمينة إلى الفقراء والمعوزين.
مزارات القديسين... حالة إيمانية أم سعي إلى الشهرة؟
القديس إغريغوريوس النيصي، عاش بين 330 و390 م، يردّ سبب تكريم أجساد الشهداء إلى اعتبار هذه الرُفات مصدر تهذيب للكنيسة، تطرد منها الأرواح النجسة وتأتي إليها بالملائكة، ليطلب المؤمنون ما لخيرهم، ويأخذوا منها شفاءً للأسقام، عادّاً أن هذه الأجساد ملجأ أمين للشفاعة عند الذين في شدة وكنز خيرات للفقراء والمعوزين.
فمنذ العصور الأولى صنعت الكنيسة هياكل صغيرةً تحوي أجساد شهدائها، وأطلقت على هذه الهياكل أو الكنائس باليوناني "مارتيريم Martyrium"، أي "كنيسة صغيرة لذكرى شهيد"، إلى درجة وصلت إلى ربط استحقاق المذبح، "المكان الذي تقام عليه التقدمات والطقوس الدينية"، للتكريم مع احتوائه على جزء من جسد شهيد، فكان الكاهن الذي يعيَّن على هذا المذبح يُعدّ أعلى رتبةً من أي كاهن آخر، ويطلَق عليه: "خادم شهادة".
وفي هذا يقول المؤرخ يوسابيوس القيصري الذي عاش في الفترة بين 263 و310 م، إن ملكية أي كنيسة لجسد شهيد أصبح غنى وشهرةً فائقةً، بالإضافة إلى صحة الإيمان والعقيدة، لذلك صارت الكنائس تتسابق على اقتناء هذه الأجساد الغالية، حتى أن بعض الكنائس سامت (عيّنت) أساقفةً مسؤولين عن أجساد القديسين التي تحتفظ ببركتها.
مزارات القديسين في العصر الحديث
يرصد الباحث في التاريخ القبطي، ماركو الأمين، مراحل عدة مرت بها مزارات القديسين على مدار تاريخ الكنيسة، إذ نُقلت من عادات مصرية قديمة كان يتم فيها تكريم الصالحين والشهداء بطقوس جنائزية كبيرة، مثل احتفالات مزارات آلهة الأقاليم المصرية القديمة، سوبك وآمون ورع.
القديس إغريغوريوس النيصي، عاش بين 330 و390 م، يردّ سبب تكريم أجساد الشهداء إلى اعتبار هذه الرُفات مصدر تهذيب للكنيسة، تطرد منها الأرواح النجسة وتأتي إليها بالملائكة، ليطلب المؤمنون ما لخيرهم، ويأخذوا منها شفاءً للأسقام
ويشرح لرصيف22: "الكنيسة المسيحية في مصر واجهت بعد أزمنة الاضطهاد ما يشبه إعلان كل قرية أو مدينة أو ناحية شهيداً خاصاً بها، تبني له مزاراً وتعدّ له احتفالاً شعبياً يحج إليه مسيحيون من كل حدب وصوب".
ويتابع: "خلال فترة تسعينيات القرن الماضي، ومع موجة الهجمات الإرهابية على الأقباط في مصر، بدءاً من أحداث الكُشح، بدأ ظهور تفسيرات شعبوية تهدف إلى تخدير وعي المسيحيين الذين شعروا وقتها بالهزيمة وبعدم حصولهم على حقوقهم، وكان من بينها انتشار حكايات عن معجزات عدم تحلل أجساد القديسين، ومعها دُشّنت المزارات في العديد من المناطق المتفرقة في مصر".
ويواصل الباحث ماركو الأمين حديثه قائلاً إنه بالتزامن مع حوادث جرت للأقباط من استهداف على الهوية الدينية مع تصاعد التيارات المتشددة عقب اندلاع ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير 2011، تزايدت "موضة" بناء المزارات إبان حبرية البابا تواضروس البطريرك الحالي، وبالأخص بعد أحداث عنف كبيرة شهدتها كنائس البطرسية وطنطا والمرقسية ومدق دير القلمون مروراً باستهداف وقتل 20 مصرياً مسيحياً على أيدي تنظيم داعش في ليبيا.
ويرى ماركو أن الأمر خرج من كونه احتفاءً بشهداء إلى رغبة في استعراض رجال دين لنفوذهم، ببناء مزارات في أبرشياتهم، تكلّف الكثير من الأموال والخامات عالية التكلفة من رخام ومجسمات ومساحات شاسعة، لتصبح في ما بعد وسيلةً لجذب الزوار كنوع من التجارة الرائجة البعيدة عن القيمة الروحية والهدف الديني.
وفي تقدير الباحث القبطي، أن هذه التوسعات في ما يعرف بـ"مزارات القديسين"، ستظل قائمةً ما لم تحدّها قرارات من المجمع المقدس (الهيئة العليا للكنيسة القبطية الأرثوذكسية)، بوضع عقوبات على من يخالفها وتحديد وتقنين المزارات وأعيادها والالتزام بها ومنع تقديم النذور والعطايا وإقامة الصلوات في الأماكن المغالية في المظاهر المادية أو التي لم تلتزم بالقواعد المحددة من قبل المجمع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 23 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع